الشيخان الياسينان عبد السلام وأحمد

د.مصطفى يوسف اللداوي

د.مصطفى يوسف اللداوي

[email protected]

(1)

كثيرون هم أولئك الذين سيرثون الشيخ عبد السلام ياسين، والذين سينظمون في ذكرى رحيله الأولى أعظم قصائد الشعر، وسيكتبون عنه أجمل الكلمات، وسيقولون فيه أطيب الكلام، ولهم الحق فيما يقولون، وسيطالهم الشرف فيما سينظمون من شعرٍ مدحاً به، أو إشادةً بأعماله، وبياناً لمنجزاته، وتعداداً لفضائله، وعرضاً لمآثره، واستعراضاً لدوره، وتأكيداً على أثره.

فهو رجلٌ يستحق الرثاء، ويستأهل الإشادة والمدح، وبمثله يحتفى الناس ويحتفلون، ويرفعون الرأس ويفاخرون، ويتيهون ويعجبون، فقد استحق بعمله هذه المكانة، ونال بجدارته هذه المنزلة، فارتقى بين الدعاة، وتميز بين القادة والعظماء، وتفرد بين الشيوخ والعلماء.

ويليق بنا أن نحيي ذكرى وفاته، وأن نمد في عمره بعد رحيله، بدراسة أفكاره، والتعمق في مناهجه، والتعرف على اجتهاداته، والغوص في آرائه، إذ كان للشيخ رأيٌ في كل مسألة، واجتهادٌ في كل قضية، يؤيد حيث ينبغي، ويعترض حيت تجب المعارضة، ويغوص في كل المسائل، يستنبط غرائبها، ويفند غامضها، ويحيي بقلمه الحر الجسور، ولسانه الصادق الذلق، الميت منها.

حريٌ بالأمة الإسلامية أن تجل علماءها، وتقدر رجالاتها، وتحتفل بقادتها، فهذه علائم خيرٍ وصحةٍ، ودلائل صدقٍ ووفاء، وأمارات إخلاصٍ وتجرد، ومن للأمة الإسلامية مثل الشيخ عبد السلام ياسين لتحتفي به وتحتفل، وتذكره ولا تنساه، وتحيي سننه وتتداول علومه، فقد فاض فضله في بلاد المغرب، وعمت علومه بلاد المشرق، وعرفه المشرقيون بذات القدر الذي عرفه المغربيون، وسمعوا عن دوره وجهوده، وقرأوا له واستمعوا إليه.

وكان الشيخ عبد السلام ياسين قد غرس نبتاً طيباً أصيلاً، أنبتَ وينعَ، وامتدت جذوره في الأرض وتشعبت، لتكون معه وفي عهده، جماعة العدل والإحسان، تتمسك بكتاب الله، وتدعو إلى الله بالهدى وبالكتاب المنير، وتحمل هم الأمة، وتعيش هموم الوطن، وتتطلع إلى أن يكون لها دورٌ في الإنقاذ، ومساهمةٌ في في الفوز والنجاة.

كثيرون هم أولئك الذين سيتناولون جوانب الفقه في حياة الشيخ، وهي اطلالاتٌ كثيرة، ومساهماتٌ عديدة، تحاكي اجتهادات كبار العلماء، المعاصرين والقدماء، وغيرهم سيتحدث عن كتبه ومؤلفاته، ورسائله وخطبه ونصائحه، وهي مؤلفات تفوق العمر، وتزيد على أيام حياة الشيخ، الأمر الذي جعل منه عالماً مجتهداً، وفقيهاً عصرياً متنوراً.

كما قد يتناول آخرون دور الشيخ عبد السلام ياسين في المجتمع، وأثره في الناس، ورأيه في المرأة والموسيقى والفن، والحرية والديمقراطية والحكم، أو تكوينه لحركةٍ عظيمةٍ، أصلها ثابتٌ في الأرض وفروعها التي امتدت في السماء، وتجاوزت المغرب في أثرها وفعلها، وكان لها صيتها وسمعتها الطيبة، التي صنعها خيرة المغاربة، رجالاً ونساءً، شيباً وشباباً، الذين حملوا الفكر الإسلامي الحركي الواعي المتقد، وانطلقوا به إلى باحات الأمة، وسوح الوطن، يبشرون ويعدون، بأن المستقبل لنا، وأن شمس الإسلام التي أشرقت قروناً، ستعود لتسطع من جديد، أشد نوراً، وأكثرُ بهاءً، وأعمق أثراً، وأوسع انتشاراً.

