محمد الشاذلي النيفر.. من أعلام الزيتونة

د. قيس آل الشيخ مبارك

محمد الشاذلي النيفر.. من أعلام الزيتونة

د. قيس بن محمد آل الشيخ مبارك

أصيب العالم الإسلامي في 4/8/1418هـ بوفاة أحد صدور العلماء فيه وهو العالم الجليل المحقق الفقيه البحاثة المؤرخ الأديب الشاعر المتفنن في جملة من العلوم العقلية والنقلية، ألا وهو الشيخ محمد الشاذلي ابن العلامة قاضي الجماعة بتونس الشيخ محمد الصادق النيفر الحسيني نسبة إلى سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه.

نزح سلَفه آل النيفر من الأندلس مع الجالية التي ألجأها الأسبان إلى الهجرة سنة 1016هـ واستقروا بمدينة صفاقس ، ثم رحلوا منها إلى تونس حوالي سنة 1120هـ واستقروا بها إلى اليوم.

وقد أخبرني الشيخ رحمه الله تعالى- في آخر زيارةٍ له بداره العامرة بتونس قبل ثلاثة أسابيع من وفاته - أنه عندما زار باكستان لحضور أحد المؤتمرات، التقى بأحد الساسة الأسبان وأظنه سفير إسبانيا بباكستان، فلما رأى لقب ( النيفر ) مكتوباً على البطاقة المعلقة على ثوبه قال له: إن هذا اللقب موجود عندنا بإسبانيا بمقاطعة نفار ( NAVAR ).

ولد الشيخ - رحمه الله - سنة 1911م بمدينة تونس في بيت علم وفضل وشرف، ونشأ في رعاية والده أحد أعلام الزيتونيين، فأحسن تربيته على القيم الإسلامية الرفيعة والآداب العالية.

شهادة التطوع

ففي بيته تعلم مبادئ العلوم الشرعية واللغة العربية، ثم التحق بالمدرسة القرآنية، وفي عام 1924م التحق بجامع الزيتونة لمواصلة دراسته الثانوية متدرجاً في مراحلها بنجاح مميز حتى أحرز شهادة ختم الدروس الثانوية سنة 1930م، وهي شهادة تؤهل صاحبها للتدريس بجامع الزيتونة بصفة متطوِّع، ولذلك تسمى شهادة التطويع، وكان من جملة شيوخه بالزيتونة شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط - رحمه الله تعالى- (ت 1937م) وقاضي الجماعة العلامة الشيخ محمد البشير النيفر - رحمه الله تعالى- (ت 1974م) وحصل على إجازة من العلامة الشهير شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور - رحمه الله تعالى- (ت 1973م).

وفي سنة 1934م باشر الشيخ - رحمه الله تعالى- التدريس بجامع الزيتونة والمعاهد التابعة له، ولم يزل كذلك حتى سنة 1990م حيث أقعده المرض، وقد كانت دروسه عذبة لطيفة في إشاراتها فصيحة في عباراتها، وكان لواسع علمه يأتي بالعجب العجاب لسامعيه، فهو بحر علم يَعُبُّ عُبابه ويَغبُّ ميزابه، وقد أكرمني الله بمشاهدة هدْيه وسماع كلامه وامتلأت عيني وأذني منه.

وفي سنة 1936م شارك في تأسيس جمعية الزيتونيين التي أنشئت لإعداد النشرات، وتنظيم المحاضرات والاحتفالات بالمناسبات الدينية، وقد تولى الشيخ - رحمه الله - خطة الكاتب العام لهذه الجمعية.

وفي سنة 1937م ساهم في تأسيس الشبيبة الزيتونية التي ترمي إلى توحيد كلمة أبناء الجامع الأعظم.

وفي سنة (1365هـ/1946م) أكرمه الله بالحج إلى بيت الله الحرام، وكانت فرصة للقاء عدد من علماء المسلمين جمعهم هذا الموسم العظيم، وفي هذه المناسبة فكر الشيخ في دعوة حكومة المملكة العربية السعودية إلى حمل الجامعة العربية على الاشتغال بقضية الشمال الأفريقي بواسطة الشيخ حسن البنا - رحمه الله - فزاره زيارة خاصة، وحادثه في ذلك الشأن فقال الشيخ حسن: إن الملك عبد العزيز - رحمه الله - عيَّن لي غداً موعداً للقائه.

