شخصية الشهيد عزالدين القسام في الشعر الإسلامي المعاصر

الشهيد البطل عز الدين القسام يعدّ أحد رواد مدرسة التجديد الإسلامي ، ورائد "الإسلام الحركي" في فلسطين ، أخذ حظاً وافراً من الدراسة بشأن ثورته واستشهاده، ولكن معظم الدراسات لا تتناول رؤاه الفكرية ولا التنظيم الجهادي الذي أنشأه ، كما لا تتناول الدور الكبير لرفاقه القساميين في الثورة الكبرى في فلسطين في الفترة بين 1936 و1939. بينما حظيت المدارس الإسلامية الحركية لمعاصريه أمثال محمد رشيد رضا ، وحسن البنا ، وبن باديس ، وعمر المختار ، والمودودي.. وغيرهم، بما يليق بها من اهتمام.

ومن الأبحاث المحدودة التي حاولت إنصافه في هذا المجال دراسات سميح حمودة، وعبد الله شليفر، ورودلف بيترز.. وكذلك الدراسة التي تناوله بها الدكتور محسن صالح في كتابه "التيار الإسلامي في فلسطين 1917-1948".

لن تستطيع سطور هذا المقال، الذي نخطّه وفاء لهذا الشيخ الجليل، تغطية كل الجوانب ولكنها قد تضع بعض النقاط على الحروف.

أولى هذه النقاط مرتبطة بتكوينه الشخصي ، فالقسام جمع إلى جانب قوة إيمانه فقها وفهما شاملاً للإسلام ، وذكاء وقدرة على التنظيم ، وشجاعة واستيعابا للواقع ، وشخصية اجتماعية شعبية محبوبة، ورصيدا كبيراً في العمل الجهادي والدعوي. ولعل أقرب الدعاة إلى شخصه وفهمه كان الشيخ حسن البنا، وإن كان مشروع القسام تمحور حول العمل الجهادي المقاوم بسبب مواجهته المباشرة للمشروع الصهيوني في فلسطين.

وبعد خمسة وسبعين عاماً من استشهاد الشيخ عز الدين القسام ، وبعد أن قدم المثقفون العرب الكثير عن حياته ، أورد هؤلاء الكتّاب الشعر والأدب في عصر الشيخ القسام ، لكنهم لم يقرأوه بعين النقد ، فجاء ذكر الأدب والشعر واستخدامهما في حركته عارضاً.. غير أننا لا نستطيع المرور كراماً على هذا الجانب..

لماذا ...؟

لأن الفن والتراث الشعبي كان متغلغلاً في فلسطين التي يمثّل الفلاحون أكثر من 70% من سكانها، وحيث لا يستطيع أن ينكر أحد تأثير الأغنية التراثية في حياة هؤلاء الفلاحين الذين اجترحوا الأغنية والنشيد والترويدة والردة والدحّيّة والسحجة والدلعونا والجفرا من يوميات عمل الفلاحين والرعاة..

ولقد أدّت الأغنية الفلسطينية دوراً أساسياً في تحفيز الثوار والمواطنين على الثورة مع القسام الذي أجج استشهاده (21/11/1935) الثورة العربية الكبرى بعده (1936-1939).

في العشرين من تشرين الثاني من سنة 1935، ارتقى الشيخ عز الدين القسام شهيداً على أرض فلسطين، في أحراش يعبد، بعد معركة كبيرة مع قوات الاستعمار البريطاني..

وهذه المقالة المتواضعة تعيد الحياة إلى دور الشعر والثقافة في حركة القسام ، إنها تذكرة للمؤمنين وتحية للمجاهدين الصامدين ، نعرج فيها سريعاً على حياته المليئة بالجهاد والحماس والمقاومة..

مع الشعراء:

لم يكن يخفى دور الشعراء العاميين في التأثير على الفلسطينيين، بل كانت أبيات الزجل تنتشر في أسماع الناس أكثر من الإذاعات وعلى ألسنتهم أسرع من الأغاني. وكان الشعر الشعبي هو وسيلة الإعلام الأقوى، حيث كان بعض التجار في تلك الفترة يستخدمون شعراء الزجل للإعلان عن بضاعتهم.

وقد ساهمت هذه الأشعار في تأجيج الثورة في فلسطين، فهذا «عوض» المحكوم عليه بالإعدام أيام الانتداب البريطاني، يخطّ على حيطان زنزانته في ليلته الأخيرة، قصيدة زجلية ما زالت إلى يومنا هذا من أبرز الأناشيد والمواويل الفلسطينية:

يا ليل خلّ الأسير تيكمّل نواحو

رايح يفيق الفجر ويرفرف جناحُو

تيمرجح المشنوق في هبّة رياحو

يا ليل وقّف تاقضي كل حسراتي

يمكن نسيت مين أنا ونسيت آهاتي

ياحيف كيف انقضت بيديك ساعاتي

شمل الحبايب ضاع وتكسّروا أقداحو

لا تظن دمعي خوف دمعي ع أوطاني

وعكمشة زغاليل في البيت جوعاني

مين راح يطعمها بعدي، وإخواني

شباب اثنين قبلي ع المشنقة راحوا

وهذا الشاعر فرحات سلام يندد بوعد بلفور الأثيم أمام مجلس الجامعة العربية، عندما كان عبد الرحمن عزام باشا أميناً عاماً لها، بزجل صار يُغنى في الأعراس:

إن كان بلفور يجهل قيمة الأوطان

إحنا بأرواحنا نفدي أراضينا

نبيع أرواحنا بأبخس الأثمان

حقاً على الله ينصر المؤمنينا

يا مسجد الأقصى افرح لا تكن حزنان

لبيك لبيك هذا الزمان نادينا

حولك تلاقي بواسل بالحرب شجعان

نسقي إلى الأعداء زقوماً وغسلينا

ثم ما لبث أن برز شعراء الحركة القسامية، ولم تعد أغاني الأعراس تقتصر على الوصف الحسي أو الغزل أو أغاني الحب والعشق بل صارت كما صورها أحد الشعراء لاحقاً:

كنا نْغني في الأعراس جفرا، عتابا ودحيّة

واليوم نْغني برصاص عالجهادية الجهادية

وترددت في سماء البطولة قصائد الجهاد والشهادة ، تستحث خطى الثوار وتغنيهم بما يليق ومقامهم الأرفع، وذلك عبر أغاني التراث كما في «زريف الطول»:

يا زريف الطول وارسم يا رسّام

صورة لفلسطين وصورة للقسام

وعيون الثوار والله ما بتنام

نصر يا استشهاد هذا شعارنا

لقد أدرك القسام أهمية الدور الذي يؤديه الشعراء في فلسطين قبل انطلاق حركته، ونحسب أنه حصل إثر عملية الإعدام الشهيرة التي نفذها الاستعمار في 17 حزيران 1930، في ساحة سجن عكا، الإعدام الذي شمل بالشهداء الثلاثة محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير (وهم ممن كان يحضر دروسه في جامع الاستقلال).. فألقى القسام خطبة نذيرية دعا فيها إلى اليقظة والجهاد والانتقام للشهداء.. وأبكت خطبته الناس وحمّستهم، غير أن أحداً من الناس لم يحفظها كما حفظوا حتى اليوم قصيدة نوح إبراهيم:

من سجن عكا طلعت جنازة

محمد جمجوم وفؤاد حجازي

ولعل القسام أدرك أهمية تأثير هذه القصيدة على الجمهور، فاستعان بالشاعر نوح إبراهيم، الذي أصبح بعد استشهاد القسام أحد قادة الثورة واستشهد في عام 1938، بعدما رافق القسام في معظم مراحل ثورته، وكان المروّج الإعلامي للمواقف القسامية، وأشعاره تؤرخ ليوميات الحركة الاحتجاجية الفلسطينية في تلك الفترة.

ومما يروى عن اعتماد القسام على شعره أنه في إحدى العمليات المهمة التي نفذها أحد أعضاء جماعته، عرف البريطانيون أن منفذ العملية فلاح يعتمر الحطة والعقال، فصدر الأمر باعتقال كل من يعتمر هذا الغطاء.. ومن المعروف أن كل حركة القسام لم تضم أغنياء أو مثقفين، رغم صداقته وقربه من عدد منهم كرشيد الحاج خليل وأحمد الشقيري وغيرهم..

