بدوي الجبل

محمد سليمان الأحمد

بدوي الجبل

محمد سليمان الأحمد

كرامتي الحجر الصوان ما ازدردت        إلا لتهشيم أنياب الذي ازدردا

كغابة  الليث  إن  مر  العدو  بها        رأى الزماجر والأظفار واللبدا

"بدوي الجبل"

ولد محمد سليمان الأحمد في قرية "ديفة" التابعة لمحافظة اللاذقية. وقد اختلف دارسوه على تاريخ مولده، فقال بعضهم كسامي الكيالي والدكتور عمر الدقاق، أنه ولد عام 1903، وقال غيرهما إنه ولد سنة 1904. وجاء في كتاب (من هم في العالم العربي) لجورج فارس، إنه "ولد عام 1908 في اللاذقية، وهو ابن المغفور له الشيخ سليمان الأحمد، بيد أن قيده في السجل المدني يدل على أنه من مواليد سنة 1898.

وبالرغم من تضارب أقوال الأدباء والباحثين حول تاريخ مولد هذا الشاعر العربي الكبير، فإنه لم يتصد لهذا الموضوع ولم يكترث له، وحسبه أنه أعطى أمته من جهده وإخلاصه وأدبه الرفيع، أوفر العطاء، وأسمى المحبة والوفاء.

كان فتى طري العود غض الإهاب، عندما قدم إلى جريدة "ألف باء" قصيدة لمس فيها الأستاذ يوسف العيسى، صاحب تلك الجريدة ورئيس تحريرها، شاعرية متوقدة، ومعاني شريفة، منبعثة من قريحة خصبة صافية. وبدلاً من أن يذكر اسم ناظم عقدها "محمد سليمان الأحمد" ابتدع اسماً شاعرياً استمده مما رآه يومئذٍ في زي الشاعر الجبلي نفسه فسماه "بدوي الجبل" فقد كان الشاعر يلبس عباءة عربية، وعلى رأسه كوفية وعقال مقصب.

وصدرت جريدة "ألف باء" وفي صدرها قصيدة بتوقيع "بدوي الجبل"، وأقبل الناس على قراءة تلك القصيدة بشغف، ووقفوا أمام معانيها البديعة معجبين، وراحوا يسألون عن اسم صاحبها دون أن يهتدوا إليه.

ولم يرض الشاعر في أول الأمر عن لقبه، بل آثر أن توقع قصائده باسمه الصريح، ولكن شيخ الصحافة السورية يوسف العيسى رحمه الله، أقنعه بوجهة نظره، وأكد له أنه سيكون لهذا اللقب شأن عظيم في عالم الشعر والأدب.

وبعد أن نشر بدوي الجبل مجموعةً من قصائده الحافلة بالسلاسة والجزالة والتجديد، ذكر الأستاذ العيسى اسم الشاعر، فأكبر القراء ذلك الفتى، الذي يترقرق في شعره نفس المتنبي، وديباجة البحتري، فضلاً عن الصور الرائعة والخيال المجنح، وأيقنوا أن سورية قد ظفرت بمن يضارع "شوقي" في حلبة القريض.

ومنذ ذلك الحين، تألق نجم "بدوي الجبل" في سماء الشعر العربي، وتناقلت قصائده الصحف والركبان، وأصبح اسمه وأبياته على كل شفة ولسان، فهو شاعر العبقرية والعروبة والجمال، يصوغ خرائده البكر، بدافع من قلبه العامر بالوطنية الفذة الراسخة، وبوحي من روحه الهائمة بالحسن والفن، ويحلق في أجواء بهية رائعة سامية، تتكسر تحتها أجنحة النسور، وتعجز عن إدراكها أشعة النجوم.

في شعره جدةٌ وقوة وانسجام، وفي عاطفته صدق ونقاء وحنان، وفي إلقائه عذوبة وفصاحة وبيان، وبين جوانحه مجموعة نادرة من الرقة والعفة والشمم. تراه فترى الشاعرية بطابعها الأصيل، وتحادثه فتشعر بجاذب خفي يشدك إليه، ويقيم له في فؤادك عرشاً من الحب والإعجاب.

