من أعلام دير الزور ، الشاعر مصطفى الغديّر
الشاعر المرحوم مصطفى عبدالكريم الشاعر الداعية الذي ينتمي إلى عائلة عربية عريقة من دير الزور كريمة الأصل طيبة الأرومة ، وعائلة الغدير عائلة كبيرة معروفة ولها مكانة مميزة في مجتمع مدينة ديرالزور وأنجبت هذه العائلة رجالا ونساءً. كان لهم وزن ومكانة في العلم والمعرفة ومنهم شاعرنا الذي نتحدث عنه المرحوم مصطفى الغدير ، وكعادتها مدينة دير الزور لم تحتفل بشاعرها وابنها البار فهو لم يلق العناية التي يستحقها ، وتعرض للإهمال والنسيان ، وغيبه الموت عنا مع كثير من العلماء والأدباء والشعراء والباحثين في مجالات الفنون والعلوم المختلفة ، وكاد كثير منهم أن تمحى آثاره ومآثره من ذاكرتنا الاجتماعية ، فالشاعر مصطفى الغدير واحد من عشرات العلماء والشعراء والأدباء والفنانين الأفذاذ الذين رحلوا عن هذه الدنيا الفانية، ولم ينصفهم الكتاب ويكفيهم أنهم إلى رحاب محكمة العدل الإلهية ، فمن يذكر الشاعر محمد الفراتي رحمه الله وعبدالجبار الرحبي رحمه الله ، والمعلم عبدالمنعم الرحبي ، ومن يقرأ ما كتب عن الشيخ حسين رمضان الخالدي رحمه الله ، وابنه الداعية عبد الرزاق رمضان الخالدي ، وأين الندوات التي تقام لتذكر بفضيلة الدكتور حسن الهويدي رحمه الله، لقد طوى النسيان ذكر الدكتور محمد صالح اليساوي رحمه الله ، ومحمد صالح زرقان. ومصطفى الغدير واحد من هؤلاء الذين عدتْ عليهم عوادي النسيان ، وطواهم التراب، فاندرس رسمهم ، وزال اسمهم من العقول ، وقد أكرمني الله ببعض المعلومات عن سيرته وحياته ونتفاً من شعره فأحببت أن يشاركني فيها القراء ، فحديثي في هذه العجالة عن ذلك الأديب اللامع ، والشاعر المبدع ، والناقد الفذٍّ الأستاذ مصطفى الغدير رحمه الله وأحسن مثواه.
المولد والنشأة: ولد أديبنا الأستاذ الداعية مصطفى الغدير في دير الزور عام 1945. الذي نشأ في أسرة مسلمة ملتزمة ، فشقيقه الأكبر هو الدكتور الشاعر حيدر الغدير الذي يقيم في المملكة العربية السعودية. وقد وافته المنية مؤخرا ورثاه الشاعر شريف قاسم ابن مدينة ديرالزور بقصيدة نُشرت في موقع رابطة أدباء الشام .
دراسته: تلقى شاعرنا تعليمه في مدارس ديرالزور حتى المرحلة الثانوية ، ثم التحق بجامعة دمشق فحصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة دمشق عام 1970. ثم حصل على شهادة دبلوم تأهيل تربوي من كلية التربية في دمشق عام 1969م.
عمله في التدريس: وعمل أستاذاً في مدارس دير الزور، فكان أستاذاً ناجحاً مبدعاً شهد له بذلك تلاميذه، وذلك لما يتمتع به من شخصية قوية واثقة ومن حضور مؤثر في نفوس طلابه زاد على ذلك علمُه الجمّ واطلاعه الواسع على فنون الأدب المتنوعة مع ملكة نقدية ولغة فصيحة بليغة. نشط مشاركاً في الصالونات والندوات الأدبية والسياسية ، كانت له لقاءات وجلسات علمية مع بعض العلماء والأدباء والشعراء من أمثال العالم الأديب الباحث (عبد الجبارالرحبي) رحمه الله - والشاعر المبدع حفظه الله الأستاذ (شريف قاسم) والأديب اللغوي الناقد (محسن خرابة) والشاعر (قاسم ميثاق) الذي يرى فيه أديباً بارعاً وشاعراً مبدعاً وناقداً لامعاً رحمه الله ، وجعله في عليين. وله قصيدة يطالعها كثير من أهل دير الزور ، ولكن لا أظن أنهم يعرفون قائلها. هذه القصيدة قالها منذ سنوات الأستاذ المربي الراحل مصطفى الغدير والتي من خلالها عبر بكل صدق عن عشق الديرين لمدينتهم رغم كل ما يعانونه فيها ، وهي منشورة في ديوان له بعنوان (غضب الفرات العطشان) وفيه هذه القصيدة (بطاقة حب إلى دير) التي سنقف عندها بعد قليل ، وهو من الشعراء الذين قالوا أبياتاً من الشعر في عجاج بلده لذا أحبه حباً شديداً على الرغم من أن ذلك العجاج ربما سبب للناس بعض الأمراض والأضرار وذلك الشاعر هو الشاعر مصطفى الغدير رحمه الله.