وقد ضاقت الأمور على الفلاحين الفقراء في تلك الفترة، فقام الشاعر نوح إبراهيم بالترويج لاعتمار الحطة والعقال، حين أطلق أغنيته الشهيرة:

حطّة وعقال بعشر قروشْ

والنذل لابس طربوشْ

وبدأ الثوار ببيع الحطات للناس، ثم درج بيعها بشكل كبير، وانتشرت بين «الأفندية» أيضاً، وخاصة أن سمة العمالة ارتسمت على من يعتمر الطربوش..

رثاء شعراء فلسطين للقسام:

ذاع نبأ استشهاد عز الدين القسام ، وعرف الناس بوجود العصبة القسامية المجاهدة ..عندئذ استبشر الناس خيراً ، وحلَّ الرجاء محلَّ القنوط ، وألقى حدث الشهادة والشهداء ظلاله على الأدب والشعر ، ولم يكن خبر استشهاد القسام ورفاقه خبراً عادياً، فقد صدرت الصحف العربية في فلسطين تحمل الخبر في العناوين الرئيسية..

ففي صبيحة يوم 22/11/1935 خرجت صحيفة الجامعة العربية بالعناوين الآتية:

-حادث مريع يهزّ فلسطين من أقصاها إلى أقصاها..

-معركة حربية حامية الوطيس تنتهي بمقتل خمسة أشخاص وجندي إنكليزي..

-شخص يقتل خطأ.. بلاغ من الحكومة عن الحادث.. المصاحف في جيوب الشهداء.. شماتة الصحف اليهودية..

-جنازة حافلة للشهداء في حيفا، وبرقيات التعزية.. وفود فلسطين.. الحكومة تأسر خمسة أشخاص وتحقق معهم..

وفي الأعداد التي تلت هذا العدد من الصحف الفلسطينية، كانت تصدر القصائد الرثائية في الشيخ القسام ورفاقه ، فقلد أوحت تلك المناسبة إلى الكتاب والشعراء ، وهيجت خواطرهم ، فسجلوا ما يمكن أن يؤرَّخ به لهذا الفجر الجديد . وأثبت هنا مقتطفات تدل على عظمة المناسبة ، وقدسية الشهادة ، والشهيد ، حيث عدَّ عز الدين القسام المَثل الأعلى للجندي الذي تتطلع إليه الأمة العربية والإسلامية....

-ففي 25/11/1935، صدرت أولى قصائد الرثاء في الشيخ الشهيد في جريدة الجامعة الإسلامية، وهي قصيدة «شهيد فلسطين» أطلق شاعرها على نفسه لقب «الصارخ» ..

-وقصيدة أخرى بعنوان «شهيد الوطن الخالد» الشيخ عز الدين القسام ، للشاعر واصف عبد الرحمن من نابلس، نشرها في 27/11/1935، ويقول فيها:

نفس حرٍّ عافت كؤوس الهوان وأبت ْ أن تفرَّ يوم َ الرهان ِ

زهدت ْ في الحياة وهي هوان ٌ ومشت ْ للخلود للرحمن ِ

تحملُ المصحف َ الشريف مناراً لينير السبيلَ للركبان ِ

هلّلت ْ للرّدى وسارت ْ إلى الهول تهادى تهاديَ الفرسان ِ

سعدت ْ عصبة ٌ هداها كتابٌ ومشتْ تحت َ راية القرآن ِ

ألف مرحى لها تسيرُ إلى الموت لإنقاذ هـــــذه الأوطان ِ

فهو يصور نفس الشهيد الحرة التي ترفض الهوان ، وترفض الهزيمة يوم اللقاء ، فروحه زاهدة في حطام الدنيا ، تركض إلى الله بغير زاد ، إلا التقى وعمل الرشاد ، فهو يحمل المصحف بيده ليجعله دليلاً له في طريق الجهاد ، ثم راح يمجد الشهيد عز الدين القسام ، ويعدد سجاياه الحميدة ، فيقول:

يا شهيد البلاد يا شارة المجدِ لقد حُزت َ جنّة َ الرضوان

أنت َ رمز ُ الجهاد وأنت َ فتى النهضة أنت َ القادح النيران ِ

لم تمُـــتْ لا وربّك المتعالي أنتَ باق ٍ حيٌّ على الأزمان ِ

ستظلُّ المنار َ يهدي إلى الرشد ِ ويوري عــــــزائم الشبان ِ

فالشهيد القسام صار شارة المجد ، ورمز الجهاد ضد الطغيان ، إنه منارة تنير طريق الثائرين عبر العصور ، يحدو الشباب المجاهد للاستمرار في النضال بالرغم من تفاوت القوة مع الأعداء.

-ونشرت جريدة ( الدفاع ) قصيدة للأديب الفلسطيني (ابن خلدون) بعنوان : « يا رحمتنا » ، نقتطف منها الأبيات الآتية:

ما بين أرضِك أو سمائك .. آيٌ تتيه بكبريائكْ

قد حاولوا غمز الإباء ومــا دروا مغزى إبائكْ

باهوا بما وسعوه من عدد فخاضوا في دمائك ْ

لم يقدروك كأنهم ضلّوا بيانك في بلائك

لو أنصفوك لعظموك وأوسعوا لك في بنائك ْ

قد ثرتَ تعلم أن ما تبغيه صــــعبٌ جــد شائكْ

آثرت لقيا الله لما ضــــــقت ذرعاً في قضائك

فالشاعر ابن خلدون يصور الشهيد القسام بأنه أبي عزيز النفس ، يتعالى على الصعاب ، ضحى بروحه في سبيل الله ، والوطن ، وآثر ما عند الله ، على ما عند الناس ..ويصور الشاعر حال الأمة بعد رحيل الشهيد ، فيقول:

وتركت َ بعـــــدك أمة ً قد لا تبــاعد في لقائك

يا رحمتا للوطن المغلو ب ينكـــــــبُ بانزوائك

جاورت َ ربك حينَ هم قد جاوروا هون الأرائك

كم تقتَ أن أسعى أشيّع عرش مجدك واعتلائك

بين المهابة والجــلالة ســــــــــار ركبك والملائك

ولقد صمتّ فكان صمتك فيه معنـًى من وفائك

ما اخترت َ إلا ما يشرّف في ختامك وابتدائك

رحل الشهييد وترك خلفه أمة تتمنى الشهادة ، وتسير على طريق الجهاد الذي خطه القسام ، ونكب الوطن برحيل المجاهد ، ويعبر الشاعر عن حزنه لأنه لم يكن في صفوف المشيعين ، حيث سارت جنازة الشهيد تظللها ملائكة الرحمن ، وتحفها المهابة والجلال ، وسكت البطل سكوته الأبدي ، ذلك البطل الذي سطّر فجر الثورة في فلسطين ، وختم حياته بالشهادة في سبيل الله ، فنعم المبتدأ ونعم الختام.

وقد أورد صاحب كتاب «جهاد شعب فلسطين» قصيدة للشاعر فؤاد الخطيب ، تعتبر من أجمل ما قيل في رثاء الشهيد ، وهي بعنوان (مصرع البطل)، يصف فيها الشاعر فؤاد الخطيب أول محاولة للدفاع عن (فلسطين) بالسلاح وذلك في عهد الانتداب البريطاني ، وكان زعيم تلك الثورة المسلحة الشيخ عز الدين القسام إمام مسجد (حيفا)، ومعه فئة من المجاهدين قليلة تعد على الأصابع , فقاتلوا جنود السلطة البريطانية نهاراً كاملاً من الصباح إلى الليل حتى ظفروا بالشهادة جميعاً.

وكان ذلك في واد يقال له (الطِرم) في قرية تسمى ( يعبد ) تجاور مدينة جنين سنة (1936) ، ومطلع القصيدة:

أقسمتُ أنك َ روضة ٌ وجنان ُ

والروحُ فيك يرفّ و الريحانُ

أنت المقدس أيها السفح الذي

خشعت لديه ربى سمت ورعان

فهو يقسم بأن ذلك الوادي ما هو إلا جنة وارفة ، تشرق فيها الروح ، وتزهر فيها الورود والريحان ، ويقسم بقداسة ذلك السفح المبارك الذي خشعت فيه التلال والجبال لقدوم ذلك البطل الشهيد عز الدين القسام.