أما أنا فسأتناول جانباً آخر من حياة الشيخ عبد السلام ياسين، جانباً يخصني، وإليه يشدني، وبه يعلقني، وبفكره يقنعني، وبأتباعه يربطني، وبأصالة مشروعه يوحدني، أرى أنه الجانب الأكثر نصاعةً، وكل جوانب حياته ناصعة ومشرقة، ولكنه يبقى الجانب الأكثر إشراقاً، والأقدر على توحيد الأمة، وجمع كلمتها، ورص صفوفها.

سأتحدث عن الشيخ عبد السلام ياسين الفلسطيني قبل المغربي، وعن الشيخ المقاوم، والعالم المحرض، والمسلم الغيور، والمغربي الثائر من أجل إسلامية القدس وعروبة فلسطين، سأتحدث عن الشيح الطامح إلى العودة إلى شارع المغاربة في مدينة القدس، والمتطلع إلى الشهادة في سبيل الله من أجل فلسطين.

وسأتناول أثره في معركة الأمة الإسلامية مع العدو الصهيوني، ومساهمة فكره في تكونين عقل الأمة المقاوم، وتحصين فكرها الثابت، وتأصيل عقيدتها الصلبة، وذلك من خلال دراسة مقارنة بين الشيخين العظيمين، والمؤسسين الكبيرين، والعالمين الأجلين، والياسينين العلمين، الشيخ الجليل عبد السلام ياسين، والشيخ الشهيد أحمد ياسين، الشيخ المغربي والشيخ الفلسطيني.

ولعل مساهمتي في الذكرى الأولى لغياب الشيخ عبد السلام ياسين، تأتي في الذكرى السادسة والعشرين لإنطلاق حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي أسسها أخوه ورفيق دربه في هذه الدعوة الشيخ الشهيد أحمد ياسين، الأمر الذي يجعل من الربط بينهما منطقياً، لا لجهة الاسم فقط، ولا لاشتراكهما في الدعوة، واتفاقهما على القضية، بل لمناسبة الذكرى العظيمة أيضاً، وهي ذكرى عزيزة على الأمة، وذات أثرٍ كبيرٍ عليها، وهي عزيزةٌ على الشيخ عبد السلام، وكانت عظيمةً عنده، وبقيت على مكانتها عند أتباعه، ولدى خلفه الصادق من بعده، وبقيتا من بعدهما صنوان، جماعةٌ وحركة، في المغرب وفلسطين، جماعة العدل والإحسان، وحركة المقاومة الإسلامية "حماس".

(2)

قدرُ الاسم قد جمعهما، وإرادةُ الله قد وحدت هدفيهما، فهذا عبد السلام ياسين، وذاك أحمد ياسين، مغربيٌ في أقصى الوطن العربي، وفلسطينيٌ في أقصى المشرق العربي، عالمان جليلان، ومربيان فاضلان، وأستاذان قديران، ومؤسسان عظيمان.

الشيخ عبد السلام القدير تجربةً، والعظيم علماً، والواضح سلوكاً ومنهجاً، بدأ دعوته في المغرب، متحدياً الظروف الصعبة، ومواجهاً الإرادات القوية، والسلطات الحاكمة.

وأحمد ياسين بدأ في غزة، وهي تحت الإحتلال، تعاني من قيد السجان، وأغلال الاعتقال، وممارسات الكيان الصهيوني القاسية، ولكنه تجلد وتحمل، وصبر وتأنى، حتى كانت النتيجة التي كان إليها يتطلع.

كلاهما أسس تنظيماً قوياً، وأرسى قواعد عملٍ أصيل، فكانت للأول جماعة العدل والإحسان، الصوفية الحركية، والسياسية التعبدية، وكانت للثاني حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، كلتاهما، الجماعة والحركة، أصبحتا ملء سمع الدنيا وبصرها، قد ذاعا شهرةً، وامتدا نجاحاً، وتغلغلا عملاً وابداعاً.