وديع كالحمل، متواضع كالبنفسجة، طاهر الضمير كزنابق الحقل. يكره الظهور ويمقت الأبهة، ويعشق البساطة في جميع مظاهرها، ويحمل على الغرور والكبرياء حملات عنيفة، ويكسب بلسم اللطف والعطف والسلوان، على جراح الكادحين، وحاملي التعب والبؤس والحرمان. ذو قريحة سخية، وتفكير، وثاب، وذوق سليم، ولغة متينة تمكنه من سبك معانيه في أدق القوالب الشعرية وأكثرها إحكاماً. وليس هذا بمستبعدٍ من شاعر نهل من مورد الفن، وترعرع في خمائل الوحي، وعانق عرائس الإلهام.

قوي الأسلوب، دقيق التعبير، بديع الصياغة اللفظية، يمتاز بروحه المثالية، وبموسيقاه الشعرية، وبقدرته الفائقة على رسم نبضات القلوب، وخلجات الصدور، وانطباعات العواطف، في مقطوعاته الاجتماعية تحليل منطقي فلسفي لمختلف أعراض النفس البشرية، وفي ملاحمة الوطنية، تقديس للإيثار والتضحية، وتمجيد البطولات والمروءات.

بارع في وصف الطبيعة وتصوير أرضها وسمائها، وحسنها وبهائها. ينقلك على أجنحة الخيال إلى عوالم نائية كلها زهر وظلال، وروعة وجمال، ويجعلك تنشق عطر ما يصف من أنواع الورد والريحان، أما إذا حمل على الجور والباطل، فعاصفة هوجاء تقتلع جذور الشر، وتجتاح دعاة السوء، وتساعد الموتورين على الخروج من ظلمات الإرهاق، إلى أضواء الحرية والدعة والاطمئنان..
غنى في أعراس المجد، ومهرجانات البطولة، وأعياد الجلاء، أغنيات تفيض بالفخر، وتزهو بحلل الإبداع وبآيات الأدب الحي، فرددت الحناجر أغانيه، وترنم الوطن العربي بأناشيده وأغاريده.

لم يحد عن هدفه، بل ظل في أيام يسره وليالي عسره، مؤمناً بعقيدته الوطنية، ورسالته القومية، وحق بلاده بالرفعة والاستقلال الناجز التام. ومن يدرس آثاره الشعرية، يلمس الفضل والنبل مجمسمين في نفثاته، ويرى بدوي الجبل رسولاً من رسل الخير والنجدة، يبشر بالمحبة والأنفة والكرامة، ويدعو الناس إلى التكاتف ونبذ الضغائن والأحقاد، والوقوف صفاً واحداً في وجه العدو الغاصب.

سار في موكب المناضلين الأحرار، وثبت أمام عواصف الشدائد والمصاعب والمحن، وفتح صدره لسهام المتحاملين، وكان في كل مواقفه كالطود المنيع، لا يهتز ولا يعرف الوهن إلى فؤاده سبيلاً. فأصحاب المبادئ هم الفائزون دائماً في معركة الواجب، وعلى جباههم تضفر أكاليل النصر والظفر.

رافق الرعيل الأول من أقطاب السياسة السورية، وأنشد في المؤتمرات الوطنية والمجتمعات الشعبية، قصائد أيقظت الهمم وألهبت العزائم ودفعت الشعب السوري الأبي إلى المطالبة بحقه، وإلى الذود عن حياضه، وإلى الثبات أمام فوهات البنادق.

