أحدثكم عن الدكتور عبد الحليم عويس

محمد عبد الشافي القوصي

محمد عبد الشافي القوصي

[email protected]

بعد مسيرة طويلة طويلة بطول الحياة وعرض الزمان؛ عايش فيها سنوات الانكسار وأعوام الانتصار، واطَّلعَ فيها على سائر الأديان والمذاهب والفلسفات، وأشرف على عديد من الرسائل العلمية، وشارك في مئات الندوات والمؤتمرات، وقرأ آلاف الكتب والمراجع، وخاض شتى المعارك الفكرية، وانتصر على فلول العلمانيين وبقايا الماركسيين، وإخوانهم في "الرضاعة"!

أجل! لقد شرّق وغرّب، وتوغل في بواطن المدن وحافات البوادي، من دلهي إلى وهران، ومن مرتفعات الأناضول إلى أدغال أفريقيا .. فالتقى الساسة والمفكرين والعلماء، كما صاحب البسطاء والباعة الجائلين!

وبعد هذه الأسفار الطويلة، وهذا السباق العلمي المحموم، ووسط هذا الصراع الحضاري المحتدم؛ ترجّلَ الفارس، وألقى سيفه ورمحه، وخلع لامّته، وهوى النجم، ومات المؤرخ والمفكر الإسلامي الدكتور/ عبد الحليم عويس!

*   *   *

رحل أستاذنا الجليل؛ ليجني ثمار جهاده في حقل الدعوة المملوء بالألغام والمفروش بالأشواك، فما بدّلَ وما غيّر، وما وهن وما استكان لِمَا أصابه، بلْ كان محتسباً ماله وخطواته ومعاناته، ولسان حاله يقول: (إنْ أريدُ إلاَّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاَّ بالله)! فكمْ أنشأ من الكتاتيب والمعاهد، وشارك في دعم الجمعيات الخيرية، وتبنَّى طُلاَّب العلم والمغتربين، وآواهم، وكفلهم مادياً ومعنوياً ..

كُـنّـا  نَـظُنُّ دِيـارَهُ مَـملوءَةً      ذَهَـباً فَـماتَ وَكُـلُّ دارٍ بَـلقَعُ!

*   *   *

لقد كان -هذا الرجل- من طراز فريد؛ فلا يكلّ ولا يملّ من البحث والقراءة حتى آخر لحظة في حياته! فكان يمسك بالكتاب واقفاً أوْ جالساً، بلْ أثناء الطعام، وعند النوم!

ومما أذكره أنني عندما أكون معه في سفر؛ يطلب مني أنْ أقرأ له ويستمع بعناية وتركيز شديد! بلْ أحياناً يمليني لأكتبَ مما جادتْ به قريحته، أوْ مما فتح الله به عليه!  

إلى جانب ذلك؛ كان خطيبًا مفوهًا؛ يملك أسماع مستمعيه وأفئدتهم بأدائه الفذ، ونبراته المؤثرة، وعِلمه الواسع!

وقد شغل الدكتور/ عويس- مناصب كثيرة، منها: نائب رئيس الجامعة الاسلامية الدولية، ومستشاراً لوزير الحج السابق، كما تولى رئاسة تحرير مجلة (التبيان) التي تصدرها الجمعية الشرعية.  كما نال كثيراً من الأوسمة والنياشين تقديراً لدوره المتميز في الدفاع عن الحضارة!

 أجل! فقد أنفق –الكاتب الكبير- عمره كله مجاهداً باللسان والقلم، فألقى مئات المحاضرات، والدروس، وتنوعت مؤلفاته لتشمل التشريع الإسلامي، والدراسات القرآنية، والأدب، والتاريخ، والفلسفة، وغيرها حتى بلغت حوالي سبعين كتاباً، أهمها: فقه التاريخ في ضوء أزمة المسلمين الحضارية، تفسير التاريخ علم إسلامي، إنسانية الإسلام، شخصية الرسول في ضوء المقاييس البشرية، التأصيل الاسلامي لنظرية ابن خلدون، أربعون سبباً لسقوط الأندلس، الشيخ الغزالي: تاريخه وجهوده وآراؤه، وابن حزم الأندلسي (وهو موضوع الدكتوراه التي نالها من دار العلوم). وكان آخر مؤلفاته: المجرمون المائة أولهم قابيل وآخرهم مبارك! وبعد هذه الرحلة الطويلة مع التأليف والتحقيق والتدريس والوعظ والإرشاد؛ ثم انطلق مسرعاً إلى (مساكن
طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم)!