ولعل اليوم يصادف الذكرى السادسة والعشرين لانطلاق حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، التي أطلق شرارتها من قطاع غزة، إلى فلسطين كلها، وإلى الأمة العربية والإسلامية، سماحة الشيخ الشهيد أحمد ياسين، وها هي حركته من بعده أقوى مما يتوقع، وأكثر اتساعاً مما ظن وتخيل، وأعمق امتداداً وأثبت وأكثر رسوخاً من قدرة العدو على استئصالها والنيل منها.

ولعلني لا أبالغ كثيرا،ً ولا أذيع سراً خطيراً، إذا قلت أن لجماعة العدل والإحسان دورٌ كبيرٌ في هذه الحركة، ومساهمةٌ عظيمةٌ في انطلاقها واستمرارها، إذ ما تأخرت يوماً هذه الجماعة وأبناؤها عن دعم حركة حماس واسنادها، فقد أعطت من حر مالها، وقدمت دعماً لها الكثير مما تملك، ولم تبخل عليها بجهدٍ ولا بنصحٍ ومال، فنظمت المسيرات تضامناً معها، ونصرةً لقضاياها، وعقدت المهرجانات والاحتفالات إحياءً لمناسباتها، ووفاءً لشهدائها، وسيرت القوافل نصرةً لغزة، وتضامناً مع أهلها، ومساهمةً في رفع الحصار عنها، ما جعل جماعة العدل والإحسان، امتداداً لحركة حماس، ومواصلةً لدورها الجهادي، وهو الذي جعل من حماس امتداداً لعمق المغرب، وتواصلاً معه.

كلاهما مجددٌ في بلاده، وباعثُ دعوة الإسلام من جديدٍ في أوطانه، قد أحسنا الدعوة، وتميزا في نقل الفكرة، وجاهدا في الدعوة إلى الله، وتحملا الصعاب والشدائد، وتحديا الخطوب والمحن، ولكن إيمانهما بالله كان غالباً، ويقينهما بدعوتهما كانت عظيمة، فقدر الله لهما النجاح في مهمتهما، والفلاح في مسعاهما، وما أصابهما القنوط، ولا حل بهما السأم، ولا سيطر عليهما التعب، ولا هيمن عليهما اليأس.

بل انطلقا بهمةٍ وحيوية، يعملان في كل الأوساط، ووسط جميع الصفوف، فكان لهما عظيم الدور بين الأساتذة المربين، والمتعلمين من الأطباء والمهندسين والمحامين وغيرهم من حملة الشهادات، ولم ينسيا العمال ولا الفلاحين، ولم يهملا الطلاب ولا التلاميذ، بل انتشرا بين جميع الطبقات، ونشطا في كل الاتجاهات، حتى قدر الله لهما النجاح الذي نحتفي به اليوم، وتتغنى به أجيالنا غداً.

قد آمنا بالإسلام ديناً وعقيدة، ومنهجاً وطريقاً، وقائداً وموجهاً، وأحسنا الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى بالحسنى والموعظة الحسنة، ولم يفرطا في شئٍ من دينهما، ولم يساوما على حقيقةٍ من إسلامهما، ولم يضيعا حقاً، ولم يسقطا فرضاً، ولم يهملا من الإسلام ركناً صغيراً أو كبيراً.

وكانا على يقينٍ بالنصر، وتسليمٍ مطلقٍ بقدر الله لهما ولدعوتهما بالتمكين، فهما يسيران على هدي المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، يقتدون به، ويتأسون بسيرته، والذي نصر نبيه، هو ناصرهم وحافظهم، وهو الذي يرعاهم ويكلأوهم، وهذه كانت لديهما عقيدةً وإيماناً، لم تزعزعها الخطوب، ولم تضعفها المحن والابتلاءات.

وقد آمن الشيخان بأن الخير في أمتهما، وأن المستقبل لدينهما، وأن وعد الله سيتحقق، ونوره الذي بدأ سيتواصل، ورسالته التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستعم العالم، وستنتشر بين الخلق، فلم يشكا في إيمان الأمة وخيريتها، ولا في أفضليتها ولا وسطيتها، فهي التي نص عليها الله سبحانه وتعالى في كتابه.

عملا للأمة ومعها، من أجل الأهداف المرجوة، والغايات المأمولة للعرب والمسلمين معاً، ووظفا قدرات الأمة كلها، واستفادا من أبنائها، وسخرا كلَ من يستطيع أن يقدم ويساهم، فلم يعزلا أحداً، ولم يستثنيا طاقة، ولم يستبعدا جهداً، ولم يقاطعا مجتهداً، بل استفادا من كل المقدرات، واستوعبا كل الألوان والطاقات والكفاءات، ليكون للجميع دورٌ في اسنتهاض الأمة، وتحقيق أهدافها التي تتطلع لها.

