عمر أبو ريشة

أحمد البراء الأميري

أحمد البراء الأميري

عمر أبو ريشة قمة شعرية سامقة تحتل مكانها – عن جدارة واستحقاق – بين قمم الشعر العربي من أيام امرىء القيس إلى يومنا هذا.

فهو شاعر يمتاز: بالأصالة، والإبداع، والتميز، وهو نسيج وحده له طعمه الخاص، وعطره الخاص الذي تستطيع الذائقة الأدبية الخبيرة أن تتعرف عليه في زحمة من القصائد العبقرية والشاعريات المتألقة.

وهو شاعرٌ مِفن صناع.. يعيد النظر في قصائده ويبدي، ويتأمل فيها، ويغير، ويبدل، ويزخرف ويرسم.. فلا غرابة أن تتغير القصيدة الواحدة من قصائده بحذف أو إضافة أو تبديل، كلما أعيد طبع ديوان من دوواينه.

ولعل أبرز ما امتاز به أبو ريشة في شعره هو صوره الفنية الغنية، التي توجَز أحياناً وتُركَّز في بيت أو بيتين، وتمتد أحياناً أخرى على مقطوعة صغيرة قد تتجاوز أبياتها الخمسة أو الستة عدداً.

وهذه الصور قد تكون سهلة بسيطة، سريعة الإدراك، وقد تكون معقدة تحتاج إلى التأمل والتملي في قراءتها ليصل القارئ إلى نحورها وتفصيلاتها.. ولا غرابة في هذا فالشاعر قد قضى في رسمها وتلوينها، ونسج خيوطها، وترتيب خطوطها (مع المعاناة) أضعاف الوقت الذي ينفقه القارئ، أو الدارس، أو الناقد، أو المتمتع في قراءتها وتذوقها.

وتزدحم الصور في بعض قصائد شاعرنا وتتعقد حتى ليتعب القارئ في متابعتها فيجد نفسه مضطراً أن يقرأ القصيدة الواحدة مثنى وثلاث ورباع، مرات متلاحقات أو متباعدات، وفي كل مرة يكتشف معنى جديداً وعمقاً جديداً.

لقد درس الشاعر (الكيمياء الصباغية) في إنجلترا ليحول علم صباغة الأشياء إلى فن صباغة الكلمات والصور.. وانحدر من جد هو شيخ الطريقة الصوفية الشاذلية ليعيش في حياته وفنه سبحات وشطحات صوفية..

ودرس اللغة الإنجليزية وآدابها، ونظم فيها شعراً، وأعجب برواد الشعر الرومانسي فيها (شيلي، وبيروت، وكيتس) لتظهر في شعره وفكره ملامح رومانسية واضحة.

إن عمر أبو ريشة شاعر موهوب فنان.. صقل موهبته وفنه بالدراسة الطويلة والمران الطويل، وكان تركيزه في قراءة الشعر وحفظه وتذوقه على الجيد المختار القليل، لا على الكم الغزير الكثير.. وأولع بالتنقيب عن المعاني الطريفة النادرة التي لا يلتفت إليها أكثر الدارسين وأطال الوقوف عندها.. فقد كان – بدافع المبالغة في الاعتزاز بالنفس – يحب أن يكون مميزاً في كل شيء، ولقد سمعته مرة يقول في أحد المجالس الأدبية، بعد أن أنشد بعض شعره، وانتشى به وبإعجاب الحاضرين:

"سأنشدكم من شعر عشر شواعر نابغات لم تسمعوا باسم واحدة منهن وهذا تحدّي"

رحم الله أبا ريشة، وغفر له، لقد ولد شاعراً، وعاش شاعراً، ومات شاعراً.