* * *

ويتابع الشاعر فؤاد الخطيب مشيداً بجهود القسام ورفاقه ، فيقول:

حَرَم ٌعلى أطراف (يعبد) قائمٌ

في (الطِرم) باركَ حوله ُ الرحمانُ

هبطته أطهرُ عصبة ٍ لو أنَّها

سبقتْ لرتل مدحها القرآنُ

إنَّ (الزعامةَ) والطريقُ مخوفةٌ

غيرُ الزعامة ِ والطريقُ أمان ُ

فاسأل بها المتنطِّعين تبجُّحاً

والكأس مترعة ٌ لهم والحانُ

يتشدَّقون وإنَّ كل دفاعهم

قولٌ يغصُّ تهيباً وبيانُ

كثر الكلام وما أفاد قـُلامةً

فتكلمت بلسانها النيرانُ

يؤكد الشاعر أن ذلك المكان الذي شهد المعركة ما هو إلا حرم مقدّس بارك الله حوله ؛ لأنه نزلت فيه ثلّة ٌ من المجاهدين الشجعان ، لو أنهم جاؤوا في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم –لنزل فيهم قرآن يتلى ، يمدحهم ، ويثني على شجاعتهم وجهادهم المبارك ، ويتحدث عن قيادة البطل القسام ، إنها جاءت في الوقت الصعب ، ولم تأت ِ في السلم والأمان ، فليصمت المتبجحون الذي لا يعرفون سوى حياة الدعة والخمول والكسل ، ومعاقرة الخمور ، والعربدة في المواخير ، ولا يحسنون سوى لغة الكلام ، الذي لا يقدم ولا يؤخر في وقت الشدائد والحروب...

* * *

وعندما سقط الشهيد عز الدين القسام في أرض المعركة عرفت فلسطين فضل ذلك المجاهد المقدام ، وهبت تودعه شيباً وشباناً ؛ لأنه أكرم راحل عنها ، فليخرس الكاذبون ، الذين اتهموا الشهيد ظلماً وزوراً ، ورددوا ما أذاعه الإنجليز بأن الشهيد مجرم ، ورفاقه عصابة من الحمقى:

عرفت (فلسطين) الشهيد ولم تكن

لينام عنه (ضميرها)اليقظانُ

هبت تودِّع منه أكرم راحلٍ

خسيء التخرّص عنه والبهتانُ

ويعدد الشاعر صفات اليهود الذين تطاولوا على سيدنا عيسى عليه السلام ، وألصقوا به وبأمه العذراء شتى التهم ، وسموه الشقي ، وكفروا بدعوته ، فأحبط الله دسائسهم ، ودمّر طغاتهم ، وأزال دولتهم الظالمة ، وهاهي فلسطين تشهد الرواية مرة ً أخرى ، حيث أدين الأبرياء ، وسمي المجاهدون بالأشقياء ، وأعاد التاريخ نفسه:

وكم استطال على (المسيح) بقرية

فيها اليهود فلم يسعه مكان

كان الشقيَّ بهم وقيل شقيهم

ولكم تملقهم به (الرومان)

إن يسلموه ويجحدوه فإنهم

عبدوه وارتفعت له الصلبان

حبطت دسائسهم , وباد عتاتهم

ومضى الولاة , وأودت الأعوان

شهدت (فلسطين) الرواية مرة

أخرى , وأبصرت البرىء يدان

واليوم أنت بما فعلت وما جنوا

عظة تجدّد ذكرها الأزمان

* * *

ويعود الشاعر إلى تصوير عظمة الشهيد عز الدين القسام فيصور عمامته المباركة التي فاقت تيجان الملوك شرفاً وطهراً ، وأعاد للعلم والعلماء ذلك الوجه المشرق الذي افتقدته الأمة منذ زمن بعيد ، يوم قاد ( سلطان العلماء العز بن عبد السلام ) حركة الجهاد الإسلامي ضد التتار ، ويوم قاد شيخ الإسلام ابن تيمية جموع المجاهدين في معركة ( شقحب ) ، فجاءت صورة القسام لتجلو لنا صورة العالم الرباني ، والمجاهد الفارس الذي لا يعرف الترف والتخمة ، وجعجعة الكلام بلا فائدة:

أولت عمامتك العمائم كلها

شرا تقصرّ عندها التيجان

وجعلت لاسم (الشيخ) أرفع رتبة

نبذت قديم عهودها الأوطان

واليوم حين رأتك قد ذكرت بها

زىّ الملوك وما ارتدى الفرسان

خفقت على (اليرموك) منه ذلاذل

وتدثرت بحبيره الأسبان

ورمى الغزاة به الحصون تقحماً

لا الهول أقعدهم ولا الحدثان

الباسطون على الممالك ظلَّهم

والصادقون ودهرهم خوّان

والضاربون الهام لم يعلم بهم

جزع ولم يتولَّهم طغيان

ما كنت أحسب قبل شخصك أمة

في بردتيه يضمها إنسان

حقاً إن شجاعة الشهيد عز الدين القسام تثير مشاعر الإجلال والإكبار ، وما كنا نحسب أن الله يخلق مثله في هذا الزمان ، إنه رجل بأمة.

* * *

ويستطرد الشاعر فؤاد الخطيب في تجلية صفات الشهيد البطل الذي لم تثن إرادته كتائب ُ الأعداء ، وصار ( قدوة ) للثائرين ، فأعطى درساً للمجاهدين بأن السلطان والتمكين في هذه الأرض لمن حمل السلاح ضد الأعداء ، وليس السلطان للمتخاذلين الجبناء:

لم يثن عزمك والكتائب شمَّرت

نصل يشب توقداً وسنان

وعلمت من حمل السلاح وإنهم

في الأرض ليس لغيرهم سلطان

* * *

ويصور الشاعر تفاوت القوة بين المجاهدين ، وقوة المستعمرين الإنجليز ، فهم مدججون بقوة السلاح ، وهم أسود البر ، والبحر ، والسماء ،يمتكلون الفضاء بقوة الطائرات ، ولكن تلك القوة لا تثبت أمام عزمات الأبطال ، وصمود المجاهدين الشجعان حيث واجه الشهيد الجميع بعزيمة جبارة ، ونظر إلى تفاوت القوة نظرة سخرية وازدراء ، وراح يخترق صفوف الأعداء ، ويسرع نحو لقاء الله غير هياب ٍ ولا وجل ، فيقول:

(فالبر) أين خطوت , نهب صفاحهم

وهم الضياغم فيه والسيدان

(والبحر)أين نجوت , طوع رياحهم

وهم السوابح فيه والحيتان

والجو , أين علوت , تحت جناحهم

وهم الأجادل فيه والعقبان

فرميت في الجميع بعزمة

صدقت وصغرهم لك الإيمان

ووثبت تخترق الصفوف مجاهدا

والنقع أكدر والسماء دخان

آمنت باليوم الأخير فلمتخف

ومكذب اليوم الأخير جبان

ويوجه الشاعر فؤاد الخطيب نداءه إلى العرب في كلّ مكان ويقول لهم : لقد قسّم الأعداء بلادكم ، وهاهم يكيدون لكم المؤامرات ، وقلوبهم تمتلئ بالأحقاد على العروبة والإسلام ، ويطلب منهم التوحد لمواجهة كيد الأعداء ، فكلهم عرب ، ودينهم واحد ، فإلى متى هذا التفرق والشتات ، فيقول:

يا أيها العرب الذين تقسَّمت

شتى الديار بهم وهم إخوان

زعم العِداة عن (الجزيرة) أنها

خنعت وقلم ظفرها الخذلان

أين الذين تودهم وتعدهم

ركناً إذا اضطربت لها أركان

هل تنظرون إلى البوائق حولكم

وإلى القلوب تكظها الأضغان

إن (العروبة) كهفكم وثمالكم

ليست تفرق بينها الأديان

ويخاطب العرب ويقول لهم : إذا مات البطل عز الدين القسام ، فهو حي خالد عند ربه ، يرفل ُ في رياض الجنة ونعيمها ، ولكن العيب عليكم إذا عانى أهله ونساؤه اليتم والحرمان والشقاء ، فيقول:

إن يقض (عز الدين) فهو مخلد

خلعت عليه شبــابها الولدان ُ

ومن المعرّة أن يكون شهيدكم

ويؤود ُ عاتق َ أهله الحرمــان ُ

ويقول شانؤكم غداً : هي أمةٌ

نسيت ْ , وسرُّ شقائها النسيانُ

فالأمة التي تنسى شهداءها لا تستحق الخلود ، والأمة التي تهمل الأبطال والعظماء مصيرها الفشل والهوان...

* * *

ويحذر العرب من الخطر المحدق بهم ، فطوفان اليهود قادم ، وأطماعهم في فلسطين لا تنقضي ، ولا يعصم الأمة من ذلك الطوفان إلا سفينة نوح والتوحد حولها ، والتكتل وراء إمام مجاهد ، وقائد محنّك ، فيقول:

طوفان نوح دهى الشعوب فعمها

ومن اليهود يخصكم طوفان

غمر الرواسي والبطاح تدفقا

أين (السفينة) منه (والربان)

ضمن القديم لكم بقاء كيانكم

وعداً وليس مع الجديد كيان

فهل الحمامة حامل منقارها

غصناً من الزيتون فيه ضمان

فغصن الزيتون لا ينفع مع عدو لا يفهم إلا لغة القنابل والمدافع ، وما أخذ بالقوة لا يُستردُّ إلا بالقوة...