يقول الشيخ محمد الشاذلي: فرجوته أن يبلِّغ ما رغبت من حمل الحكومة السعودية للجامعة العربية على النظر في قضية الشمال الإفريقي بجدِّية، فواعدني بذلك وعيَّن لي أن آتي إليه ليخبرني بنتيجة لقائه فأتيته من الغد فأجابني بقبوله الرغبة من الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى-.

جريدة الزيتونة

وفي سنة 1953م أسس الشيخ جريدة "الزيتونة الأسبوعية" واختص بتحرير افتتاحيتها ليكتب عن هموم الأمة والمطالبة بإصلاح الزيتونة والذبِّ عنها مما عرَّضها للإيقاف عن الصدور مرتين، وفي الثالثة أوقفت نهائياً، وذلك في سنة 1957م.

كان الشيخ - رحمه الله - طيلة حياته مناضلاً شجاعاً يدفعه إيمانه بما يعتقد أن يقف مواقف الرجال في أحلك الفترات، فكانت له مشاركات في الأحداث التاريخية التي وقعت أثناء فترة الاستعمار، فكان فاعلاً للأحداث صانعاً لها، ولذلك لم يكن مستغرباً أن يناله الابتلاء وذلك حين تولى إدارة المدارس الزيتونية لسكنى الطلبة فاستاءت منه السلطة الاستعمارية، فتعرض بيته للتفتيش، وألقي عليه القبض ثم وضع رهن الإقامة الجبرية.

وبعد الاستقلال شارك الشيخ في الحياة السياسية حيث انتخب سنة 1959م نائباً بمجلس الأمة الأول، وترأَّس الجلسات الافتتاحية في عدَّة دورات، وكان محل إكبار الجميع لمواقفه الثابتة وشجاعته.

غير أن كفاح الشيخ لم يشغله عن مهامه الدعوية والإرشادية والتعليمية، فقد تولى الإمامة والخطابة بجامع باب الأقواس بتونس منذ سنة 1946م وظل داعياً إلى الله مرشداً وموجهاً آمراً وناهياً، وكان لخطبه الأثر الكبير في نفوس المصلين فلم يترك الخطابة بهذا الجامع حتى أيامه الأخيرة.

وفي سنة 1977م أنتخب عميداً للكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين، فأظهر براعة فائقة في حسن الإدارة بهمة عالية وعمل دؤوب، فاجتمعت القلوب عليه فأعيد انتخابه مرة أخرى.

وكان نشاطه موزعاً بين العمل الإداري والتدريس وإلقاء المحاضرات خارج الكلية في المناسبات المتنوعة، وقد تسلم عمادة الكلية، وبها أربعمائة طالب فقط، فارتفع العدد إلى ألف ومائتي طالب وطالبة، أغلبهم من تونس، وفيهم طلاب من مختلف البلاد الإسلامية.

وقد تولى - رحمه الله - تجديد البرامج التعليمية، بحيث أصبحت تتناسب مع المستوى العلمي للطلبة الحاصلين على شهادة الثانوية العامة بعد أن انقرضت طبقة الشباب الزيتوني.

ثم إنه وسَّع دائرة التعليم في الكلية وأنشأ أقساماً جديدة أثرى بها الكلية، ولم تكن الكلية يومها تسير وِفق قانونٍ رسمي ينظم الدراسة بها، فبادر إلى وضع هذا القانون، واستصدر أمراً ينص على اعتبار الكلية الزيتونية مؤسسة جامعية، تعنى بالدراسات والبحوث الإسلامية.

وفي سنة 1400هـ أقام مهرجاناً علمياً كبيراً بمناسبة مرور ثلاثة عشر قرناً على تأسيس جامع الزيتونة، حيث ألقيت بحوث قيمة بهذه المناسبة.

وقد أكرم الله الشيخ بأن حبَّب إليه العناية بالقرآن الكريم فأولاه عناية خاصة، حيث ترأس الجمعية القومية للمحافظة على القرآن الكريم قبل أكثر من خمس وعشرين سنة، فكان يسعى في توفير الاعتمادات المالية لها من تونس وخارجها.