آمن الرجلان بأن الأمانة الملقاة على عاتقهما كبيرة، والمهمة التي يسعيان إلى تحقيقها شاقة، فالمغرب بحاجةٍ إلى جيلٍ جديد، يتجاوز الإرث القديم، ويتخلص من المعوقات الموروثة، ويكون قادراً على القيام بالمهام الموكولة إليه، وهذه المهمة ليست سهلة، فهي تتعلق بالنفوس والقلوب، وتتعامل مع الأمزجة والأهواء، والطبائع والتقاليد والعادات، وقد أثر الاستعمار في الناس، وترك آثاره عليهم، سلوكاً وفهماً واعتقاداً، الأمر الذي جعل المهمة صعبة، والتحدي كبير.

وكذا الشيخ أحمد ياسين الذي أدرك أن مهمته في فلسطين أصعب مما يتوقع، وأخطر مما يعتقد، فهو يواجه احتلالاً صهيونياً غاصباً خبيثاً وماكراً، قد تغلغل وسط الصفوف، وأثر في الناس، وربط بعضهم، وتعامل مع آخرين، وتعاقد على تغيير سلوك الشعب، وحرفه عن مساره ومعتقداته.

ولكن الشيخ أحمد ياسين الذي تسلح بالإيمان، وتزنر بالإسلام، كان أقوى من خبثهم، وأصلب من مكرهم، فمكنه الله عليه، وأنبت غرسه، وقوى عوده، ومد فروع حركته في أرجاء الأمة.

قد وفقهما الله في الدعوة والحركة، فنجحا معاً، وتجاوزا الصعاب وكأنهما معاً، وأخرجا للأمة أجيالاً ربانية، نورانية بالحق الذي تحمل، ومحمدية بالإسلام الذي تؤمن، فكانت أحيالٌ مختلفة، لا تعرف الخوف ولا الجزع، ولا تؤمن بالمستحيل، ولا تقف عند الصعاب، بل تؤمن بالوعد الإلهي وتعتقد به، وتعمل لأجله وبمقتضاه.

(3)

تميز الشيخان عبد السلام وأحمد ياسين بقدراتٍ قيادية عديدة، ومؤهلاتٍ عالية، مكنتهما من المشاركة في قيادة المرحلة، والمساهمة في عملية النهوض الإسلامي الكبير الذي شهدته المنطقة، فكلاهما أتقن فن مخاطبة الجماهير، وحسن التعامل معها، وأبدعا في عرض أفكارهما على الناس، فكانا مقنعين وشيقين، وصادقين ومخلصين، ومنفتحين ومقبلين، أحبهما الناس، وصدقا كلامهما، وآمنا بدعوتهما، وكانوا معهما جنوداً في دعوتهما، في الجماعة والحركة على السواء، مستلهمين الصدق من رائد الدعوة الأول، رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أدرك الشيخان حاجة الأمة إلى النهوض من كبوتها، واستعادة دورها، والإنطلاق بهمةٍ وقوةٍ من جديد، فقد أصاب الأمة الإسلامية الوهن، واعتراها الضعف، وحل في جوانبها خللٌ واضطرابٌ كبير، وتناوشها الأعداء، واعتدوا على سيادتها، ونالوا من كرامتها، وسرقوا خيراتها، وغزوا عقول شبابها، وحرفوا أجيالها، وغيروا مسار الأمة، وجعلوا منها تابعاً ذليلاً، وخادماً خائفاً، ما استدعى تغيير الحال، ومواجهة الواقع، والتصدي للمتآمرين على الأمة، ولم يكن إمكانية لذلك، سوى أن يرفعا لواء استنهاض الأمة، وبعثها من جديد، فكما كانت دعوتها واحدة، فقد كان مشروعهما واحد، وهدفهما واحد، وغايتهما واحدة.

