(نائل عثمان) شهيد التعطش إلى المطلق بمواجهة الوثنيين الأسديين !!!

(نائل عثمان)

شهيد التعطش إلى المطلق بمواجهة الوثنيين الأسديين!!

د.عبد الرزاق عيد

عنوان مقالتنا قد يوحي بأننا نتحدث عن شخصية تاريخية (كانت لا تقنع بما دون النجوم) كما يعبر المتنبي، عن أولئك المتطلعين لإمساك المطلق والاتحاد به كما يقول المتصوفة.. وهو الاتحاد بالمثل الأعلى، تعبيرا عن شوق الأرض نحو معانقة السماء على حد تعبير أفلاطون..

نائل شاب مثلنا نحن أبناء معظم جيله المشبعين بالقيم والمتعطشين دائما إلى مطلق المثل العليا، حيث لا منطقة وسطى بين الجنة والنار كما يعبر أستاذ أشواق جيلنا الشاعر الكبير نزار قباني : نحو العروبة المطلقة –الوحدة العربية المطلقة، هزيمة حزيران المطلقة التي تدعوه للتخلي عن هويته العربية المهزومة، شاعر الهوى والشباب والحب الفروسي المضحي بأعز ما يملك نحو من يحب، شاعر الجسد الذي لا يرتوي من الحياة، شاعر صوفية الروح التي تعانق مآذن دمشق بوصفها تتنفس بالأروح كالأشجار.. جماليات قراءة القرآن على لسان عبد الباسط عبد الصمد ... أو الإشعاعات اللدنية من كوة أحواض الأنوار العليا التي كانت تترأرأ في رباعيات الخيام في الحان السنباطي التي يرتلها صوت أم كلثوم ... في مناخات الكلاسة الحي الشعبي الذي انتعشت نفوسنا بآذان جوامعه الكثيرة، وبصوت شارعه الذي كان يمثل مطلق الوحدة بمطلق العروبة، فيمن سيسميه نزار قباني صوت العروبة المطلقة بـ(آخر الأنبياء) بعد وفاته..

في هذه الفضاءات الوجدانية الرومانسية نشأ جيلنا الخمسيني، التقينا في المرحلة الابتدائية أنا القادم من أريحا، ونائل القادم من كفر تخاريم، وربما لكوننا قادمين من محافظة واحدة (ادلب) ولكنة لهجوية تختلف عن اللهجة الحلبية، رغم أن محافظة ادلب لم تعلن إلا حينها كمحافظة مستقلة عن حلب ...

ربما جمعنا الشعور بالغربة وسط الأطفال في مدرسة اليرموك الابتدائية بحي الكلاسة، بالإضافة إلى تميزنا الدراسي الذي أعطانا شعورا معنويا عزز ثقتنا بأنفسنا ... بل والطريف بالأمر أننا بقينا حتى التصفية الختامية بمكاسرة اليد، وسط تحشد التلاميذ وصراخهم وهتافهم، رغم أن المرحوم الشهيد نائل لم يكن كبير الحجم، مما أثار دهشة الجميع من زملائنا الأطفال ضخام الحجم على ما يتمتع به من قوة بدنية، ولاحقا القوة الاقتحامية والجرأة والشجاعة ... هذا الأمر أيضا سيعزز تقاربنا، حيث طفقنا نبدو (كاثنين متلازمين) حلفا قويا في مواجهة تعديات المشاغبين والمشاكسين والراغبين في العراك معنا من زملائنا الحلبيين، وذلك عندما كنا لا نزال نلفت الانتباه بلكنتنا الادلبية التي يقوم بمحاكاتها الأطفال الحلبيون سخرية وإغاظة لنا ... . قبل أن نندمج باللهجة الحلبية بسرعة بسبب صغر سننا..

هذا التشابه الذي يبلغ درجة التماثل لهجة وبيئة محلية والذكاء المدرسي والتقارب في القوة البدنية المشاكسة والمنازعة والصدام والعناد، جعل من نائل الصديق الأثير اليومي ليس في المدرسة فحسب، بل وفي الحي والحارة القريبة ...