وكان يطوف بنفسه للإشراف على الإملاءات الليلية التي تنظمها الجمعيات القرآنية بمختلف مساجد تونس، وأنشأ إملاءات قرآنية صيفية صباحية لتلاميذ السنة الخامسة والسادسة من التعليم الابتدائي وكامل مراحل التعليم الثانوي، وكانت هذه الإملاءات تختتم بامتحان في الحفظ والتلاوة، توزع فيه الجوائز للفائزين، وقد نظم - رحمه الله - مباراة قومية سنوية لحفظ كتاب الله تعالى، يقام لها حفل كبير ينتظم في العاصمة تونس خلال شهر رمضان المعظم إلى اليوم.

أقطار العالم الإسلامي

وكان - رحمه الله - على صلة قوية بمختلف أقطار العالم الإسلامي، حيث يحرص على المشاركة في الملتقيات الإسلامية، تشهد له بذلك أبحاثه ومداخلاته القيمة، وكان محل إكبار وتقدير وإجلال، فهو عضو المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي ومجمع الفقه التابع لها، وقد شارك في أغلب ندواتها.

أما جهوده العلمية، فتتمثل في المصنفات التي نافت على العشرين بين تأليف وتحقيق، فمنها تفسير مدرسي لجزء عم وتبارك، ومنها شرح همزية الإمام البوصيري.

ومنها حكم التجنس قال عنه: ( ذهبت فيه إلى أن الأمم الإسلامية إذا وقع البعض منها تحت حكم الكفر لا يبارحون ديارهم، لأن ذلك مؤد إلى إقرار الكفرة في ديارهم كما وقع في الأندلس)

ومنها تقديم وتحقيق كتاب (مسامرات الظريف بحسن التعريف) للشيخ أبي عبد الله محمد بن عثمان السنوسي، وهو كتاب ألّم بالحياة العلمية والأدبية بتونس في أربعة أجزاء.

ومنها تقديم وتحقيق أوَّلُ شرحٍ لصحيح مسلم وهو كتاب ( المُعْلِم بفوائد مسلم ) للإمام أبي عبد الله المازري - رحمه الله تعالى- في ثلاثة أجزاء، وقد صدَّره بدراسة مستفيضة ظهر من خلالها عظيم قدْر الشيخ في الفقه والحديث والعقائد والتاريخ.

وله ما يزيد على خمسين بحثاً في شتى العلوم.

فمنها أحاديث في فضل إفريقية، ومنها عناية أهل المغرب بصحيح مسلم، ومنها تفتُّح الفقه الإسلامي على الحياة الإنسانية، وله ديوان شعر في جزأين يدل على أنه شاعر من الطراز الأول.

فيقول في مطلع قصيدة نبوية يخاطب حضرة المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه:

وأشرق في مدح الجناب طلوعها=أتتك القوافي قد حداها نزوعها

أُعِزُّ القوافي إنني لا أضيعها=أُنزِّه شعري أن أشيد بغيركم

وكان للشيخ - رحمه الله - وَلَعٌ شديد بجمع نوادر الكتب، من مخطوط ومطبوع حتى بلغ ما لديه اثني عشر ألف كتاب مطبوع، وثمانمائة مخطوط منها مالا يوجد في غير هذه المكتبة.

ومن نُبْلِ هذا الإمام وكرمه وفضله أن حرص على حفظ هذه الكتب وتسهيل الوصول إليها للباحثين، فبنى من حُرِّ مالِهِ بناءً جميلاً وجعله بيتاً لهذه الكتب، ثم استأجر من يقوم بترتيبها وفهرستها، واستعان بالحاسب الآلي في ذلك، وجعل لها من يقوم عليها تيسيراً للمطالعة فيها لمن شاء من الباحثين.

وقد تم افتتاح هذه المكتبة في الثاني من جمادى الثاني من عام 1412هـ وأقيم في ذلك حفل بهيج بحضور عدد كبير من رجال العلم والفكر والأدب.

هذه ومضات يسيرة من سيرة هذا العلم المفرد، وإن في حياته جوانب مضيئة أخرى، لو تركت للقلم مجالاً.. رحم الله فقيد الأمة وجبر مصابها فيه.