لكنهما أدركا خطورة المرحلة، وشدة التحديات، وصعوبة الظروف التي تعيشها المنطقة، ففي الغرب محاولاتٌ مستميتة لتغريب الأمة وإبعادها عن دينها، وإلحاقها بركب الغرب، والتشبه بالأوروبيين، والارتباط بالفرنسيين تحديداً، وفي الشرق احتلالٌ واغتصابٌ وسجونٌ ومعتقلاتٌ، وقتلٌ وطردٌ وإبعاد، فلم يأبه الرجلان إلى الخطورة التي تكتنف مهمتهما، ولم يستسلما لنصائح التثبيط، ودعوات الاستسلام، كما لم يخضعا للتهديد والوعيد، ولم يخافا من بطشٍ وقوةٍ وإرهاب، بل مضيا بيقين، وتحديا بعزم، وانطلقا بقوةٍ، بإرادةٍ صادقةٍ، وعزمٍ أكيد، وتحدي صارخٍ لا يعرف المستحيل، ما جعل دعوتها قوية، وتنظيمهما الجماعة والحركة، من أقوى التجمعات الإسلامية وأقدرها، مستمدين الانطلاق من إرادة الشيخين التي لا تعرف سبيلاً غير الثورة والانعتاق.

الشيخ عبد السلام ياسين محاصرٌ وممنوع من حرية الانتقال والسفر، وتفرض عليه إقامةٌ جبرية، ويمنع الناس من زيارته، والجلوس معه، والاستماع إليه، ويضيق عليه في وسائل الاتصال، وسبل التواصل مع المواطنين، والشيخ أحمد ياسين، محاصرٌ ومعتقل، وسجينٌ ومعزول، لا يتصل بأحد، ولا يراه غير مساعديه، وفي بيته تفرض عليه الإقامة الجبرية، ويعتقل كل من يتصل به أو يحاول زيارته.

كما لم تكن الأرض ميسرة أمام الرجلين، ولم تكن الطريق لهما معبدة، ولم تكن الظروف التي يواجهونها ميسورة، ولم يكن قبول الناس للأفكار التي يحملونها سهلاً، فالحريات في المغرب كانت مقيدة وصعبة.

لكن الشيخ عبد السلام ياسين تحدى القوانين، وواجه الإجراءات، وانتصر على العزل، وهزم الإقامة الجبرية، وتجاوز بصوته الحدود والموانع، وحقق ما يريد رغم صعوبة ما يواجه.

أما الشيخ أحمد ياسين فقد انتصر على مرضه، وهزم شلله، وانطلق كالمارد العظيم من على كرسيه المتحرك، الذي أصبح للعالم رمزاً، وللأمة مثالاً، يظهر انتصار الإرادة على العجز الجسدي، والإعاقة الصحية.

وقد واجه الشيخان حقداً وكرهاً واحداً، إذ حقد عليهما المرجفون والكارهون، والسيئوون والمنافقون، والحاسدون والمنافسون، وتمنى هلاكهما أعداء الأمة، والمناؤون لهذا الدين، فقد كانا خطراً على الطرفين، إذ هدهدا مشروع الآخرين، وعرضا مخططات العدو للخطر، فحسدهما بعضٌ من أبناء جلدتهما، وتآمر عليهما الأعداء ليقتلوهما أو يثبتوهما أو ينفوهما من الأرض.

ولم تخلُ حياة الشيخين الشخصية والدعوية من المحن والابتلاءات، فعلى المستوى الشخصي ضيق عليهما، وحبست حريتهما، وابتلي الأول بغربةٍ في بلاده، وعزلٍ له عن أهله وأحبابه، في محاولةٍ لكتم صوته، وحجب نوره، ومنع خيره من الوصول إلى الناس، وابتلي الآخر بعجزٍ وشلل، ومعاناةٍ دائمةٍ أبد الدهر، فضلاً عن السجون والمعتقلات التي طال بقاؤه فيها، واستمر حبسه رغم ظروفه الصحية، ووضعه الجسدي.

أما رجالهما وأتباعهما فقد ابتلاهم الله وامتحنهم، فزج بالكثير منهم في السجون والمعتقلات، وحكم عليهم بالسجن عشرات السنوات، وإن كانت محنة الأول أقل، وابتلاء أتباعه في بلاده أخف، إلا أن ما تعرض له لا يبرر، وهو أمرٌ مستغربٌ ومستنكر، وليس له ما يشرعه أو يبيحه، كونه قد صدر عن سلطاتٍ وطنية، وليس كأخيه الذي كان يعاني من سلطات احتلال.