ولما كان هو أكبر أخوته وأنا أصغر أخوتي، فكان أيسر لنا أن نلتقي في بيتهم، حيث كان يخجل نائل من أخوتي الكبار في منزلنا، بينما كنا في بيتهم كلنا صغارا ترعانا المرحومة والدته بأمومة وحنو وكأني واحد من أولادها، لم أرها يوما غاضبة من أحد، مما شجعني على المزيد من (الاندماج) بعائلة الشهيد، حيث كانت تفيض أمومة من خلال نظراتها وابتسامتها الرؤوم، رحمها الله فقد كانت تمثل صورة رائعة في رمزيتها لمعنى الأمومة العظيمة والخالدة ...

لكني كنت دائما أستشعر الرهبة من حضور أبيه، رغم أنه رحمه الله لم يكن يوما يمارس الأبوة التقليدية للأب الشرقي القاسي، ولم أسمع له صوتا صارخا أو مؤنبا، فهو من أولئك الرجال الذين يتسلل احترامهم ومهابتهم إلى نفس الآخر بمهابة (وكاريزما ناعمة نفاذة) ... كبرنا وكان يكبر معنا سلوكه الأبوي وطريقة تعامله ومخاطبته، حتى بدأنا نستشعر نوعا من خيط الصداقة تجمعنا به، مع الحفاظ على المسافة الضرورية من الوقار الذي يميز حضوره، إذ لا يتكلم إلا همسا وإيجازا مختصرا القول بما قل ودل، ولعل ابنه (نبيه) الأصغر من نائل –حفظه الله -أقرب إلى طباع أبيه، من الشهيد نائل أو من طباعي أنا صاحبه الأميل إلى الطبيعة الغضبية والمشاعر الحماسية والاندفاع إلى الحدود القصوى، عاكسين ثقافة مرحلتنا الرومانسية المتعطشة إلى إمساك المطلق باندفاع وعواطف جياشة .. في الثقافة والسياسة والحياة....

بدأنا نتأثر بالثقافة اليسارية والأفكار الاشتراكية، وكنا متحرجين من مصارحة والده بحقيقة تأثرنا هذه، ونحن أبناء بيئة محافظة فكريا وسياسيا، تنوس بين البيئة الدينية والقومية، الأخوانية والناصرية، لكن ما فاجأنا أن والده أعطى (نائل) ثمن كتاب يتحدث عن الاشتراكية العلمية، فكان موقف المرحوم (أبو نائل) مفاجئا لنا في عدم اعتراضه على نقاشنا وحماسنا، لكنه أعطانا درسا عقلانيا وحكيما في التفاعل مع الأفكار والنظريات، وهو: اقرأ وتعلم، قبل أن تؤيد أو تشجب، وبعد أن قرأنا الكتاب، فاجأنا بمعارفه الموسوعية، فراح يصوب لنا فهمنا واستنباطنا لدلالات ما قرأنا ونحن مذهولون من سعة ثقافة (أبو نائل) الذي كان موظفا على أساس شهادته الابتدائية، رغم معرفته بعدد من اللغات..

نحن كنا في الثانوية في هذه الفترة التي بدأ أبو نائل يحاورنا ليس في الاشتراكية فحسب، حيث كان يخفف من غلوائنا لأنه بنضج تجربته الحياتية والثقافية، كان- رحمه الله- يستشعر (نزعة الاندفاع المتعطش للمبادئ والمثل العليا عند ابنه وصديقه عبد الرزاق) ويعلم بحصافة درجة التأثير المتبادل بيني وبين ابنه، فراح يرعانا سوية، عندما وجد في ابنه اندفاعا أقصى حتى النهايات، فقد كان الرجل معتدلا في دينه ودنياه، فعندما كان يجد منا إفراطا في التشدد الديني بـتأثرنا بكتابات المرحوم سيد قطب، كان يخفف من غلوائنا بذات الدرجة عندما يجدنا مندفعين نحو أفكار اليسار، ولعله رحمه الله كان يخشى علينا من اندفاعنا نحو أفكار الاشتراكية من أن لا ننزلق إلى مواقع (البعث)، سيما في فترة عقائدية البعث الراديكالية الشعبوية في (الستينات) قبل تكشف البعث عن ديماغوجيته ولفظيته الشعارية (الصوتية) وفساده وفاشيته الايديولوجية الراهنة..

