من النساء المثاليات في البصرة

كاظم فنجان الحمامي

عمتنا أم طالب أنموذجا

كاظم فنجان الحمامي

[email protected]

بمناسبة اقتراب اليوم العالمي للمرأة, والذي يتناسب مع حلول اليوم الثامن من آذار (مارس) من كل عام, أهدي هذا الموضوع لكل امرأة فاضلة, ولكل أم مكافحة, ولكل زوجة صالحة, ولكل أخت عفيفة. .

كاظم فنجان الحمامي

كانت عمتنا أم طالب رحمها الله امرأة عصامية, ثاقبة البصر والبصيرة, شملتنا كلنا بعطفها ورعايتها, فكنا على اختلاف انتساباتنا وتباين ارتباطاتنا الأسرية نظن كل الظن إنها عمتنا الحقيقية, كان عطاؤها شرياناً خالداً لا ينضب, وكان كفاحها سجلاً تاريخياً كُتب بمداد من نور. .

تحدت الصعاب, وقهرت الظروف فعبرت بأسرتها إلى بر الأمان, ضحت وثابرت وكافحت, وقدمت الكثير لزوجها وأبنائها, فتحملت مشقة الحياة بكل صبر. .

حملت معاناة الأمومة, وأوجاعها, فشاب قلبها وشبابها وهي تحفر في الصخر, وتنحت في الجبال العالية. تجاهلت أفراحها, وسارت وحدها لتحمل أبنائها فوق هام الكون, من دون شكوى, ومن دون أنين, ناضلت وحدها لتصنع لأولادها حياة رغيدة, لم تعرف الفرح ولا السعادة إلا والمرض العضال قد أخذ منها كل بهائها قبل أن تبلغ الشيخوخة. .

ولدت في عشرينيات القرن الماضي في بيت من البيوتات الشريفة النسب, لعائلة هاشمية قرشية في محافظة ذي قار, فوالدها هو السيد حميدي, بن عُبيد, بن أحمد زويِّن, بن مهدي, بن محمد, بن عبد علي, بن زين الدين زويِّن, بن رمضان, بن صافي, بن عواد, بن محمد, بن عطيش, بن حبيب الله, بن صفي الدين, بن الأشرف الجلال, بن موسى, بن علي, بن حسين, بن عمران الهاشمي, بن أبي علي الحسن, بن رجب, بن محمد زماخ, بن طالب طريش, بن عمار, بن المفضل, بن محمد الصالح, بن أبي العباس احمد البُن, بن الأمير أبو الحسين محمد الأشتر (نقيب الكوفة), بن عُبيد الله الثالث ,بن علي المُحدِّث, بن عُبيد الله الثاني, بن علي الصالح المعروف بالخيّر (بتشديد الياء), بن عُبيد الله الأعرج, بن الحسين الأصغر, بن علي زين العابدين, بن سبط سيد الثقلين أبو عبد الله الحسين, بن فارس المشارق والمغارب علي بن أبي طالب. .

تزوجت بمدينة (أور) في أربعينيات القرن الماضي من ابن عمها السيد هاشم بن السيد عباس, وكان يعمل سائقا في القاطرات البخارية على الخط المتري القديم, بين محطة المعقل, ومحطة غربي بغداد, أحب مهنته وشغف بها, حتى اكتسب مهارة وخبرة, فتفوق بذكائه وفطنته على أقرانه في المنطقة الجنوبية, بيد أن الأقدار لم تمهله طويلا, إذ انفجر بوجهه مرجل القاطرة الممتلئ بالبخار المحمص, ففقد بصره مبكراً, وهو في عنفوان شبابه, ولم تجد نفعا العمليات الجراحية المتكررة, التي أجريت له في مستشفيات البصرة, ثم في المستشفى الأميري بالكويت, ثم أرسل لغرض العلاج في النمسا على نفقة مديرية السكك الحديدية, لكنه لم يتماثل للشفاء, فخرج من الخدمة, وأحيل إلى التقاعد, وظل حبيس الدار حتى وفاته في البصرة عام 1994. .