الشعر وتأجيج المشاعر: الأستاذ مصطفى الغدير من الشعراء الذين تغنوا بمدينة دير الزور في شعره ، اتصفت كلماته بالوضوح والعمق والإحساس المرهف في نظم القصائد العمودية بطريقة بعيدة عن التعقيد. ومدونة وطن التقت الشاعر محمد المضحي في 15 كانون الثاني 2014 ؛ الذي تحدث عن الشاعر مصطفى الغدير بالقول: تغنى الشاعر مصطفى الغدير بجمال دير الزور وروعتها وعطائها ، وقدم
معزوفات مازالت خالدة على صفحات الشعر لما فيها من صور ولوحات جميلة ترددها الألسن وتحفظها عن ظهر قلب ، تميز شعره بعمق المعاني وقوة الألفاظ ووضوحها وبعدها عن التعقيد ، وهو بارع في جميع بحور الشعر وفي مختلف أغراضه ، إضافة إلى حفظه للمعلقات والشعر الجاهلي بكل أنواعه، كما أن شعره يتصف بخلوه من الهفوات الفكرية والأخلاقية قال شعراً راقياً يتماشى مع روح عصره صور فيه بعض ملامح حياته وبعض معاناته في مختلف مراحلها وخاصة أثناء مرضه.
ويتابع الأستاذ محمد المضحي: برزت شاعريته في وقت مبكر وكان حضوره الأدبي متميزاً في المشاركات والأمسيات الشعرية ، فهو شاعر حاول تجديد القصيدة العمودية، وتدور معظم قصائده حول واقع الأمة العربية وحثّها على النهوض الحضاري والديني ، فشعره ذو نزعة إصلاحية ، غير أنه يعكس ذاتاً مؤججة المشاعر ونفساً جياشة العواطف ، تحتفى بالمعاني الوطنية مثل الاستشهاد والبطولة والحرية وغيرها ، له مطولة بعنوان (يا أخي) قسمها إلى دفقات شعورية ، وجعل كل دفقة في خمسة أبيات على قافية واحدة، وله قصيدة (من وحي نهر الفرات) تعكس حساً يقظاً لمعاناة الإنسان على ضفتيه. لغته جزلة ، تحتفي بالرمز، وبمستويات من التعبير المكثف حيث يمتزج الذاتي والموضوعي في تراكيب متينة ومعانٍ تتسم بالعمق والتدفق.
مسيرته في مجال التدريس: يتحدث أحد المدرسين الذين عاصروه إذ يقول: عرفته مدرساً لمادة اللغة العربية في مدارس محافظة دير الزور، ويعدُّ من المدرسين القديرين بمادة اللغة العربية ؛ فقد تميز بثقافة موسوعية. وبخاصة في مجال علوم اللغة العربية والتراث الأدبي ، وكان محبوباً لدى الطلاب من خلال طريقته المميزة التي كان يتبعها في التدريس والتي تبتعد كل البعد عن التعقيد ، وكثيراً ما كان يجلس وحده أوقات الفراغ ممسكاً كتاباً بين يديه يتصفحه فلا يضيع وقته ، ومن الأمور التي مازالت تعلق في ذاكرتي ولا أنساها عنه عندما مررت به، وهو يقرأ كتاباً في الشعر الجاهلي وكان الجو بارداً وقتها ، وقلت له: كيف تجلس وتقرأ في هذا البرد؟ فأجابني: الكتاب يدفئني يا صديقي؛ وهذه من المواقف التي لا أنساها له.