*   *   *

لقد بدأ –أستاذنا- نشاطه العلمي وهو لا يزال طالبًا، وكتب آلاف المقالات النارية في الصحف والمجلات الإسلامية، وكان منهجه الإصلاح، والتقريب، وردم الفجوات، وتضميد الجراح النازفات، وكان سلاحه الحب، والدعوة بالتي هي أحسن ... ولِمَ لا؟! فهو من دعاة "الوسطية الإسلامية" التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتوازن بين الثوابت والمتغيرات، ولا تنسى الماضي ولا تنعزل عن الحاضر ولا تغفل المستقبل ... ولا عجب في ذلك! فمنذ طفولته سلك صراطاً سويّا، وكان بالأزهر وعلمائه حفيّا، وكان يتردد على الصالحين بكرةً وعشيّا!

*   *   *

لعلَّ أبرز ما كان يميز علاقتي بالأستاذ الكبير؛ النقاش الحاد، والحوار الساخن، خاصة في القضايا التاريخية، والمسائل الفقهية والعلمية! أذكر أننا كنا نستمع لتلاوة من سورة القصص، فسألني: لماذا قال القرآن الكريم (ولكن أكثرهم لا يعلمون) بينما قال في سورة يوسف: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)؟ قلتُ له: هذه لفتة جميلة، أجبني عنها بالله عليك. فقال: لنْ أعطيك الإجابة بسهولة! بعد قليل سألته: ترى لماذا قال: (ووجد من دونهم امرأتيْن تزودان) ولمْ يقل (فتاتيْن)؟ فقال: هذه لفتة رائعة، أجبني عنها يا هذا. فقلتُ له: لن أعطيك الإجابة بسهولة! فضحك بصوتٍ عال، وقال: هذه بتلك!

سكت برهة، ثم قال لي: مادمتَ تجيد المبارزة الكلامية، فأخبرني: لماذا قدّم (علّم القرآن) على (خلق الإنسان) كما جاء في سورة الرحمن؟: قلتُ له: سأجيبك عنها بشرط أن تجبني: لماذا قال: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) من أنهما لا يستخرجان إلاّ من الماء المالح؟! فقال: لوْ أجبتكَ ماذا أنت صانع؟ قلتُ: لنْ أجادلك بعد اليوم. فقال: لا تجادلنا .. ولا نجادلك!

*   *   *

ذات مرة- رآني غاضباً بسبب الأقلام الماجورة التي أرادت النيل من الشيخ/ محمد الغزالي- فقال لي: هوّنْ عليك يا أخي؛ لا يستطع أحد أنْ يوقف النهر الجاري .. وكل هذه الكتابات التافهة سيطويها دجى النسيان، وستلقى في مقالب القمامة، ثم تهوي بها الريح في مكان سحيق! ولكن يبقى ما كتبه (الغزالي) يطبع ويترجم إلى شتى اللغات، ويتردد على المنابر بالغدوّ والآصال!

*   *   *

على الرغم من الحدة التي كانت تعتري –أستاذنا- في بعض الأحايين؛ إلاّ أنَّ النكات والمِلَح والطرائف لا تفارقه أبداً! منها على سبيل المثال: أنني غِبتُ عنه فترة طويلة، فسألني أين اختفيت؟ قلت له: كنتُ مشغولاً بإنجاز موسوعة "أعلام الصعيد في القرن العشرين". فقال على الفور: هل أنا منهم؟ قلتُ له: لا .. لأنَّ علاقتك بالصعيد أشبه بعلاقة امرئ القيس بالكمبيوتر! فتبسم ضاحكاً، وقال: يُروَى أن أحد أجدادي الأوائل عاش في الصعيد! بلْ هناك رواية أخرى ينقصها السند تقول: إنه عاش ومات في الصعيد الجواني!!

 الحق أقول: هنالك حكايات ومواقف لا تحصى بيني وبين هذا العالِم الكبير، لكن الموقف الذي لا أنساه؛ أنني عندما أهديته كتابي (مُحمَّد مُشتهَى الأمم) وكان وقتها طريح الفراش؛ انتفض قائماً، وراح يضم الكتاب إلى صدره بقوة، ويُقبّل كلمة "مُحمَّــد" مرات ومرات، حتى أجهش بالبكاء!!

  لقد رحل –شيخنا- ليرتاح من عناء الدنيا، وضيق حواريها، وجوْر ساكنيها، فصعد إلى جنة عالية قطوفها دانية! ليُحلَّى فيها بأساور من ذهبٍ ولؤلؤا ولباسه فيها حرير!

فحيّ على جنّاتِ عدنٍ فإنها     منازلنا الأُولى وفيها المُخيّمُ!