يقف على المنبر وقفة الليث الهصور في صدر العرين، فترنو إليه العيون وتشرئب نحوه الأعناق، ويسود الحفل صمت وخشوع، ويلقي ما فاضت به قريحته بلهجةٍ عربية نقية صافية، فتخرج الكلمات من بين شفتيه رقيقة حلوة تستقر في أعماق القلوب، وتستأثر بالخواطر والنفوس وتنتزع صيحات الإكبار. ولا بدع، فللشعر حرمة وجلال، وللشاعر المجاهد الحر قدر واعتبار، ولقوافيه الحافلة بالرقة والقوة والإشراق تأثير سحري عجيب، يهز الأمم ويبني الممالك ويخلق الحضارات.

سمعته لأول مرة بحلب في ذكرى هنانو، فأخذت بسحر القول، وثملت بخمرة الوصف الأنيق، وأحسست بنشوة علوية تغمر قلبي، وتهيمن على مشاعري، وتنقلني إلى عوالم بعيدة عن الأرض قريبة من السماء، تحفل بصور البطولة وتموج بفرق الصناديد الأباة، وتريك العربي السوري، يقارع الكتائب، ويطارد الفرسان، ويكافح بلا هوادة في سبيل السيادة والاستقلال.

وسمعت الشاعر نفسه في حفلة وطنية كبرى أقيمت في عهد الانتداب الفرنسي، فرأيت بدوي الجبل ينتفض انتفاضة الأسد الجريح ويثور ثورة البركان الغضوب، ويصب حمم النقد والنقمة على أعداء الحرية، دون أن يخشى السجن، أو يرهب النفي والتشريد. فقد خلق الشاعر باسلاً أبياً، لا يخاف العدوان والطغيان، ولا يعلن غير ما يعتقد أنه عدلٌ وسداد.

ساهم بدوي الجبل في الحركة الوطنية وهو تلميذ ناشئ. وعندما فرض علينا الانتداب الفرنسي، خاض غمار السياسة شاباً قوي العقيدة بعزة أمته وكرامة وطنه، وراح يناهض المنتدبين مناهضةً لا هوادة فيها ولا لين. وجرت عليه السياسة الويل، فنفي وسُجن وشُرد، ولكن النفي والسجن والتشرد، لم تفت في عضده ولم تثنه عن عزمه بل زادته عزماً وتصميماً على مقارعة الاستعمار بمختلف مفاهيمه وأشكاله.

وعرف له مواطنوه ما بذل من تضحيات، وقدروا ما صاغ من شعر وطني متقد بالحماسة اليعربية، فانتخبوه في عام 1930، نائباً عن اللاذقية وتكرر انتخابه ست مرات، وولي الوزارة أربع مرات، دون أن يغيره المنصب الرفيع، أو يصرفه عن حب الأدب والأدباء، بل على العكس ازداد تواضعاً وتمسكاً بموهبته الأدبية المتأصلة في نفسه الطيبة.

في ربيع عام 1954 حينما كان وزيراً للصحة والإسعاف العام، زار مستشفى الكلمة وافتتح سجل الكلمة الذهبي بهذه الآية النثرية البليغة:

"إن نور الله يشرق في حساب الزمن ربيعاً، وفي حساب الأعمار شباباً، وفي حساب السرائر والضمائر حنواً على الإنسانية المعذبة، ورحمة على آلام الإنسان مرضاً وفقراً وعجزاً، فمرحى ثم مرحى لأستاذنا الكبير السيد فتح الله الصقال، لما أشرق من نور الله في قلبه، ولما غمر الإنسانية من حنانه وحبه".

دون بدوي الجبل كلمته هذه، في يوم الاثنين 26 نيسان 1954 وفي ذلك اليوم الميمون، أتيح لي أن أجالس وأحادث الوزير الشاعر، أو على الأصح الشاعر الوزير لأن الوزارة زائلة، أما الشعر المرصع بدرر البلاغة والحكمة والبيان النضيد، والمنبعث من عاطفة إنسانية سمحة، ومن أعماق قلبٍ مؤمن بحق وطنه بالحرية والعيش الكريم، إن شعراً كشعر بدوي الجبل، باقٍ بقاء الشمس في قبة الفلك. ومن شاء برهاناً على ما نقول، فليقلب صفحات التاريخ، وليقارن بين أبي الطيب المتنبي، وبين من عاصره من أمراء ووزراء، وليقرر بعد ذلك، أيهم أعظم وأبقى على الزمن، في نظر الأجيال المتعلمة الصاعدة.