ويصور طرب الجنان ، وفرح شهداء بدر وسكان البقيع بقدوم الشهيد عز الدين القسام ورفاقه إليهم:

يا رهط (عز الدين)حسبك نعمة

في الخلد لا عنت ولا أشجان

شهداء (بدر) و (البقيع) تهللت

فرحاً , وهش مرحباً رضوان

* * *

ويناجي أرض فلسطين المقدسة التي ضمّت جدث الشهيد ، الذي ضحى بروحه قرباناً لطهر فلسطين وحريتها ، وما زالت صيحته تدوي في أرجاء الأرض ، ويرجو لو سمعها أبناء العروبة ، فيقول:

يا حصن يعرب في ثراك موسد

نعم الضحية عنك والقربان

هو صيحة ملأ الفضاء دويها

فسل (العروبة) هل لها آذان–

غير أن قصيدتين من البحر الكامل بزّتا كل القصائد السابقة في رثاء القسام، كانت الأولى للشاعر صادق العرنوس نشرها في جريدة «الجامعة الإسلامية» في 15/12/1935، نختار منها:

من شاء فليأخذ عن القسام

أنموذج الجندي في الإسلام

وليتّخذْه إذا أراد تخلصاً

من ذلّة الموروث خير إمام

ترك الكلام ووصفه لهواته

وبضاعة الضعفاء محض كلام

ويشن الشاعر هجوماً لاذعاً على حكام العرب والمسلمين لأنهم اتخموا شعوبهم بالكلام المعسول ، وصدروا إليهم الأكاذيب والأوهام ، فكلامهم صار حبراً على ورق ، وانقلب حالهم إلى : رحماء بالكفار ، أشداء فيما بينهم:

أوما ترى زعماءنا قد أتخموا الآذان قولاً أيما إتخام ِ

كنا نظنُّ حقيقة ً ما صبروا فإذا به وهماً من الأوهام ِ

ضاع المُراق ُ من المداد لرسمه عبثاً وما أفنوا من الأقلام ِ

ملأوا الفجاج َ شقاشقاً جوفاء لم تنجح سوى في فرقة وخصام ِ

تركوا العدوَّ يعيث في أوطانهم وتشاغلوا بتراشق وترامي

ويتمنى الشاعر لو كان البطل عز الدين القسام بين هؤلاء القادة العرب لأعطاهم درساً في الجهاد ، والنضال ، والإقدام ، ولداوى أمراضهم ، وحلَّ مشاكلهم:

يا ليت َ عز الدين يبعث بينهم ويكون فيهم درسُه إلزامي

حتى يبين لهم سبيل قيادة ٍ خرجوا بها عن واجب الأحكام ِ

ويداوي الجرح َ الذي أضناهم ُ جرح الخمول بمرهم الإقدام ِ

ويعدد صفات الشهيد عز الدين القسام ، الذي ذاع صيته واشتهر ، وفاحت سيرته عطراً ، ولمع نجمه حين أعلن الجهاد ضد المستعمرين ، فيقول:

هذا الفدائي الجواد بنفسه من غير ما نزعٍ ولا إحجام

ما كنتُ أعرفه ولا أسمع به حتى تضوّع َ طيبه من الشام ِ

وكذلك النفس الكبيرة ُ إن نوت عملاً أسرّته لحين تمام ِ

لم يلهه عرض الحياة واحلاً كلاّ ولم يشغف نبيل وسام ِ

ما زال يعمل ساتراً مجهوده كالبدر مستتراً وراء غمام ِ

حتى بدا من عصبة بدريّة ٍ فتكشّفت عن مؤثرين كرام ِ

ويندد بالطواغيت الذين أصابهم الخَبال بسبب ظهور المجاهد ورفاقه ، لأنهم فجروا الثورة ، فراحت أبواق ( فرعون العصر ) تصفهم بالعصابة ، وتقلل من شأنهم:

ما بال طاغوت البلاد أصابه لظهورهم ضرب ٌ من البرسام ِ

أولم تصفهم للمــــــــلا أبواقه بعصابة ٍ ليســــــت بذات مقام ِ

فلمن تقاطرت ِ الجيوش كأنها ظــــــفرت بجيش للعدوِّ لهام ؟

ويقول الشاعر : إذا مات جسد عز الدين القسام ، فروحه باقية فينا ، إنه قدوة ومنارة للثوار ، فلن يستطيعوا القضاء على دعوته وجهاده مهما استخدموا من مدافع وطائرات:

إنْ يَقْضِ عز الدين أو أصحابه فالسرّ ليس تكلّم الأجسام

هيهات تنزع أو تهي أثارها مهما استعان بمدفع وحسامِ

قل للشهيد وصحبه أديتمُ حق الرسالة فاذهبوا بسلام

لقد أدى الشهيد القسام ما عليه من مسؤولية تجاه الأمة ، وتجاه شعبه ، وبلادة المغتصبة ، فليذهب إلى ربه مشكوراً مبرورا ً.....

أما القصيدة الثانية ، فقد جاءت رداً على بيان حكومة الانتداب الذي أعلن القضاء على عصابة من الأشقياء في أحراش يعبد ، فهي للشاعر نديم الملاح بعنوان « سمّوك زوراً.. » ، نختار منها:

ما كان ذودك عن بلادك عارا

بل كان مجداً باذخاً وفخاراً

سمّوك زوراً بالشقي ولم تكن

إلا بهم أشقى البرية دارا

قتلوا الفضيلة والإباء بقتلهم

لك َ واستذلوا قومك الأحرارا

أنكرت َ باطلهم وبغيَ نفوسهم

فاسترسلوا في كيدك استكبارا

كثروا عليك َ بمأزق ٍ لو أنه ُ

ريعَ الخميس ُ به لطارَ فرارا

قثبتَّ بين رصاصهم مستبسلاً

يَتِرون َ منك َ وتدرك الأوتارا

ورأيت كأس الموت أطيب مورداً

من عيشة ملئت أذى وصغارا

ويناجي الشهيد عز الدين القسام ، ويقول له إن استشهادك أذكى نفوس المسلمين بالحقد على الأعداء والثورة على الظلم ، والطغيان ، والاحتلال ، فقال:

يا شيخ عز الدين : رزؤك إنه ُ أذكى شعور َ نفوسنا وأثارا

علّمتنا كيف الذيادُ عــن الحمى إن راعه ُ باغ ٍ عليه وجارا

ويصور النعيم العظيم الذي ذهب إليه الشهيد ، وما أعده الله للمجاهد العظيم ، فربح الجنة ، أما الأعداء فربحوا الخزي والخسران:

خلصت إلى الديان روحَك حرة

فحباكَ منه في الجنان جوارا

حُمِّلتَ فيهم مثل أجر مجاهد ٍ وتحمّلوا في ظلمك الأوزارا

أما شاعر حركة القسام الزجال الشعبي نوح إبراهيم ( 1913 – 1938 م ) ، الذي ارتبط بالشيخ عز الدين القسام وعصبته ، فأطلق عليه لقب ( تلميذ القسام ) . وعندما استشهد القسام ، رثاه بزجلية طويلة ، لحنها وغناها وسجلها بصوته على أسطوانة ، رددتها فلسطين كلها آنذاك ، وهي بالعامية بعنوان «عز الدين يا خسارتك» ، يقول فيها:

عز الدين يا خسارتك رحــت فدا لأمتك

مين بينكر شهامتك يا شهيد فلسطين

عز الدين يا مرحوم موتك درس للعموم

آه لو كنت تدوم يا رئيس المجاهدين

لقد ضحى الشهيد بالمال والنفس والنفيس من أجل إعلاء كلمة الله ، ودفاعاً عن حرية الأوطان:

ضحيت بروحك ومالك لأجل استقلال بلادك

العدو لما جالك والعدا منك هابت

فلسطين منين شافت مثل غيرة عز الدين

أسست عصبة للجهاد حتى تحرّر البلاد

غايتها نصر أو استشهاد وجمعت رجال غيورين

جمعت رجال من الملاح من مالك شريت سلاح

وقلت هيــــــــا للكفاح لنصر الوطن والدين

فالشاعر نوح إبراهيم يؤكد أن ذهاب عز الدين خسارة للأمة ، إنه شهم شجاع ، ضحى من أجل فلسطين ، فكان استشهاده درس لعموم فلسطين ، وهو رئيس المجاهدين وقائدهم المغوار ، ضحى بالغالي والنفيس وجاهد بالنفس والمال ، وأسس عصبة الجهاد واختارهم من خيرة الشباب ، واشترى السلاح ، وراح يقاتل لأجل استقلال بلاده ، ورفع البطل شعاره الخالد : إنه لجهاد ، نصر ، أو استشهاد ...