أصيب رجل الأسرة وفقد بصره, فوجدت نفسها في مواجهة المصاعب والتحديات, مشتتة تماما بين رعاية الزوج الضرير, ورعاية الأولاد وتربيتهم, وبين إدارة منزلها المحتشد بأبناء عمومتها وأبناء أخوالها الوافدين من الريف هربا من جور الإقطاع, أو طمعاً بفرص العمل في مؤسسات البصرة المنفتحة على العالم, فارتدت السواد, وحزمت أمرها معلنة الحرب على المصاعب كلها, وهكذا واصلت معاركها, وهي تضع الأوجاع بين دفتي أضلاعها, التي حملت همومها, وأجلت دموعها وأشجانها, حتى بلغ أولادها الكمال, الذي كانت تتمناه لهم منذ نعومة أظفارهم. .

أنجبت ابنها البكر (طالب) عام 1942, كبر (طالب) فأدخلته المدرسة الابتدائية, وما أن وصل السادس الابتدائي حتى اضطر إلى العمل في مرآب القاطرات على الأجور اليومية بوظيفة مؤقتة, حملتها له الصدفة على يد رئيس المهندسين (محمد عبد العزيز سعود), كان هذا المهندس مرافقا لسائق القطار (السيد هاشم) في فترة التطبيق العملي لمادة الميكانيكا, فتعلم منه ألف باء صيانة القاطرات وإدامتها.

تخرج (عبد العزيز) في الخمسينيات, وصار مهندسا بارعاً, لكنه لم ينس نصائح (السيد هاشم) وتوجيهاته, فسأل عنه عام 1955 أثناء زيارته الخاطفة للبصرة, فقالوا له: انه فقد بصره في حادث مؤسف واعتكف في منزله, فبادر إلى رد الجميل بتشغيل ابنه (طالب) بقرار استثنائي لإسعاف أوضاعهم المعيشية, وهكذا أصبح (طالب) أجيرا يعمل من الصباح إلى المساء بمرتب شهري يقدر بسبعة دنانير وخمسمائة فلس, لكنه كان يضع راتبه كله بيد والدته, ويواصل دراسته ليلا في رحلة يومية مرهقة من المعقل إلى العشار, يمتطي فيها دراجته الهوائية القديمة, ذهاباً وإياباً. .

كان (طالب) يتهرب أحياناً من الورشة متأبطا كتابه في محاولات دءوبة للمذاكرة في ساعات الدوام الرسمي, كان شغوفا بالمذاكرة كلما سنحت له الفرصة لذلك, وبخاصة في مواسم الامتحانات الفصلية, فيلوذ في زوايا الورشة, مبتعداً عن ضجيج القاطرات, وصادف أن عثر المشرف العام (السير هنري توماس كبس) على التلميذ المثابر في إحدى خلواته مع الكتاب, فعلم منه إنه يعمل في النهار ويدرس في الليل, فتعاطف معه وشمله برعايته, وسمح له بمغادرة العمل بعد الظهر. .

واصل (طالب) دراسته المسائية بتشجيع من عمتنا حتى تجاوز عتبة الإعدادية, فأصبح في عام 1966 موظفا مثبتا على الملاك الدائم, لكنه لم ينقطع عن الدراسة, ولم ينقطع عن العمل, فحصل على البكالوريوس في الاقتصاد عام 1976, ونال درجة الماجستير باختصاصه عام 1979, فأصبح مديرا عاما للمنشأة العامة لميناء المعقل, ووكيلا لمدير عام الموانئ حتى عام 2003. .

كانت عمتنا أم طالب تشعر دائماً بأن هناك شيء يجب أن تفعله لأبنائها, لأن الأم الطموحة تنجب أبناء طموحين, ويظهر هذا الطموح في مواصلة حثهم ومؤازرتهم للارتقاء نحو القمة. .

أنجبت ابنها (جليل) عام 1945, فأكمل دراسته الابتدائية والثانوية, ثم التحق بالكلية العسكرية, فتدرج في صنف القوة الجوية, حتى وصل إلى رتبة مقدم في الجيش, لكنه فارق الحياة بحادث تصادم عام 1987. .

أنجبت ابنها (خليل) عام 1946 فسار على نهج شقيقه الأكبر, حتى نال درجة الدكتوراه في التاريخ, مارس التدريس في جامعة البصرة, ثم انتقل للتدريس في الجامعات العربية خارج العراق. .

ثم أنجبت عام 1953 ابنها (أحمد), الذي اختار الدراسات البحرية, حتى أصبح مرشداً بحرياً, وكان من الرموز المينائية الذين نفخر بهم, ونعتز بانجازاتهم حتى يومنا هذا, فأصبح مديرا عاماً للنقل البحري, ومديراً للموانئ العراقية, ومديراً لشركة الظلال, ومديراً للنقل الخاص, ومديراً لشركة الجسر العربي. .