في تلك الجلسة الوادعة الممتعة، استمعت بكل جوارحي إلى حديث هذا الإنسان الكبير بخلقه ومشاعره السامية، بعد أن كنت قد سمعته في مهرجانات المناضلين، وذكريات المجاهدين، فأيقنت أنه رجل مرهف الحس، مشبوب العاطفة، بعيد مرمى التصور، يشعر بما لا يشعر به سواه من آلام البشر وأرزائهم، ويرى ما لا يراه غيره، من علل الناس وجراثيم المجتمع. ولا غرو، فإن للشعراء نظراً حاداً يقرب الأبعاد، ويجلو الغوامض، ويبصر دقائق الحياة على علاتها، ويميز بعين الموهبة، ما لا يستطيع أن يميزه كثيرٌ من الناس.

ودارت الأيام، فأبعد عن دمشق ثم عاد إليها عزيزاً مكرماً. وتتابعت جلساتنا في منزله العامر، واشتركنا معاً في مؤتمر الأدباء العرب الثامن، الذي انعقد في عاصمتنا الفيحاء بين 11/12 و 16/12/1971 تحت شعار "الأديب العربي ومعركة المصير" فكنت أراه على ما كان عليه من لطفٍ وتواضع، في أنفة وشمم. وكثيراً ما كان يستمع إلى بعض قصائدي ويشجعني بكلماته الحلوة المستحبة.

وفي عام 1966 أصدرت ديواني الثاني "حصاد الذكريات"(1) وما كدت أرسل نسخةً منه إلى ذلك الشاعر الألمعي الملهم، حتى كتب إلي رسالة منحني فيها فوق ما استحق من تشجيع وثناء، ومما قاله:

"لا أعلم أيهما أصلح وأملح، وأعبق بالعطر والنور، أشعرك الغني بالعاطفة والخيال والصور والنغم على ديباجةٍ من وشي الحرير، أم شمائلك الندية بالوفاء والإخاء".

"ديوانك شعر، والإهداء الذي صدرته فيه شعر، فقد أعدت في هذا الإهداء ذكريات هنانو وبطولاته وفتوحاته، وأعدت فيه ذكريات غالية أصيلة للأخ الكبير، والإنسان الكبير الأستاذ فتح الله الصقال، وما رتح الاعطاف من أريحياته ومروءاته وانتصاره للحق والحرية في محنة الحق والحرية يومئذٍ، برائع من بيانه ورائع من إيمانه".

"أخي، ما كان ديوانك بحاجة إلى من يقدمه، حتى ولو كان الشاعر الكبير الأستاذ محمد عبد الغني حسن. خير ثناء على قارورة العطر، أن تفتح، فيتأرج النسيم، ويسكر الشميم. والعطر والنور والشعر من معدن واحد، تستغني بجوهرها، ولا يستغنى عن جوهرها، وتصف نفسها، ولا يستطاع وصفها".
إنني أعتز بهذه الرسالة وأمثالها كل الاعتزاز، وأرى أن بدوي الجبل قد ملك ناصية الشعر والنثر معاً، فهو أمير الفنين وسيد المبدعين.

ولست هنا في معرض الاستشهاد بشعره، فهو فوق الوصف والإطراء، لأنه نتاج شاعر عبقري أحب وطنه، وأخلص له، وناضل في سبيل منعته، ومهره من فيض قريحته، ذخائر ونفائس، ترافق مواكب الأجيال وتتسم بطابع الخلود.

               

(1) عنوان ديواني الأول "خيوط الغمام" طبع سنة 1942 مرتين ونفدت جميع نسخه في السنة نفسها.