كنا نلتقي، بشكل مضطرد أمام بيت نائل الجديد الأقرب إلى ساحة الكلاسة، وكان والده الكبير(أبو نائل) بين الفينة والأخرى، تشده نزعته (العقلانية التنويرية الحوارية)، ليقف بيننا نحن الشباب أبناؤه، ليسمعنا حديثا تحليليا نقديا عن هزيمة 5 حزيران 1967، ومنذ تلك الفترة كان الرجل يرفض أن يسميها (نكسة وفق خطاب الأنظمة البعثية والناصرية التي عممها لسان الإعلام العربي حينها (محمد حسنين هيكل)، بل كان يشدد على أنها (هزيمة) بكل المعايير السياسية والعسكرية والحضارية التي تستدعي نقدا عميقا ليس للسطح السياسي العربي، بل لعمارة بنية المجتمع العربي المهزوم ...

كانت تحليلاته واستنباطاته أعلى من مستوى تفكيرنا نحن الشباب طلاب الثانوية من جيل ابنه نائل، لكن كان يلفت انتباهنا أحد المشاركين الدائمين لهذه الحلقة النقاشية على الواقف أمام المنزل، لأن بيت (أبو نائل) كان أصغر من أن يستوعب عدد الحلقة التي كانت تكبر كل يوم، والتي تحولت إلى ما يشبه الطقس اليومي، بعد العصر أمام بيت شهيدنا (نائل) الذي كان يسارع بالتنسيق مع أمه (أم نائل) العظيمة لتحضير ابريق الشاي الذي تناوله من خلف الباب ونحن نسمع للعم (أبو نائل) ... مما أضفى على هذا اللقاء طابعا حميما، وعلى هذه الزاوية من الشارع صفة الورشة الثقافية التي حفظنا ميعادها، وكنت أكثر الملتزمين بها بسبب اعتباري لنفسي أنني من أهل البيت، ,حيث اخشى من النظرات التأنيبية الصامتة المترفعة المعاتبة والمحبة من العم (أبو نائل) التي تشعرك بالذنب أكثر مما تشعرك بالإدانة لتأخري، سيما أنه كان يعتبرني –مثل ما أعتبر نفسي-من أفراد العائلة ...

لا بد في هذا السياق التنويه بدور عنصر أساسي في هذه الحلقة، وهو الأستاذ أحمد ديبة الذي كان صديقا لنا، لكنه أكبرنا سنا، وكان قد تخرج من الجامعة قسم اللغة العربية، وبدأ فورا بتدريس البعض منا في الثانوية الأقرب لحينا بما فيها المعري، وقد يستغرب القارئ الحلبي الذي يعرف حلب جيدا، وهي أن ثانوية المعري بالحميدية، حيث قضيت فيها سنة وقضيت السنتين الاثنتين بثانوية المأمون الشهيرة، والمدرستان الثانويتان يفترض أنهما الأقرب للكلاسة ...

الأستاذ أحمد ديبة الذي بدأ شاعرا موهوبا قريبا من المدرسة (القبانية) بنزقها العاطفي المشاعري والحسي نحو الانثى، والسياسي (الناصري) نحو القضايا الوطنية والقومية، فكان بذلك يرضي أمزجتنا السياسية القومية، ويرضي تفتح أحاسيسنا الشبابية وتلهفها للحديث الدائم عن المرأة والفتيات ... .

الأستاذ أحمد ديبة الذي أتمنى وأدعو له الشفاء من مرض السكر الذي تمدد إلى عينيه، والذي أدعو له بطول العمر والسلامة، كان ممثلا في حيويته ويقظته العقلية للشباب الحلبي ابن البلد المعطاء بدون أثرة، المعتدل المتوازن في عنفوانه العاطفي واندفاعات الشباب، وتقوى قيم ابن بيئة مسلمة محتشمة محافظة، أي دون غلواء في الانصياع لغوايات النفس الأمارة بالسوء، وبدون انطواء يقفل على العقل هواء الحياة ويسجنه في زنازين العصور الوسطى.. والأستاذ ديبة بسبب طيبته الفطرية كابن أصيل لحلب، كان يقف باحترام شديد مصغيا للعم (أبو نائل)، دون أن تأخذه العزة بأنه مدرس متخصص جامعيا، وأنه يفترض وفق الأمراض النرجسية الذاتية التي أشاعتها الأسدية بسوريا، أن يكون بموقع المتفوق على رجل لا يحمل الشهادات العليا مثله، فكان يسر لنا عندما نخلو لأنفسنا بعيدا عن عمنا الكبير، أنه بحضرة (أبو نائل) يشعر بأنه بحضرة أستاذ حقيقي أكثر من كل أساتذته بالجامعة، ليس بالتحليل السياسي فحسب، بل وفي معرفة التراث والتاريخ والفقه والأدب والفلسفة ... حديث صديقنا وأستاذنا أحمد ديبة -عافاه الله- بحديثه الشهم بدون أثرة عن أبي نائل، كان يعزز شعورنا بأستاذية (العم أبو نائل)، وذلك عندما نكتشف أن علومه ومعارفه ليست متفوقة علينا نحن الشباب، لتعطيه حق الأستاذية علينا كطلاب ثانوية شباب فقط، بل وحتى على أستاذنا المدرس في الثانوية الحائز على الشهادة الجامعية كصديقنا وأستاذنا أحمد ديبة ... .