ويصور مرارة الخيانة التي ذهبت بدم الشهيد ، ووقعت النكبة ، وسلمت فلسطين لليهود بالمجان:

جمّعت نخبة رجال وكنت معقد الآمال

لكن الغدر يا خال لعب دوره بالتمكين

لعبت الخيانة لعبة وقامت وقعت النكبة

وسال الدم للركبة وما كنت تسلّم وتلين

كنت تصيح الله أكبر كالأسد الغضنفر

لكن حكم المقدر مشيئة ربّ العالمين

ويحث الشاعر على الجهاد والشهادة والسير في طريق الخلود الذي سار عليه البطل عز الدين القسام ، الذي رحل عنا جسداً ، وخلد التاريخ اسمه ، فروحه تسري بيننا ، ونهجه تسير عليه الأجيال الثائرة:

محلا الموت والجهــاد ولا عيشة الاستعباد

جاوبوا رجال الأمجاد نموت وتحيا فلسطين

الجسم مات والمبدأ حي والدما ما تصير مي

معاهـــــــــد الله يا خي نموت موتة عز الدين

واقرأوا الفاتحة يا إخوان عا روح شهيد الأوطان

وسجل عندك يا زمان كل واحد منا عز الدين

البيت الأخير يقودنا إلى قصيدة للشاعر نفسه أشهر منها، بعنوان «أبو إبراهيم ودّع عز الدين»، إلا أن هذه القصيدة لم تصدر بعد استشهاد القسام مباشرة، بل بعد عدة سنوات، وأحسب أنها في رثاء «أبو إبراهيم الكبير» القائد الأبرز في الثورة العربية الكبرى..

مدرسة القسام:

وبعد مرحلة الرثاء ، جاءت مرحلة ( القدوة ) والمثل ، والأنموذج ، فقد آمن المخلصون أن طريق القسام هي الطريق الوحيدة للتحرير ... فأخذ الشعراء والأدباء يدعون الشباب إلى الاقتداء بالقسام في جمعيع العقود التي تلت الاستشهاد حتى يومنا هذا حيث سمت حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ) جناحها العسكري باسم ( كتائب الشهيد عز الدين القسام ) وهذه أمثلة مما سجله الشعر......

-ويقول الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان في قصيدته ( الشهيد ) ، مصوراً بطولة القسام ، ورباطة جأشه ، وقوة فؤاده ، وثباته في مواجهة العدو المدجج بالسلاح :

عبس الخطب فابتسم وطغى الهول فاقتحم

رابط الجأش والنهى ثابت القلب والقدم

لم يبال ِ الأذى ولم يثنه طارئ الألم ْ

نفسه طوع همّة ٍ وجمتْ دونها الهمم ْ

تلتقي في مزاجها بالأعاصير والحمم

تجمع الهائج الخِضمَّ إلى الراسخ الأشم

إنه مجاهد من طراز فريد ، لا يخاف الصعاب ، ويمتلك الإرادة القوية ، والعزيمة الصلبة ، فتراه بحراً زاخراً ، وجبلاً راسخاً ، فاستحق أن يخلد على مرّ العصور:

لاتقل أين جســـمه واسمه في فم الزمن

أضرم َ النارَ في القلوب فما تألف الوهن ْ

ورمى النور في العيون فما تعرف الوسن

إلى أن يقول:

أيُّ وجـــهٍ تهــــــللا يردُ الموت َ مقبلا

صعّدَ الروح َ مُرسلا لحنَه ُ يُنشد ُ الملا

أنا لله والوطن ْ

وهاهو الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود ، يقول في قصيدة له بتاريخ 2/ 11 / 1946م:

حفي اللسان وجفّت ِ الأقلام ُ والحال ُ حالٌ والكلام ُ كلام ُ

إني رأيت ُ الحقَّ فصلُ خطابه يتلوه فينا الفيصل الصمصام ُ

اصهرْ بنارك غُلَّ عنقك َ ينصهر ْ وعلى الجماجم ِ تُركز ُ الأعلام ُ

وأقم على الأشلاء صرحك َ إنما من فوقها تُبنى العُلا وتُقام ُ

وخذ الحقوق إليك لا تستجدها إن الأولى سلبوا الحقوق لئام ُ

هذي طريقك َ للحياة فلا تَزغ ْ قد سارها من قبلك ( القسام)

ذاك الذي هجر الكلام لفتكة ٍ بِكرٍ وهل فكَّ القيود َ كلام ُ – عز الدين القسام ، محمد حسن شُرَّاب ، دار القلم بدمشق ، ط1 ، 2000م ، ص 366.

-وقال الشاعر المفكر الإسلامي حسن الباش سنة 1992م ، في ندوة عقدت في جبلة مسقط رأس القسام:

بيني وبينك َ أســـــرارٌ وشــــطآن ُ حيفا وجبلة والقسام إخوان ُ

بيني وبينك َ عزٌّ جئت مــــــــولده من كرمل ٍ مجدُه قبرٌ وإنسانُ

حيفا التي ما روت ْ حاراتها قصصاً إلا وكان َ له من مجدها شان ُ

يا أمتي في رُبا الإسراء ملحـــمة ٌ فرسانها في صدى القسام ألحان ُ

ذاك الذي سطَّر التاريخ من دمه وصــــــاغ منبره عقلٌ وإيمان ُ – عز الدين القسام ، شُرَّاب : ص 367.

وقال الشاعر عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) من قصيدة له ، يطلب فيها من العرب أن يوقفوا محاكم التفتيش الجديدة في فلسطين ، ويناديهم بأعلى صوته لكي يسيروا على طريق الشهادة الذي سار عليه القسام ، فذر أنوار الشهادة على الحياة ، وعلم الدنيا أسرار الخلود:

إيه رجـــــــــال العُرب لا كنتم رجالاً في الوجود ِ

هل تشهدون محـــــــــاكم التفتيش في العصر الجديد

قوموا اسمعوا من كلِّ نا حية ٍ يصيح ُ دمُ الشهيد ِ

قوموا انظروا القسام يشــــــرق ُ نوره فوق الصرود ِ

يوحي إلى الدنيا ومن فيها بأسرار الخلود ِ – المرجع السابق نفسه : ص 367.

وكتبت الشاعرة الإسلامية الواعدة ( محبوبة هارون ) قصيدة بعنوان : ( هو القسام ) ، ( بمناسبة مرور 75 عاما على استشهاد عز الدين القسام ) ، تصور فيها ذهولها وشرودها بسبب كثرة الهموم التي حلّت بأمتها ، جاء فيها:

وراغَالـعــــــــــــــقـلُمنِّيأرتجيه وكـانالـعـقلُثوباًأرتديه

سـألتُ:بحقِّربِّيأينعقلي؟فـقـيـل:أصابههمٌّ،دعيهِ

بـلادكأخـتعًُرْبٍضيعوه فصمتُالعجزِيُردي..أدركيه

يـحوقلوالعيونُتَفيضُحزناومـرُّالـكأسِصبرايحتسيه

فـفـرومـــــــــــــــثـلُـهُنَفَرٌكثيرٌ وجـلُّالـقومِفيوَجَلٍوتيه

تـرينَالكَونَفيعجبٍشديدٍوعـقـلكفيذهولفاعذريه

أمـامعـيـونهيجدالخطاياتـجوبُعقولَقومِكِفارحميه

وفـكـرتـاهبيندروبحُلمٍتـنـاثـرفيالزَّوايا،لملـــــــــميه

وتصور رغبة الأمة بعودة ( صلاح الدين ) من جديد لتحرير القدس ، فلما عاد خذلته ، وتخلت عنه ، بل إن بعض قادتها ما تزال تحاصر حماس في غزة ، وتنتظر إذن إسرائيل لإدخال المساعدات الإنسانية والدواء والغذاء إلى شعب غزة المحاصر:

تـمـنَّواأنيعودَلهم"صـــــــــــلاحٌ" فـعاد،فقيلمافيالخمرفيه

"صـلاحُالدين"جاءإلىبنيهفـحوصرمــنأخيهومنبنيه

إلى أن تقول في الشهيد القسام ، وما خلفه من تركة للأجيال التي جاءت بعده ، حيث حمل الراية الشهيد أحمد ياسين ، وإخوانه الشهداء عبد العزيز الرنتيسي ، ويحيى عياش ، وواصلوا طريق الجهاد والاستشهاد الذي سار عليه البطل عز الدين القسام:

"صـلاحُالـدينِ"جاءفهنئيهوكـفِّـيالدَّمعَ..لالاتَسكُبيه

هـو"الـقَسَّامُ"قدربَّىرجالا عـلـىدربالكرامةفاسلكيه

سلالكرسيَّ(والرنتيس)عنه و"عـيـاشا"،وباركمنيليه

وحزبالله(رضوان)(شقاقي) جـهـادٌلايُـمارى..سجليه

هـمالأبـطالُجيلابعدجيلٍيـهـزُّالـبَـغييَهزمُقاتليه

تُـرابُالأرضِيَزهوإذأسُودٌتَـمُـرُّعـلـيـه،هَيَّاقبِّليه

وتعود الشاعرة لتبعث شخصية البطل صلاح الدين الأيوبي الذي عاد من جديد يحث على الجهاد ، ومواصلة الكفاح:

"صـلاحُالدِّينِ"جاءإلىبَنيهِ وحـثَّعلىالجهادِبملءفيه

فـهـبَّالجمـــــــــــــعُمَرحَىيَاأبانا تـقـدَّمْإنَّذامــــــــــــــــــــانـبـتغيه

أطلتَالبُعدَعَنَّا..غبتَدَهراً فـنـالالقدسمالاترتضيه

وأقـصـانـايـئنُّكمـــــــــــــــــــــــاتراه نـبـيعالعمرَطوعاً..نفتديه

وتصور عقوبة من ترك الجهاد ، وسار في طريق الخزي والعار ، فتقول:

ومـنتَـرَكَالجِهَادَإذادعاه فـإنَّالأرضَدومـاتزدريه

تَـوَدُّلـوانـهـاتُخفيهِحَيّـــــــــــــًاتُـهـيبُبهاالسَّمَاءُألااقتليهِ

تـردُّ:كَـفَاهُعنزَحفٍتَوَلَّى تـرد:كَـفَــــــــــــــاهُذُلاًيَـرتـويه

فَـعَـيْشُالمَرءِعِزٌّفِيجِهَادٍودونَكَـــــــرامَـةٍلاخَـيْرَفيه– القصيدة منشورة في رابطة أدباء الشام.

وكتب الشاعر الإسلامي المصري جابر قميحة قصيدة مطولة تحت عنوان : ( البحث عن قبر لعز الدين القسام ) وهي من غرر الشعر ، جاء فيها:

(1)

أحملُ مصباحَ «ديوجينَ»، وأمْضى

روحًا هيمان

أبحث عن رجل بين الأحياءْ

يا من يهدينى لطريقٍ

يحملنى للإنسانْ!!

للرجل الإنسانْ!!

لكن النهرَ الفياضَ بوطنى صارَ عقيمًا

لا ينجبُ إلا الفقاعات

والأرضَ المعطاءَ الحبلى

ما عادت تنبتُ إلا القاتْ..

والمعتقلات

يا من تحملُ مصباحك فى التيه الأعظم

إن تهتف فى عصر الغربةْ:

«لا قوة إلا بالله

تخرِسْكَ ألوفُ الأصواتْ:

«لا قوة إلا بالعُزَّى...

لا قوة إلا باللاتْ..»

فالعصرُ مَواتْ

عصرُ الأنطاع الأوثانْ...

عصرُ الخصيانْ

عصرُ العُرجانِ العِميانْ

لا عصرُ الرجلِ الإنسانْ

ـــ

يا شاعرَ عصرِ الغربةِ.. والكربْة

أَطفِئْ مصباحَكْ

وَفّر زيتكَ

وتوكلْ

لا تبحثْ عمَّن تطلبُ فى الأحياءْ

من تبحث عنه استُشْهِدَ.. ماتْ

منْ تبحثُ عنهُ محضُ رفاتْ

اطلبْه هناكْ

فى أرضِ المسْرَى فى الأمواتْ

(2)

يا عزَّ الدين القسّامْ

يا ابنَ الإسلامْ

يغلبنى الشوقْ

يهتف في أعماقى صوتٌ من أعماقِ الغيبْ

يهزُّ كيانى

كى أسعى نحوكْ

أن أمضى للقبر الثاوى فى أرضِ المسْرى المنهوبة

أستنشقُ عَبَقَ المجدْ

فى طِيبِ اللحدْ

ـــ

لكنْ قَالُوا لى:

«حتى تجتاز حدودَ الوطن إلى الأرضِ المسلوبةْ

إذنُ الملِك المنصور ضرورةْ.

تذهبُ للقصر العامِر

وتسجلُ إِسمكفى دفترْ

يُسْمَى بسجلّ التشريفاتْ

تحت عباراتٍ تكشفُ عن إخلاصٍ وَافٍ

لا أيِّ عباراتْ

ـــ

لكنْ...

لا أدرى ماذا أكتبْ

ولقد عشتُ شريفًا

وعفيفًا

أُمضى سنواتِ العمرِ رفيعَ الرأسِ نظيفَا

ملكًا يحتقر التاجْ

مملكتى قلبٌ نبويٌّ

وسلاحى قلمٌ نوويٌّ

لم ينبض إلا بالحق

ينشقّ الصخرُ ولا ينشقْ.

لكنَّ كرامةَ ذاتى مهما عَظُمتْ

يغلبها الشوق إلى الأحباب

فى عصر يحكمهُ الخصيان بِشرع الغابْ

معذرةً يا نفسُ

هوْنى لحظةْ

أو لحظاتْ

من أجل شهيدٍ ظلَّ يقاتلُ حتى ماتْ

(3)

مسئولُ التشريفات -على ما يبدو- رجل طيب

استنتج أنى قرويٌّ طيّبْ

أملانى.. اكتُبْ:

«مولايَ الملكَ المنصورَ.. طويلَ العمْرْ

يسعدنى أن تأذنَ لى

أن أرحلَ لزيارة قبر عزيزٍ ماتْ..

استشهد...

ويرن التلفون بحجرة رجل التشريفات

يتوقف رجلُ التشريفات عن الإملاء

يظهر أن المتحدث ذو حيثيَّة

فرئيس التشريفات

نبرته فى الهاتف جدُّ خفيضةّ

تتدفقُ بالأدب الجمّْ

ماذا لو أكملُ شخصيّا باقى الفِقْرة

مادام سيادته مشغولاً...

أكملت

«استشهدَ من زمِن زاد على نصفِ القرنْ

فى أرض الأقصى المسلوبة

وأخيرًا أدعو لجلالتكم بالسعدِ وطولِ العمرْ»

(4)

[رجلُ التشريفاتْ

يضعُ السماعة فى عصبيّةْ]

-هيه.. أسْمِعْنى ماذا أمليتُ عليك

-أمليتَ سيادتُكم جزءًا

وشُغلتم بالتلفون..

أكملتُ أنا الباقى حتى لا أهدرَ وقت سعادتكم

-أَسمعنى كلَّ المكتوبْ

- «مولاى الملك المنصورَ.. طويل العمرْ

يسعدنى أن تأذن لى

أن أرحلَ لزيارة قبر عزيز ماتْ

استشهد من زمن زاد على نصف القرن

فى أرض الأقصى المسلوبة

وأخيرًا أدعو لجلالتكم بالسعدِ وطولِ العمرْ»

[ويثورُ رئيس التشريفات بصوتٍ كزئير الريحْ]

-يا عجبًا.. تعجلُ فى إكمال كلامى بكلامٍ لا يحملُ معنَى..

عندكَ أولاد؟

-خمسةْ... غيرُ رفيقة عمرى... الزوجة

-أَتريدُ ترمِّلُ زوجَكَ يا مسكينْ؟

-أتريدُ تيتِّمُ أولادك؟

أوْ فى أحسن فرضٍ تغلقُ أبوابَ المستقبل فى أوجُههمْ؟

كلماتك حتى الآن..

لا تكشفُ عن جوهرِ إخلاصِك

-ماذا أفعل؟

أشْطُبُ ما خطَّت يمنايَ..

وهذى المرة لا أكتبُ إلا ما تُملى

-هِهْ.. أستاذٌ فى جامعةٍ يجهلُ

أنَّ الشطبَ بمستندٍ رسميٍّ يعتبرُ جريمةْ!!