وأنجبت عام 1957 ابنها (محمود), الذي سار على النهج نفسه, فأكمل دراسته الجامعية, وصار مديراً للسكك في المنطقة الجنوبية. .

جاء من بعده (حامد) المولود عام 1960, والذي واصل دراساته العليا في الرياضيات, حتى نال درجة الدكتوراه باستحقاق عال, وهو الآن يمارس التدريس في الجامعات العربية خارج العراق. .

اما ابنها (محمد) المولود عام 1962 فقد انصرف للعمل في القطاع الخاص, وتخصص في متابعة شؤون العائلة, أنجبت بعده ابنها الأصغر (عادل) المولود عام 1965, والذي أنهى دراسته الجامعية برعاية أشقائه الكبار, ويعمل حالياً مديراً فنياً في إحدى تشكيلات وزارة الصناعة, أما آخر العنقود فكانت ابنتها الوحيدة سناء (أم عامر) المولودة عام 1967, والتي واصلت دراستها الجامعية حتى نالت شهادتها العليا في الدراسات الإنسانية, فاقتحمت معترك العمل الاجتماعي بقوة, وتفوقت في المشاريع الخيرية والتطوعية, وهي الآن مديرة منتخبة للرعاية الاجتماعية في محافظة ذي قار . .

وهكذا قدمت عمتنا أم طالب للمجتمع ثمرات كفاحها وكدها على طبق من فضة, أهدته المدير الناجح, والدكتور والباحث, والأستاذ الفاضل, والموظف المجد, والمواطن الصالح, والإنسانة التي خدمت الناس ووفرت لهم الرعاية الاجتماعية. .

كوكبة من الرجال المتفوقين إداريا وأكاديميا واجتماعيا وامرأة واحدة أنجبتهم عمتنا أم طالب, التي لم تعرف في حياتها شيئا غير التضحية والبذل والعطاء, سهرت على رعايتهم, أعطتهم كل ما لديها, بذلت لهم كل ما في وسعها, لم تنتظر الجزاء أو الثواب, ولم تنتظر حتى كلمة شكر على ما أدته طوال مسيرتها الشاقة. .

لقد أفنت شبابها وأفنت جهدها وطاقتها لتصنع من أبنائها شيئا تفتخر به, غذتهم بحبها وحنانها حتى عرفوا قيمة الحياة وقيمة النعمة, ولتكون لهم أماً وأباً, فشهدت تخرجهم, وتفوقهم, وتميزهم. .

عمتنا أم طالب من النساء القلائل اللواتي أول من يستيقظن داخل البيت, وآخر من ينمن, اللائي عيونهن تراقب كل صغيرة وكبيرة, وعلى عاتقهن تقع مسؤولية المنزل وسكانه من زوج وأولاد, وربما أقرباء مقيمين بصفة دائمة, أوقاتهن يقضينها في خدمة هذا وهذه, وفي تلبية طلبات ذاك وتلك, وفي رعاية شؤون البيت مع الحرص على تدبيره. .

كانت حاضرة في كل المناسبات, متأهبة لتحضير ما يلزم من طعام وتنظيف وترتيب وغسل, لا يهدأ بالها إلا والارتياح مرسوم على ملامح المنضوين تحت لوائها, تضحي بسعادتها في سبيل إرضائهم, راضية بالعناء والتعب الذي تكبدته من أجلهم. .

كان بيت عمتنا (أم طالب) ملاذا للمحتاجين, وموطنا للمعوزين, كانت حاضرة دائما في قلوب الذين عرفوها وفي ذاكرتهم, تطعم الجياع بيديها, توفر لهم المأوى الآمن, تجمع جيرانها على التواد والتلاحم, توحد كلمة أخوانها على الخير والإحسان, حاول الزمان أن يقهرها فقهرته, وحاول الحزن أن يقضي عليها فأسرته, وحاول الضياع أن يسلبها صغارها فانتصرت عليه بإرادتها الصلبة. .   

كانت عمتنا (أم طالب) امرأة مثالية مباركة, حيثما حلت, وحيثما ذهبت, متميزة في بيتها, وبين جيرانها, وبين أبناء عشيرتها, تعلمنا منها كيف نقهر المستحيل, وكيف نعبر الصعاب, وكيف ننتصر...