كنا نطالع أنا ونائل الأدبيات الاشتراكية والإسلامية بنهم شديد في هذه الفترة تحت عين حذرة من قبل أستاذنا أحمد ديبة الناصري الهوى الذي أشك أنه التزم حزبيا مع أحد من الفصائل الناصرية، في حين أنني ونائل كنا نهيم في متاهة البحث عما يروي ظمأنا الروحي للحقيقة، لأن أسئلتنا كانت تتخطى الأسئلة السياسية باتجاه الأسئلة (الوجودية)، المتعلقة بالجبر والحرية ومعنى الوجود، وعلم الكائن (الأونطولوجيا)، وغيرها من الأسئلة التي تتخطى أعمارنا ... إذا كان صديقنا وأستاذنا أحمد ديبة ينظر بحذر سسياسي لمآلاتنا السياسية بين اليسار الناصري أو اليسار الشيوعي أو التيار الإسلامي، إلا أن والده (ابو نائل) لم يشعرنا يوما بأنه يريد تعبئتنا لصالح فكرة أو يجيشنا ويحشدنا لصالح تيار أو مذهب، كان سعيدا- فيما يبدو لي- بابنه وصديقه اندفاعهم العارم للبحث عن طرقهم المعرفية في الحياة بدون تبشير أو وعظ أو تعبئة، كان يسلس لنا القياد بأن نصل كشباب إلى ما نبتغيه على ضوء أسئلة العقل ومرجعيته، أي كان يرعانا عقليا –حواريا- دون أن يجيشنا شعاريا وراء ايديولوجية معينة، مما كان يجعل من هذا الرجل وفق استعادتي لذكريات طفولتي ويفاعي معه، وكأنه سابق لزمنه فكريا وسياسيا وتربويا، لكن القدر لم يمهله إذ اختطفه الموت وهو كهل لم يدخل مرحلة الشيخوخة، وأظن أن وفاته المبكرة هذه ستترك أثرها الظاهر الحاد على كبير أبنائه نائل وهو طالب ثانوي، وعلى كل العائلة في بلد متخلف لا يحسن حماية مواهبه وكفاءاته ومن ثم يكفل حياة عوائلهم من غوائل الدهر، ليس معاشيا فحسب، بل وتوجيهيا واداريا وقياديا عقلا وحكمة ورشادا، كان من الصعب فيما قدرت لا حقا أن يتمكن أحد أن يملأ فراغ أب عملاق كأبي نائل ... وكم كنت أتمنى أن أتوفر على الموهبة العظيمة لنجيب محفوظ، لتناول نموذج (أبو نائل) روائيا، بوصفه نموذجا مضادا لصورة الأب الشرقي (سي سيد) البطركي الشرقي ابن الفئات الوسطى الازدواجي سلوكيا بين عالم الليل (وانفلات الغرائز) وعالم النهار(حيث الوقار الأبوي الشكلي التسلطي)، لقد كان أبو نائل نموذجا لابن الفئات الوسطى المدنية العقلانية التنويرية الوسطية في دينها ودنياها باعتدال ونزاهة ونبل أخلاقي وأبوية فياضة في الحب بدون أن يكون فيها أية تسلطية شرقية نحو الأبناء والأم والبنت..