وسجلُّ التشريفات

فى قانون الدولة - إن لم تعلمْ-

أعلى مستندٍ رسميْ

لكنْ... أكملْ... اكتبْ:

«ملحوظة:

مثل العنوانْ..

تُكتب فى الآخر لكنْ فى الأول تُقْرَأْ

ما أنسانِيها الشيطان

بل أنسانيها شدة إحساسِى..

فيضُ شعورى

بجلال الملك المنصورْ

يا منصورُ أدامَ ا<بقاكْ

وأذلَّ ا<ُ عِداكْ

أنا لا أنتسب لحزب أيّا كانْ

وليسَ وراء زيارة هذا القبرْ

ما يدعوهُ الناسُ سياسة

أفديكَ -طويلَ العمر- بروحىوبأولادى

وبآبائى، وبأجدادى، وبأحفادى، وبجامعتى،

وبما تملك -يا منصور- يمينى

(5)

[وهنالِكَ فى صدرِ البهو الأعظم

وعلى عرشٍ من ذهب إبريزْ

كانَ طويلُ العمرِ مهيبًا يجلسْ

ولأنَّ الملكَ المنصورَ يحبَّ الشعرْ

صدح الشعراء بما نظموا

كانوا قيعانًا.. غربانًا

نعبتْ بنقاقٍ منكوسْ

القاع الأول:

خيبان بن الهايف... يمضى فيقول:

بسيفك يعلو الحقُّ والحقُّ أغلبُ

وترعبُ إسرائيلُ إن شئتَ تضربُ

فسيفُك من نارٍ تَمجُّ.. لهيبَها

وليس لهم من نار سيفك مهربُ

إذا كان دينُ القوم غدرًا وخسةً

فإن الجهادَ المرَّ عندك مذْهبُ

بسيفكَ يا منصور أنتَ مُغَلَّبُ

وشارون مقهور ذليلٌ يُغَلَّبُ

وشتان ما طودٌ أشمُّ وقاعُه

وشتان ما ليثٌ هصورٌُ وأرنبُ

ـــ

وسمعتُ القاعَ الثانى

عنينَ بنَ المجبوبِ يقول:

ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ

لا سيفَ إلا سيفُك البتَّارُ

فرِّقْ بسيفكَ جمعَ كلِّ كتيبةٍ

فالسيفُ فى يمنَاك عزمٌ نارُ

ولأنت منصورٌ وغيرُك مدبرٌ

متعثرٌ، متمزقٌ، منهارُ

يا أيها المنصورُ دمْتَ مظفّرًا

حتى يُنَال على يديك الثَّارُ

ـــ

وسمعتُ القاع الثالث: وسنانَ بنَ الهرمةِ يُنشده:

إذا نطقَ الأعداءُ فهْو هُراؤهمْ

وإن نطقَ المنصورُ فهو جهنمُ

وسيفَكَ إن تَرفَعْ بوجه عدُوّنا

تهتَّك وجهُ الليل والليلُ أبهَمُ

ويُذْهَلُ «شارون» إذا ما بَدَهْتَهُ

فلا قلبُه قلْبٌ ولا ينطقُ الفمُ

إذا ما عزمتَ العزمَ ذابَتْ جيوشُهم

فليسَ يُرى إلا الجماجِمُ والدم

(6)

يا عزَّ الدين القسامْ

يا بنَ الإسلامْ

ما اهتزّت نفسِى للشعراءِ الغربانِ

القيعان

جوقِةِ كل بلاطٍ فى كلِّ زمانْ

لكنى اهتزّ كيانى الموجوعُ

وتَمزق قلبى المصدوعُ

إذ أسمعُ سيفَ المنصورِ

ينشج فى صوتٍ مصدور

يتحدث بالهمس المخنوقِ لَغمده:

-أطلقنى

...ولوْ لحظةْ

فُكَّ إسارى - يا غمدُ- ولو لحظةْ

إنى أختنقُ وأحتَضرُ

من سنوات

وأنا فى لحْدِكَ أحترقُ

وعْدًا منِّى

أطلقنى أتنفسُ لحظةْ

ثم أعودُ إليك

-لا.. لا أقدرُ يا مسكينُ على ذلكْ

فأنا أعلمُ

-إنك أيضا تعلم يا مسكين-

أنك عبدُ المأمورْ

وأنا لا أعدو كونى عبدَ المنصورْ

أنا يا خِدْنى ما أغمدتك طوْعًا فىأحشائى

فوجودُك يحزننى.. يُؤلمنى

يُدْمى بنْيانى..

يُصْدئُجُدْرانى

لكنَّ الملكَ المنصورَ طويلَ العمرْ

أصدر فرمانًا مرقومًا

بالسابع والستينَ وتسعمائةٍ بعدَ الألفْ:

نصُّ المرسوم- على ما أذكر-:

«باسم الشعْب

مرسومٌ لا يقبلُ نقضًا أو إبرامْ

يُتحَفَّظُ فى الغمدِ على سيفِى هذا

إكرامًا لجلال السيفْ

[تفسير]:

قد جاءَ قرارى - نحنُ الملكَ المنصورْ-

من منطلقٍ إنسانيٍّ بحتْ

فأصونُ جلالة سيفى أن تتنجَّسَ بدم الكفار

وأنا الملكُ الطاهرُ من نسل الأطهارْ

أجنحُ للسلْمْ. ما أبشعَ -فىنظرى- لونَ الدمْ»

(7)

يا عزّ الدين القسامْ

يا بنَ الإسلامْ..

وتركتُ السيفَ بقصر الملكِ المنصورِ

يجودُ بآخِر أنفاسهْ

وشهدتُ الخيلَ بساحِة قصرِ المنصورِ

طويلِ العمرْ

تتثاءَبْ...

تَتَمطَّطْ...

تتمرغُ فى أعشابِ الذلْ

تثقلُها أسرابُ ذبابٍ ترقدُ فى أعينِها

تمتصُّ الباقى من لمعانٍ وبريقٍ

ورثتهُ من خيلِ الخندقِ واليرموكْ...

سَلها.. صدِّقنى

غشيتْ أعينُها فى ليلِ القصرِ

حبيسةَ ذلٍّ وخنوعْ

ما عادتْ - يا عز الدينِ - تشاهدُ صُبحَا

أو تضبحُ ضبحَا

أو تورى قدْحَا

أو تبعث نقعًا

أو تتوسط جمعًا

...فأتيتُ إليكْ

أبكيكَ بماء القلبِ.. وأبكينى

علَّ دموعى تطفئُ ما يجتاح ضلوعى

من أوجاعى

أبكى سيفًا يستصرخُ

مخنوقا.. محروقا فى زنزانِة غمْدْ

أبكى خيلاً سلخوا منها الصهواتْ

نسيتْ معنى الكرّْ

ومعنى الفرّْ

ومعنى الأمْرْ

ومعنى النهضة للنجْداتْ

نسيتْ شكلَ القائِد والفرسانْ

فى زمن الذلة والغَثَيانْ

زمن القيعانِ الغربانْ

والخصيانْ

(8)

لكنْ ضلَّت قدمايَ إلى قبركْ

ربَّاهْ...

إنى لا أجهلُ هذا القبرَ فكيفَ أضِلّْ!!؟

...ربّاه!!!

ورأيت بكفِّ صَبيٍّ صهيونيٍّ شاهدَ قبرِكْ

وعليه بقايا خط منقوش

«...هذا قبر البطلِ القسامْ

..عزِّ الدين القسَّام..

استشهِدَ فى ال.....»

والباقى مَمْحُوٌّ - يا عزَّ الدين - من الشاهدْ

والشاهدُ فى كف الطفلِ الصهيونى

مضربُ كرةٍ يلهُو بِهْ

-يا ولدى...

إنى من وطٍن يُدّعى «الوطنَ العربيْ»

-العربيْ؟؟!!

لكنَّ مدرِّسةَ الجغرافيا

قد أنهتْ مَنْهَجَهَا الأمْسْ

ما ذكرتْ أنَّ خريطةَ هذَا العالم كُلِّه

فيهَا وطنٌ يُدْعَى الوطنَ العربى

-لا يا ولدى... وطنٌ ذو علمٍ مشهورْ

ومليكٍ يُدْعى المنصورْ..

-منصورْ؟؟! شَيْءٌ مُضْحِكْ.

أستاذ التاريخْ

لم يذكرْ شيئًا عنْ شَيْءٍ يُدْعَى المنصورْ

-يا ولدِى.. دعْنَا.. مِنْ هذا

تتكرمُ.. تُعطينى الشاهدْ؟!

-شاهدْ؟؟!!