مؤلفاته : من مؤلفات الشاعر المطبوعة:
1- مرافعة في الوطن المحتل 1985، مطبعة الفيصل دير الزور في سورية عام 1985م .
2- (غضب الفرات العطشان) مخطوط.
3- (عن الشهادة والغربة) قصيدة رثى فيها الدكتور تيسير رمضان الحصاد أحد أبناء الحركة الإسلامية النجباء والذي توفي في بلاد الغربة ، وهي من عيون الشعر وقد نشرتها مجلة حضارة الإسلام الغراء الصادرة في دمشق.
وله قصيدة وردت ضمن دراسة عنه في مجلة (منارة الفرات) وله مطولات بعنوان: يا أخي - قسمها إلى دفقات شعورية ، وجعل كل دفقة في خمسة أبيات على قافية واحدة. وله قصيدة: من وحي نهر الفرات - تعكس حساً يقظاً لمعاناة الإنسان على ضفتيه لغته جزلة تحتفي بالرمز وبمستويات من التعبير المكثف حيث يمتزج الذاتي والموضوعي في تراكيب متينة ومعان تتسم بالعمق والتدفق.
وفاته: توفي الشاعر مصطفى الغدير عام 2002م عن عمر ناهز السادسة والخمسين بعد معاناة طويلة مع المرض ، ورحل شاعر الفرات بعد مسيرة حافلة بالتضحية والصبر والبذل والعطاء.
شعره: ونقدم دراسة موضوعية وفنية مختصرة : يقول في قصيدته من وحي نهر الفرات ، تحت عنوان (غضب الفرات العطشان) وهي من البحر البسيط ، وهو بحر كثير الاستعمال كالطويل وهو يقرب منه في استيعاب الأغراض والمعاني المختلفة ولكنه لا يلين لينه في التراكيب والألفاظ مع أن كلا البحرين متساوي الأجزاء ، وهو من ناحية أخرى يفوق الطويل رقة وجزالة ، ولهذا قلّ في شعر الجاهليين ، وكثر في أشعار المولدين ومن بعدهم . وقد أكثر أصحاب المديح والبديعيات النظم عليه ، ورائدهم كعب بن زهير في (بانت سعاد) وقصيدة مصطفى الغدير مطلعها يبدأ بالتصريع الذي يكسب النص موسيقا حلوة محببة
فراتُ يا شاعراً غنى فأغنانا ويا محبــــــــــــــــاً على الآماد روّانا
وردتُ نبعكَ إن صفواً وإن كدراً سرٌّ من الله ، طاب الوِردُ وازدانا
وهذا سرٌّ عجيب أن يعشق الشاعر نهر الفرات في جميع حالاته في ثورته وسكونه ، وفي صفوه وكدره ، وهو حين تجور عليه الليالي يأتي إلى ذلك النهر العظيم يشكو له جراحه وأحزانه ، فلنستمع إليه ، وهو يقول:
وجئتك اليومَ مجروحاً يسيلُ دمي هلاّ سمعتَ - قبيل الموت - شكوانا
لا شاكياً من عدوٍّ جرح أغنيتي جرح العدا هينٌ يلتام عجلانا
ولا جحوداً طوى في هول غربته كنوزَ رفدكَ نسياناً ونكرانا
لكنْ جفاء حبيب ٍ بعته عمري فراح يشتمني زوراً وبهتانا
يا بؤس قلبٍ جفاه الحبّ من ضجرٍ لا يرحم الله قلباً للهوى خانا
فهو لا يشكو للفرات الجراح والنكبات التي أنزلها الأعداء به وبأمته ولكنه يشكو إليه خيانة الصديق وغدره، ويناجي نهر الفرات، ويعتمد أسلوب التشخيص حيث يغدو الجماد شخصاً يعقل وإنساناً يتمتع بالشعور والإحساس ، ويندمج الشاعر بالطبيعة على عادة الشعراء الرومانسيين فيقول:
فراتُ عزمي انثنى من حُرقةٍ حرقتْ قلبي وخلّت إبائي البكر خذلانا
فراتُ يأسرني شوقي ويقتلني صبري وتعدو بي الأيام ألوانا
فراتُ قلبي جنونُ العاشقين به كمثل فيضك مجنوناً بنيسانا
على دروب الهوى قسّمته فغدا قيسٌ وليلى عذولي حبيَ الآنا
وتفضح الشاعر العاشق دموعه ، فيصور حبه، ويبوح به، فيقول :
حبي أعوذُ برب الحب من حسد ٍ سماحة الطيب أفياءً وأفنانا
حبي أعوذ برب الحب من عتبٍ ذخري رضيتُ بزاد الحب إيمانا
ومن القصائد المميزة والمشهورة للشاعر قصيدة (بطاقة حب إلى الدير) يحن فيها إلى مدينته ومسقط رأسه وأهله وخلانه، يشتاق إلى عجاج دير الزور، فكل ما له علاقة بالمدينة حبيب إلى قلب شاعرنا، ولو بدا فيه الضرر، فالعذاب عذب إذا جاء من الأحبة ، ويقول الشاعر في مستهلها:
أُحِــبُّ عَجَـــاجَ الدّيرِ ، خَضَّــبَ مَفرَقِـي وَكَحَّــلَ أَجفَـانِـي ، وَنَــدَّى فُؤَادِيَــــا
وأُنشُـــــقُ حَـــــرَّ الدّيرِ ، بَردَ لَهِيبَـــــهُ أَلُــوذُ بِــهِ مِـــــــن وَقـدَةِ الجَمــرِ هَانِيَــا
وأَهوَى سَمَــاءَ الدّيرِ إِن هِيَ أَمطَــرَت سَمَـائِي، وإِن وَلَّـى الغَمَـامُ سَمَائِيَــا
وأَعشَــــــقُ لَيـــلَ الدّيرِ، إِنَّ نُجــــُومَـهـــا لَتَخفِـقُ فِي قَلبِـي ، فَيَرتَــاحُ مَـا بِيَــا
وأَشــرَبُ مَــاءَ الدّيرِ ، كَـدِرَاً وَصَــافِيَــاً وَيَا طِيــبَ مَا أَلقَــاهُ كَدِرَاً وَصَافِيَـــا
وأَستَفّ تُربَ الدّير إن عضّنِي الطُّوى فأَشبـعُ منـهُ بَعدَ أن كُنــتُ طَاوِيَـــــا
وأشتــاقُ أهـــــــلَ الدّير أَلقَـى أَحِبّتــي فأَرضَى، كأَن ماجرّعُونِي التّجُافِيَـا
وأَشتَمُّ رِيــحَ الدّيرِ ، سِـــرّاً عَرَفتُــــــهُ فَتَخضَلُّ أَشوَاقِي ، وَتَشفَى جِرَاحِيَــا
وأَلثـُـــمُ حبــــاتَ الرِّمالِ كَـعَاشـــِــقٍ يَطـُــوفُ في رَبع الحَبيبـَـةِ حَانِيَـــا
وَأَرشُـــفُ مِــن خَمـــرِ الفُــرَاتِ فَــلَا ظَمَـــأٌ لِوَارِدِهِ , فَلتُبلِغُـــوهُ سَــلَامِيَــا
وهذه القصيدة تغنى بها أبناء دير الزور إعجابا بها، فهي تلامس شغاف قلوبهم لما حوته من تصوير نفسي وتشخيص حسي وكأنه روح شعرية تنطق بها ألسنة أهل دير الزور. فالعجاج التصق بذاكرة كل إنسان ديري وبخاصة في عام 1984 . الذي حفل صيفه بأعلى نسبة في أيام الربيع والصيف. فهذه السنة العجاجية حركت الشاعر فجاشت وجادت قريحته الشعرية. وبحق فهي من درر القصائد.
رحم الله الشاعر مصطفى الغدير وأسكنه فسيح جنانه.
مصادر الدراسة:
- الدوريات - خالد محمد مسطو - ملحمة غنائية للشاعر مصطفى غدير
- مجلة منارة الفرات - العدد السابع - مدينة دير الزور - حزيران 2006م .
وسوم: العدد 1125