وكم كان يتدخل بهذه العقلانية المتنورة ليعدل جذريتنا (الراديكالية) الشبابية المندفعة نحو مثلها العليا عبر التضحية بالواقع، وذلك من خلال الحلم الشبابي في الارتفاع بالواقع إلى مستوى العقل، وذلك لعقلنة الواقع، وإحلال العقل محل الرغبات ... سيما في مرحلتنا اليسارية المندفعة في مجتمع حلبي -سوري محافظ، فكان (أبو نائل) يستوعب راديكالية ابنه المتطرفة في رفض الأعراف والتقاليد التي تشكل الكساح العقلي والنهضوي لمجتمعاتنا المتأخرة .. مما كنت أحرج منه أمام والد صديقي الحليم دون زجر أو تعنيف الذي كان يأخذه –كما يأخذنا جميعا -بالحلم الجميل ...

ولقد شاءت الأقدار في تلك الفترة أن تسوقني لحلقة الشيخ جميل العقاد رحمه الله، في الجامع الكبير حيث كنت (أختلف) إليه في شهور رمضان بعد السحور، ولعل ذكري لفعل (اختلف: بمعنى عاد ورجع)، ذكرني بها شيخنا الجليل الشيخ جميل العقاد الذي كان يمقت طه حسين أشد المقت، حيث طه حسين كان مشهور عنه أنه كان يستعمل فعل (اختلف) بمعنى (عاد وتردد إلى)، وكنا كشبان صغار تمتعنا بل وتفتننا هذه الاستعمالات الطريفة الباهرة للغة .. حتى اكتشف رحمه الله الشيخ جميل ميولي لقراءة طه حسين وإعجابي به، فوبخني مؤنبا بخفة ظله المعروفة ودعابته المحببة، وكان يتعامل مع الجميع كبارا وصغارا بهذه الروح الأبوية المؤنبة، لكن بمسحة من الدعابة التي لا تترك أثرا جارحا في نفس متلقيها، حتى كنا نتثاقل (نتغالظ) عليه لكي يؤنبنا لكي نتمتع برشاقة غضبه الطيب الجميل وبروحه البهيجة المرحة، التي كسرت عندي عقدة التخشب والتصلب والتقطب الملازمة لرجال الدين، حيث حينها درسنا نصا ناقدا لاذعا للجاحظ بتهكمه من أحد شيوخه، فيذكر بأن شيخه هذا لشدة ولعه بإظهار الرصانة والرزانة (التزمت)، فإنه إن وقفت ذبابة على جبينه لما تحرك لكي لا يفسد وضعية (حبوته – جلسته الرصينة)، لكن يبدو أن صديقي الشهيد نائل تعرف على مجموعة من الشيوخ الصارمين في جامع حيه (البيدر) المطل على ساحة الكلاسة، أردت استقطاب نائل لشيخي (جميل العقاد) لكن يبدو أن الذي انتصر، هو شيخ (الجاحظ) الصارم.. إذ بدت على حركات صديقي وايماءاته هذا الميل للركون والصرامة وتخفيف سعة الابتسامة، والابتعاد عن الضحكات الصاخبة المفعمة بالنشوة والفرح بالحياة التلقائية كأبناء بيئة مجتمعية شعبية تتمتع بتسامح هائل تجاه فحش بعض الكلمات أو النكات أو التعبيرات .. حيث بدأت أستشعر أن ثمة مساحة راحت تفصل بين طريقة استجاباتنا التلقائية والعفوية التي رافقت طفولتنا ... أردت حينها أن أشده إلى حلقة فضاءات حلقة (جميل العقاد)، وحينها دعاني لألتقي بأساتذة له –أظن- في جامع البيدر ... فلم يأت معي ولم أذهب معه، وترافق ذلك مع انتقال عائلتي من حارتنا الشعبية في الكلاسة إلى حي سيف الدولة الحي الحديث نسبيا ... ومن ثم ذهابي للجامعة وتفاصلي وتباعدي عن نائل التي فرضته ظروف الحياة ... سيما بعد أن أخذ الزي الإسلامي التقليدي (الحركي)، في حين أنه في مرحلة يفاعه (اليسارية الحداثية) كان أكثر تطرفا مني باتخاذ مظاهر اللبس الحداثي (الموضة) والأناقة وقصة الشعر وتطويل السالف في بداية موضته، مما يبدو ذلك مميزا وملفتا بحارتنا الكلاسة الشعبية التقليدية...