ولم تكن حياة الشيخين حياةَ رغدٍ وترف، ولم يعيشا بين الناس كالملوك والأمراء، بل كانوا جزءاً من الشعب، وقطعةً منه، عاشوا بينهم، وتعاملوا معهم، وأكلوا طعامهم، وشربوا مما يشربون، ولبسوا مما يلبسون، ولم يميزوا أنفسهم عنهم في شئ، ولم يعيشوا بعيداً عنهم، معزولين أو مفصولين عنهم، بل كانت بيوتهم متواضعة بسيطة، تتوسط بيوت الناس وتتشابه معها ولا تختلف عنها، لم تغيرها المسؤولية، ولم تبدلها الأمانة، فلا شئ فيها يميزها، أو يجعلها تختلف عن بيوت العامة، أو تتشابه مع بيوت المسؤولين والحكام، فلا أثاث فخم، ولا متاع ثمين، ولا زينة ولا تفاخر، ولا زخرف ولا نمارق.

وقد رحلا عن الدنيا مودعين أمتهما وهم فقراء بسطاء، إذ لم يكونا أثرياء ولا أغنياء، ولا أصحاب مالٍ ولا جاه، فلم يورثوا خلفهم مالاً كثيراً، ولا ملكاً عريضاً، ولا إرثاً كبيراً، بل ورثوهما أمانةً وعهداً، وسيرةً عبقةً، وماضياً طاهراً نظيفاً، ملؤه العطاء بالمال والنفس، وتضحياتٌ بأعز ما يملكون، وأنفس ما يحوزون، فكان إرثهما لخلفهما ثقيلاً، ولمن بعدهما متعباً ومرهقاً، أضنى خلفهما، وأتعب من مضى على عهدهما، وأقسم أن يواصل طريقهما، وأن يتبع نهجهما.

(4)

أدرك الشيخان عبد السلام وأحمد ياسين صعوبة الظروف التي يعيشونها، واستثنائية المرحلة، وخبث الأعداء وتربصهم، وحجم الأعباء الموجودة، فضلاً عن قيود السلطات، ومحددات الدولة، فلم يستسلما لكل هذه العراقيل، بل اجتهدا وأبدعا، وفكرا وتميزا، ولم يعتمدا في عملهما على الطرق التقليدية، والوسائل القديمة المعروفة، وإن كان للقديم أثر، وللموروث قيمة، إذ كان لهما إلى جانب الخطب وجلسات الوعظ، وحلقات النقاش والفكر، والحوار والدراسة، كتبٌ ومؤلفات، وسلاسلٌ فكريةٌ منهجية، تعنى بمختلف جوانب الحياة التي تهم المواطن في بلده، والمسلم في أمته.

ولعل الشيخ عبد السلام ياسين قد توغل عميقاً في الفكر والفقه، فألف عشرات الكتب، وتناول فيها العديد من الموضوعات، وتصدى لمواجهة التحديات، وصد الهجوم، وتفنيد التهم والأباطيل التي تروم بالأمة، فكانت له كتاباتٌ عن الديمقراطية والمرأة والاقتصاد والفكر الإسلامي، وغيرها من العناوين الهامة، التي تحفظ له، وتذكر عنه، وعلها تكون في ميزان أعماله يوم القيامة.

كما وجها أتباعهما نحو دراساتٍ معينة، والاهتمام بمجالاتٍ مطلوبة، فكانت بعثاتٌ علمية، ورعاياتٌ ثقافية، وتمويلٌ لمنحٍ دراسية، ومساهمة في بناء مؤسساتٍ تعليمة، وصروحٍ علمية، ونوادٍ رياضية، وغيرها مما يحتاجه الوطن، وتطلبه الأمة، مما يخدم المشروع الإسلامي، ويحقق الغايات المطلوبة.

كلا الرجلين كان مصيرهما واحداً، وإن تباين الشكل، إذ كان المقصود إخماد أصواتهما، وإنهاء فعاليتهما، وتغيبهما عن الساحة، منعاً لتأثيرهما، وحرصاً على التقليل من فعاليتهما، والحد من آثارهما في المجتمع، فإن كان الأول شيخٌ داعية، ومربي أجيال، وموجه فكر، فإن الثاني كان قائد ثورة، ومؤسس حركة، وداعية جهاد، ورائد مقاومة، فالأول اغتالته إجراءات الحصار والإقامة الجبرية، ومحاولات التكميم، وكتم الصوت، والثاني نالت منه أباتشي إسرائيلية بصواريخها فقتلته.