-تعطينى اللوحَ الحجريَّا

-أُوهْ!! تَعْنى المَضْرِبْ؟!

-أعنى المَضربْ...

-لا... لا أقدرْ...

أختى وجدَتْهُ خلْفَ الحانةْ...

هَذِى الحانة

ومحوْنَا وَسَخًا أسودَ... كانَ عليه-

نُقطًا... وحروفا لم نفْهمْها

لكنْ مازالتْ فيه بَقيَّةْ...

وَعَدتْنىأمِّى أن تمْحُوَها.. بالسكّينة أو ماء النار

-تعطينى المَضْرِبَ يا ولدى بمقابل قطعِة شكلاتهْ

-شكلاتَهْ؟؟!

أمىتَنْهانى عنْ أكِل الحَلْوى والشكَلاتهْ..

انظرْ أسْنانى -قالت أمى-

تتآكلُ مِنْ أكل الحلْوى

-لا حلْوى...

تعطينى المَضْرِبَ... أعطيكَ جنيهًا

-ولماذا؟

-لى ولدٌ مثلُك أُهديه المضربَ فى عيد الميلادْ

-لكنْ يمكنُك بهذا المبلغِ... بلْ نصفِه

أن تحضرَ أجملَ بكثيرٍ من هذَا اللوحِ الحجريِّ

-يا ولدى...

عجبًا أن ترفضَ أن تعطينى شيئًا

-فى الواقع - لا قيمة لهْ

-إن كان صحيحًا ما تذكرْ

فلماذا تدفع فيه جُنيْه؟

-يا وَلدى.. إنى.. أصْلى.. أعْنى.. لَكنْ.!!

لكنى أبْغى هذَا المضربَ بالذاتْ

-لا أقدرُ

قالت لىأمِّى: «إنَّا فىوطنى الأعظمِ إسرائيلْ

لا نمنح شيئًا للغرباءْ

أن نأخذَ.. آهْ

أن نعطيَ.. لا

فالأخْذُ غَنِيمةْ

والَمنْحُ - كما قالت أمى - إِثْمٌ وجريمةْ

أستاذ التربية القومية فى مدرستي كرَّر ذلك

(9)

يا عزَّ الدين القسامْ

يا بنَ الإسلام

فى ساحة قبرك ما عادَ هنالِكَ قبرْ

لكنَّ مكان القبرِ بناءٌ يسبحُ فى الأنوارْ

وأمامَ المبنى لافتةٌ زِينتْ بالأزهارْ:

حانةُ كوهين الكبرى

الحانةُ تسهرُ حتى الفجرْ

موسيقا.. وعشاءٌ راقصْ

برنامج حافلْ

«داليدا» تشدو

أغنية ما غنتها قبلُ بحانةْ

اسمُ الأغنيَّة «كعكُ العيد»

لحنها الموسيقارُ الأعظم

... «شأموْبيد»

وقرأت هنالك أيضًا

فى لوحة برنامج هذى الليلةْ

«سالومىفى رقصةِ عِشقٍ

ما رقصتها إلا سالومى التوراةْ

(رأس يُحَنا) إسمُ الرقصَةْ

بعدَ الرقصةِ تُطفأ فيِ الصالةِ كلُّ الأنوارِ

لخمسِ دقائقْ

(10)

يا عز الدين القسَّام

يا بنَ الإسلامْ

وهنالك بعد الليل الفاجرْ

سقطَ القوم نشاوَى

وزحفتُ أعانِى سُكرْ النكبةِ والمأْساةْ

ونبشتُ الجدرانْ

وحملتُ رفاتَكَ من قاعِ الحانْ

وزحفتُ بأرض فلسطين وأرضِ العربِ المسروقَةْ

أبحثُ عن قبرٍ...

كهْفٍ...

شبرٍ فى الأرضِ

أَوارى فيه رفاتَكْ

لكنْ أعياني البحثْ

أدمَى قدمَيَّ الإعياءْ

ما عاد هنالِك فى الوطنِ العربى مكانٌ

يتسعُ لقبر شهيد

أرضُ الأوطانِ العربيةِ

شُغلتْ يا عز الدين القسَّامْ

والخالى من أرضِ الأوطانْ

قدْ سُوِّرَ بالأسلاكِ الشائكة الصمَّاءْ

وعليها لافتةٌ كتبتْها أقلامُ الذلِّ

بخطٍّ دَاعِرْ:

«محظورْ...

التصويرُ هنا محْظُورْ

محجوزْ...

محجوزٌ لبناءِ عماراتٍ للإسكانِ الفاخرْ

محجوزْ...

محجوزٌ لمشاريعَ سياحيةْ

محجوزْ...

محجوزٌ لاستثمار عاجلْ»

(11)

يا عزَّ الدينِ القسامْ

يا صرخةَ حقٍّ نبَعتْ من روحِ الإسلامْ

يا أَلَقَ وسامٍ فى صدرِ الأيَّامْ

لم يَبْق مكانٌ لرفاتِكَ

فى أرضِ الوطنِ العربيِّ المسروقْ

وطنيِ المسحوقِ المحروقْ

معذرةً يا عزَّ الديْن

أعيانى البحث

وكأنى قابيلٌ يحملُ جثمانَ أخيه

لكنْ...

أنَّى لى بغرابٍ يبحثُ فى الأرْضِ

يُرينى...

أينَ أوارى يا عز الدين رُفَاتَك؟

معذرة لا ألمحُ فى الأفق غرابَا

معذرةً...

لا أملكُ إلا أنْ أزحفَ فى هدأةِ ليلى المصلوبْ

لأعود إلى لحانِ المخمورْ

وأوارى تحت جدار الحانِ رفاتَك

وأهيلَ تراب الموتِ عليكْ

ولأخمَد أنفاسِى بين يديكْ

وأوسِّدَ فى القبرِ السافلِ

جثمانَ الشرف العربْى

ـــ

صرْنا يا عز الدين ثلاثةْ

لا... بل خمسةَ فى قبرٍ واحدْ

يعلوه الحان المخمورُ:

فى البدْءِ رفاتٌ مقهورُ

وفَتى يحيا عصرَ الغُرْبةْ

ينظمُ شعرًا

يُمليه القلبُ المفطورُ

والشرفُ العربيُّ الدامى

وحصانٌ مسلوخُ الصهْوةْ

والخامسُ سيف المنصور

مثلومَ النخوةِ والسطوةْ

أصدأه الغمدُ السجانُ

وهوانٌ يتْلوهُ هوانُ

وَلْيَحْيَ الملِكُ المنصورُ طويل العمر

في الختام:

هناك ملاحظتان لا بد من ذكرهما هنا قبل اختتام المقالة، هما: أن ما أوردناه من قصائد لا يتضمن إلا القصائد التي صدرت بعد استشهاد القسام مباشرة.

والملاحظة الثانية: أن طبيعة القسام فرضت نمطاً معيناً على القصائد (الدين، الأصولية، الجهاد، العمامة، الاستشهاد...)، لذلك فإن القصائد التي صدرت وقتها في الجرائد اتخذت صبغة إسلامية كانت بعيدة عن قصائد ذلك الزمان وأساليبها، ومردّ ذلك يعود إلى سعي القسام الدؤوب إلى إبراز إسلامية حركته وجهاده وإثباتها، بما أعاد الإسلام إلى الواجهة الثورية، كما قال عنه أحد الشعراء:

لهفي على القسام لهفة دمــــــعة

تجري على خد اليتيم بلا انقطاعْ

فهو الذي سنّ الجهاد مجـــــــدداً

وأعاد –رغم الكل- تأصيل الصراعْ

_________________________

مراجع البحث:

1– 75سنة على استشهاده ( هذه حكاية الشيخ عز الدين القسام مع الثقافة ) - بقلم: ياسر علي/ بيروت.

2-عز الدين القسام: شيخ المجاهدين في فلسطين، محمد محمد حسن شُرَّاب، دار القلم، دمشق ، ط1 ، عام 2000 م.

3-تجربة الشيخ عز الدين القسام ، علي حسين خلف.

4-التيار الإسلامي في فلسطين، محسن محمد صالح.

5-الشيخ عز الدين القسام ، حسني أدهم جرار.

6-مقالة الأستاذ عبد الله الطنطاوي عن الشهيد عز الدين القسام ، منشورة في رابطة أدباء الشام.

7-رسالة عن الشهيد عز الدين القسام ، بقلم محمد سعيد الطنطاوي ، منشورات مسجد جامعة دمشق.

8-ديوان فؤاد الخطيب، دار المعارف بمصر ، ط 1، عام 1959م ، ص 407، 415.

وسوم: العدد 1035