ربما يعود سبب ذلك لهذه التربية المتسامحة التي لا تتدخل بشؤون (الآخر: بما فيها الابن)، والتي كان يعكسها سلوك أبيه الذي لا أعرف إن كان يمكن تسميته بالسلوك (الليبرالي المنفتح)، على عكس بيئتنا التقليدية المحافظة دينيا وبشكل أكثر (ذكوريا)، حيث كان والدي رحمه الله، أقرب في تقليديته المحافظة إلى ثقافة (العيب)، أكثر من ثقافة (الحرام)، كوالدتي الجامعة بين المحورين (العيب / الحرام) ... .ولهذا فإن إطالة الشعر كانت تصطدم مع ثقافة ذكورة العيب الأبوي، أكثر من ثقافة الحرام ... ولهذا كنت دائما أخشى من ثقافة (عيب) الوالد التي هي أقل تسامحا من ثقافة الحرام، إذ دائما فإن مبدأ(العيب) يرتبط بمفاهيم قيم الرجولة وعدم (التأنث : أو التخنث)، ومرجعية ذلك على الأرجح تعود لتربيته الثقافية الشبابية القتالية في جبل الزاوية (الجتى)، حيث كانت فترة شبابه في ثورة هنانو في احسم مركز ثورة مصطفى حج حسين، بينما قائدهم السياسي ابراهيم هنانو الذي كان (ابن كفر تخاريم بلدة فقيدنا: نائل)، ولعل هذه المسافة القيمية بين (العيب والحرام) هي ما يفسر الموقف المتسامح من (الخمر) في مجتمعنا اجتماعيا وذكوريا، لأنه محكوم بثقافة التدين وليس ثقافة العيب، أي هو ليس نتاج (ثقافة العيب بل ثقافة الحرام)، بمثابته سلوكا ذكوريا (مرجلة)، رغم تغطيتهم لموقفهم الرافض للخمر أمام أبنائهم، هو التلطي تحت فتوى (الحرام) ... وهناك مسائل كثيرة تستحق التوقف السوسيو- سيميولوجي لقراءة دلالة الظواهر الاجتماعية بين (العيب والحرام) في ثقافتنا الاجتماعية بين المعاشي والديني ... .

في إحدى محطات لقاءاتنا التي غدت متباعدة بعد انتقالي من الحي، وقد كان ذلك لتعزيته بوفاة والده وأستاذنا (أبو نائل)، وكنت مصدوما وحزينا لأني لم أتمكن من المشاركة في جنازة الرجل، ليس لأنه والد أعز أصدقائي فحسب، بل لشعوري بالأبوة الروحية نحوه، وأن ثمة ركنا كبيرا في معمار شخصيتنا (ابنه وأنا) قد تقوض وفقدناه، عاتبت نائل المطمور بالحزن بشدة، لماذا لم يبلغني بوفاة أبيه ... أدركت صعوبة ذلك ... سيما أننا في بيتنا الجديد أو في بيتهم القديم لم يكن ثمة هاتف حينها ...

طبعا أدركت حجم الكارثة التي ستحل بهذا البيت الكريم الوديع بفقدانه (لرب البيت) الذي لم يكن ربا معاشيا فحسب، بل كان ربا معنويا يملأ النفس بالأمان والثقة ... وكان يظهر أثر ذلك على نائل الذي ربما كانت مظاهر تدروشه واستسلامه لأقدار الله تعبيرا على حسمه الأمر مع خياراته في طريق اختيار الخيار الإسلامي، ولقد عزز هذا الشعور عندي، أني عندما رغبت أن أعرف أين رسى مركبه السياسي، فورد على لساني اسم البوطي إن كان قرأه، ففاجأني بجواب حاسم بأن هذا البوطي، هو (بوطه) أي (الحذاء العسكري) في اللهجة السورية، عندها أدركت أن صديقي قد أخذ خياره (الراديكالي الحاسم) على عادته ووفق قوانين استجابات الطبيعة التي أودعها الله فيه ... . حينها كسرت إيقاع الحزن، وعدت إلى نوع من الدعابة والمشاكسة قائلا له: منذ زمن وعندي شعور بأنني سأفتقدك، لأنه صحيح أنني مثلك في الحماس والاندفاع والاصطدام، لكن أظن أن جرعات اندفاعاتك وصداميتك أكثر من جرعاتي منذ طفولتنا، حيث معظم معاركنا مع زملائنا ومشاغباتنا ومغالباتنا والشكاوى علينا ومعاقبة المعلمين لنا، كانت بسببك، حيث أنك دائما تبدأ العراك، فخرج من دائرة حزنه قليلا مفترا عن ابتسامة شاحبة قائلا بذات الدعابة: "ما شاء الله عليك أنت.. كم أنت موادع ومسالم ؟؟".