لا يعني أن الرجلين قد غابا عن الأنظار، ووريا التراب، أن دعوتهما قد انتهت، وأن فكرهما قد خبا، وأن أتباعهما قد تفرقا وتبعثرا، وأن أثرهما في المجتمع قد زال، ولم يعد لفكرهما أثر، ولا لدعوتهما وجود، بل عكس ذلك هو الكائن، ونقيضه هو القائم، فجماعة العدل والإحسان تزداد وتكبر، وتتعمق وتتسع، ينتمي إليها الجدد، ويتمسك بفكرها القدماء، ويضحي في سبيلها الأبناء، ويعطي من أجلها كل الأتباع.

أما حركة المقاومة الإسلامية "حماس" فإن غياب الشيخ أحمد ياسين، قد فجر فيها ثورة قيادة جديدة، قوية وثائرة، عنيدة وصلبة، تتمسك بالثوابت، وتحافظ ولا تفرط، وتقاوم ولا تستلم، وتقاتل ولا تعترف بالهزيمة، ولا تقر بواقع الحال، ولا تعترف بقوة العدو وتفوقه، ولا تعترف بوجوده، ولا تقر بكيانه، وقد أقر الإسرائيليون أنفسهم أن القادة الجدد أشد مراساً وأكثر عناداً من سلفهم، وأنه يصعب التعامل معهم، أو التأثير عليهم.

رحم الله الشيخين العظيمين، وأسكنهما فسيح جناته، وتقبل منهما عطاءهما وجهادهما، وجعله في ميزان حسناتهما، وجمعهما معاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام، وشهداء أمة الإسلام العظام، وجمعهما بأحبتهما من أبناء جماعتهما، ممن سبقوهما وهم على العهد والدرب، ومضوا وهم يحملون الوعد، فلم ينكثوا عهداً، ولم يفرطوا في أمانة، ولم يبدلوا تبديلاً.

وحفظ الله من بعدهما دعوتهما، وجعلها براً بهما ماضيةً بيسر، ومنطلقةً بأمان، فلا محن ولا ابتلاءات، ولا صعاب ولا تحديات، بل رفعةً وتقدماً، ونجاحاً وتوفيقاً، فهي دعوةً لله، تبغي وجه، وتعمل لأجله، وتبتغي فضله، وتسعى إلى رضاه، وتتمسك بهداه، وتمضي بها على نهج رسول الله.

وحقق الله أمنيتهما، عدلٌ وإحسانٌ في مغرب الأرض، ومنه ينطلق إلى مشارق الأرض ومغاربها، يحققون به وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عدلٌ يسود بين الناس، يحكم به أولو الأمر بالسوية، ويطبقون نهج الله العلي القدير عدلاً وفصلاً، وإحسانٌ يكون سمة التعامل بين الخلق، فلا ظلم ولا قهر، ولا اعتداء ولا انتهاك، ولا حقد ولا حسد، ولا ظلم ولا جور، بل صدقٌ وعدل، وسماحةٌ ولين، وطيبةٌ وخلق، وشهامةٌ ونبل، وصفاءٌ وإخاء.

وحقق الله أمنية الياسين الآخر بتحرير أرضه، وعودة شعبه، وتمكين أهله، وهزيمة عدوه، وطرده من بلاده، لتقوم في فلسطين دولةً تقيم العدل، وتنصف الخلق، وتحقق أمنيات الأمة، وتعوض التضحيات التي بذلت، وتكرم المجاهدين الذين أعطوا وبذلوا، وأكرمه الله بوحدة شعبه، واجتماع كلمة قواه وتنظيماته، واتفاقهم على كلمةٍ سواء، تكون خيراً لهم، ورخاءً على شعبهم، وناراً لاهبة على عدوهم.

وجزى الله من حمل الراية من بعدهما، وواصل المسيرة، وتصدر لتحمل الأعباء، والتصدي للصعاب، والمضي بالأمانة طاهرةً نقية، كما تسلموها من الشيخين، ليسلموها بدورهم لمن بعدهم، ليواصلوا المسيرة، ويعلوا الراية التي يرفعون، ويصدحون بالحق الذي يؤمنون.