فضحكنا مغالبين مشاعر الحزن، وقلت له : يا صاحبي عندما كنت اشتراكيا يساريا كان إخلاصك لفكرة العدالة والاشتراكية يجعلني أتوقع دائما بأنك ستغادرنا فجأة لتلتحق بجبال أمريكا اللاتينية للقتال مع غيفارا ... أما الآن فأنا واثق بأنك ستلتحق بمروان حديد، وكنت حتى فترة قريبة أعتقد أن صديقي نائل استشهد في مجزرة تدمر، وهو واحد من تنظيم الطليعة، حتى فوجئت من فترة قريبة أنه كان من تيار الأستاذ عصام العطار، حيث أورد هذه المعلومة الراحل حسين عاقو في تسجيلاته على الكاسيت، كما وأكد لي ذلك شقيق (نائل) العائلي والفكري والأخلاقي (نبيه عثمان) ... بعد هذه المعلومة كان علي أن أبحث عن تفسيرها، فما كان يمكن تفسير التحاق نائل (البركاني) الاندفاع بتيار (العطار)، إلا بتأثيرات أبيه (العقلانية المدنية الحضارية) التي هي الأقرب إلى ترسيمة العطار الفكرية، والأكثر ميلا للحس المدني الاعتدالي في الحراك الإسلامي بنموذجه التركي، حيث يبدو لنا أن الأستاذ العطار هو أقرب الشخصيات الإسلامية لمدرسة التنوير الدستوري الديموقراطي للإمام محمد عبده ...

وكان واضحا أن تمايز خياراتنا لن يؤثر على عمق مشاعر الصداقة والود التي جمعتنا خلال مرحلة الطفولة واليفاع وبداية الشباب..

ولذا عندما قرأت خبر استشهاده في مجزرة (تدمر) في جريدة الأخوان النذير في باريس، عندما كنت طالبا للدراسات العليا في باريس، ذهلت من هذا الشعور الذي كان يسكنني دائما بأن (نائل) منذور للتضحية والفداء، في أي طريق سار أو اختار، مادام يسكنه هذا الشعور الصوفي العظيم الذي عبر عنه كبار المتصوفة على لسان الإمام محمد عبده (الاتحاد بذات "الخلق" هو الطريق للاتحاد بذات "الحق") ...

عندما عدت إلى حلب أوائل الثمانينات، أردت أن أزور أهله مطمئنا على العائلة، استقبلتني أمه (أم نائل) وهي تبكي، لم تكن تعرف خبر استشهاده، فأخوه (نبيه) الذي يمكن أن يخبرها كان رهين الاعتقال في السجن، وبينما إخوته الباقون كانوا صغارا ... قالت أم (نائل رحمها الله) موضحة لي سبب قعودها على سجادة الصلاة خلف باب المنزل: بأنها كانت تنتظر نائل وراء الباب منذ اعتقاله، لتكون أول من تعانقه... عبرت أم نائل بهذه الجملة عن صوت مئات آلاف الأمهات والزوجات والبنات والأخوات الذين خطف السفاح الأسدي الأب أفلاذ أكبادهن ... ليأتي الابن (المعتوه الثأثاء الأثدي) ليواصل معركة أبيه ضد شعب سوريا التي احتلها، وذلك بعد أن توطن في خلاياه وغرائزه التعطش لدماء شعب مستوطنته فبزّ الاستيطان الصهيوني وحشية وبربرية وهتكا للقيم والشرف والأعراض وذبح الأطفال، ردا على تعطش شعبه المطلق إلى الحرية والكرامة ...

حملت غصة البكاء في حلقي وخرجت، وأنا أسائل نفسي: هل علي أن أقول الحقيقة لأم نائل المنتظرة لنائل خلف الباب ... حتى الآن لا أعرف إن كان علي أن أقول لها الحقيقة !!!؟ ... حقيقة قتله على يد العائلة الأسدية الشيطانية التي لم تتوقف حتى اليوم عن ذبحها وإهدارها لدم شعب سوريا قربانا لإلههم (رع الأسدي : رب أرباب الرعاع البدائيين الغريزيين أكلة لحوم الأطفال)، واليوم تتقدم القرابين علنا وصراحة على يد ملالي الصفويين وولي فقهائهم المجوس قربانا وزلفى لربهم المجوسي (إله النار- وإله المشاعية الجنسية التي تم الباسها ثوب (المتعة) ...

المشهد الأخير لصورة نائل الراسخة في ذاكرتي والتي طالما رويتها للأهل والأصدقاء، بل ولأهله، سيما للمرحومة أم نائل التي كانت تتابع قصتي بشوق ومتعة، حيث كانت تتخالط دموع الفجيعة بدموع البهجة بذكر اسم ابنها نائل.. وأنا أمام بهجتها المغمسة بالألم أطيل في رواية حكايتي وأردد بعض تفاصيلها طالما هي تتابعني سعيدة بالحديث عن نائل ... وتعود وتسألني عن بعض التفاصيل التي أظنني قد أعدتها عدة مرات على مسامعها ... وأظن أني لابد شوقت القارئ بأن يشارك أم نائل بهجتها بذكر اسم ابنها الرائع (نائل) في هذه الحكاية..

بعد سنوات طويلة من التباعد، كنا في طريقنا لخوض معركتنا (القومية) ضد ما كنا نسميه سخرية، (العدو العراقي الشقيق)، فتقاطعت قافلة لوائنا، وقافلة لواء (نائل)، حيث كنا نقضي الخدمة الإلزامية في الجيش الأسدي، فقد شاركت شخصيا بكل تحشيداته (القومية) على حدود العراق، ولبنان، والمخيمات الفلسطينية ...)

وأنا على ظهر شاحنة (الزيل) التي بدأت الإقلاع، كنت أسمع صوتا مناديا باسمي، فالتفت وإذا هو نائل يهرول وراء (شاحنتنا) مراهنا على وقوفها، وكلما كانت تزداد سرعتها كان يزيد سرعة ركضه متحركا باندفاع لا شعوري بأنه سيصل إلينا ... ناديت على السائق أن يقف وأنا أهم بالقفز من الشاحنة، فرد علي بعصبية بأنه يستحيل أن يقف –هل أنت مجنون – لأننا ضمن قافلة طويلة.. لا يمكنني أن أقف لوحدي ... !.

نائل يصر على الركض وأنا أصر على القفز وسط دهشة الأصدقاء معي على ظهر الناقلة وقلقهم من مغامرتي الطائشة بالقفز، بعد أن بدا (الرتل) أنه قد انطلق وليس هناك ثمة احتمال للتوقف ... .لكن نائل لم ييأس كعادته المندفعة دائما نحو الأمام بدون تردد، وأنا طالما كنت أراه جاريا كنت أهم بالقفز!! والأصدقاء يمسكون بي، بقينا على هذه الحالة من التوتر والقلق والرغبة الجامحة باللقاء المفعم بالشوق والخوف، وكأننا نريد الانتصار على ظروف الحياة خوفا من أن تعاود قطع السبل بيننا كما حدث من قبل، فلا نلتقي، وهذا ما حدث بأننا بعدها لم نلتق أبدا..

قال الأصدقاء مداعبين : أية صداقة يمكن أن يسكنها الشوق والشغف بهذا الشكل ... لو كان أحد منا مكان صديقك.. هل تغامر بالقفز من الشاحنة وهي تسير من أجلنا كأصدقاء تحبهم ... قلت لهم : لكن ليس بينكم صديق يركض بهذا الجموح واللهفة والشوق كما يفعل صديقي نائل ... ليس بينكم من يحمل قلبا حارا متعطشا للمطلق : (مطلق الله المتفتح عن فيض مطلقاته الكونية اللامتناهية : مطلق الحرية ومطلق العدالة، ومطلق الكرامة ... وتلك هي معجزة ثورة شعبنا سلما وحربا اليوم ... .منذ بداية درب آلام الحرية الذي دشنه نائل وجيله الشهيد الذي أثمر عن هذا الجيل الثوري الشاب العظيم الصانع لثورتنا المباركة ...

ولذا قلت لهم ليس بينكم مثل نائل يا أصدقائي ... .صورة نائل تتوالد اليوم وتتناسخ في صورة شبابنا الذي يبدع ويبتكر ثورته الأروع في التاريخ الحديث، إنها الثورة الأروع لأنها في مواجهة العدو الأبشع والأشنع ...