سطور من حياة الداعية الرباني عمر التلمساني (10)

سطور من حياة الداعية الرباني

عمر التلمساني (10)

بدر محمد بدر

[email protected]

وفي درس آخر يقول الأستاذ عمر: "كنت من المدخنين (والتدخين في تلك الفترة كان منتشراً, ولم تكن آثاره السلبية قد اكتشفها العلم بعد, بالصورة التي نعرفها الآن), وشكا أعضاء مكتب الإرشاد من هذا السلوك, فأخبره الإمام البنا بذلك, فقال: إما أن تأمرني فأقلع, وإما أن تسكت فأستمر, فقال البنا: "لا آمرك ولا أنهاك".. لقد كان المرشد العام يحث الإخوان على ترك المكيفات والمنبهات والتقليل من الشاي والقهوة, ولعله لمس في طبع الأستاذ عمر عناداً, فلم يرد أن يحرجه أو يضغط عليه فينفلت, فتركه وهو يعلم أنه سيقلع عنه طوعاً, وبالفعل ترك الأستاذ عمر التدخين, وارتاح لأسلوب الإمام في مثل تلك القضايا, وهو درس على شباب الدعوة أن يستفيدوا منه في حركتهم داخل المجتمع الدعوي والمجتمع العام.

مواقف تربوية

وفي أوائل الأربعينيات ترشح الإمام حسن البنا في الانتخابات النيابية عن مدينة الإسماعيلية, وبذل الإخوان جهداً كبيراً في الدعاية والتجهيز لفوز مرشحهم في البرلمان لأول مرة, لكن الاحتلال الإنجليزي في مصر ثارت ثائرته, وطلب من الزعيم الوفدي مصطفى النحاس رئيس الوزراء في ذلك الوقت منع حسن البنا من خوض الانتخابات, بعد أن تبين للاحتلال خطورة دعوة الإخوان على بقائه واستمراره في البلاد, وأدرك سرعة انتشارها في المجتمع المصري, ومعنى وصولها إلى البرلمان أن مرحلة جديدة بدأت أكثر شدة وضراوة ضد وجودهم, وبالفعل طلب النحاس باشا أن يلتقي مع حسن البنا في فندق "مينا هاوس" (بالقرب من أهرامات الجيزة), ودار بينهما لقاء طويل أصر فيه البنا على المضي في المعركة الانتخابية حتى نهايتها, وعندما لم يتمكن رئيس الوزراء من إثنائه عن قراره, كشف له عن التهديد البريطاني الواضح للحكومة المصرية, وأكد له أن الوطن معرض لأخطار جسيمة في حال استمر البنا في الترشيح ونفذ الانجليز تهديداتهم, وهنا قرر المرشد العام للإخوان المسلمين الاستجابة والتنازل.

وغضب الإخوان غضبا شديدا من هذا القرار الذي لم يتفهموا حيثياته بعد.. لقد كانت المرة الأولى التي يقرر فيها الإخوان المشاركة الفعلية في العمل السياسي, وقدموا أكبر رموزهم وقادتهم وهو المرشد العام, وبذلوا الكثير من الجهد والمال من أجل التعريف ببرنامجه وحث الناس على المشاركة في الانتخابات, لكن القرار كان صدمة لهم, وكان من بين الغاضبين الأستاذ عمر التلمساني, الذي بادر بالإنقطاع عن المركز العام في القاهرة, فلما افتقده الأستاذ المرشد سأل عنه, وأرسل "خطاباً" مع رسول يستدعيه لمقابلته, فرد عليه بخطاب فحواه عدم الجدوى من مقابلته, لأنه لا يسمح لنفسه بمناقشة قرار اتخذه المرشد العام, لكن حسن البنا أرسل إليه اثنين من كبار الإخوان وهما: عبد الحكيم عابدين وعبده قاسم, فحملاه من شبين القناطر إلى المركز العام, حيث أقنعه المرشد بأسباب قراره, وأنه لمصلحة الوطن الذي يسعى الإخوان لصلاحه, فاقتنع يقينا ـ  كما يقول ـ وعاد إلى مكانته ومسئوليته, وبدأ يتردد على المركز العام من جديد, وهكذا كان شأن الإخوان مع مرشدهم.. يناقشون ويرفضون ويقبلون ويغضبون, ولا يستنكف المرشد أن يناقش ويوضح ويكشف عن الأسباب, بكل الحب والأخوة والحرص على الدعوة وعلى رجالها وأبنائها, الذين هم ثروتها وعماد قوتها.

أرأيت كيف يتفقد الإمام حسن البنا إخوانه وأحبابه وتلاميذه؟.. أرأيت حرصه على كل فرد وكل قلامة ظفر في هذه الدعوة, رغم أعبائه ومسئولياته الجسام؟.. كيف يسأل عن أحد أفراد الإخوان, وكيف يرسل خطابا له ثم يتبعه باثنين من كبار المسئولين في الجماعة لإحضاره, ليدرك الأخ أنه مهم وله مكانته في الدعوة, وأن المرشد العام شخصياً في انتظاره ليشرح له أسباب القرار الذي أغضبه, ثم يستقبله ليزيل هذا الغضب؟ أرأيت لو قال الإمام البنا: هذا قراري الذي أرى فيه مصلحة الدعوة, وليس هناك من هو أحرص مني عليها ـ وهو لذلك أهل لو شاء ـ وعلى الجميع الالتزام والسمع والطاعة التي بايعوني عليها, وإلا فـ "الباب يفوت جمل"؟!.

أرأيت لو أن الإمام البنا قال إن الجماعة باقية والأفراد زائلون, ومن يبتعد عنها هو الخاسر ولا يلومن إلا نفسه, وأن الجماعة لن تتأثر بغياب هذا أو ذاك؟.. هل ـ لو كان ذلك أو شيئاً منه قد حدث ـ كنا نرى هذا الداعية الرباني وهذا القائد الكبير وهذا المرشد العظيم, في صفوف الإخوان من جديد؟!.. هل كنا نتوقع أن يستمر في البذل والعطاء والتضحية, فيقضي ثمانية عشر عاماً من حياته في السجون والمعتقلات وهو راض ومطمئن؟!.

وإذا كان مؤسس الجماعة وواضع منهجها وباني صرحها, لا يمتلك هذا المنطق ولا يقره أو يرضاه, فهل يأتي من بعده كائنا من كان من يقول به, أيا كانت مسئوليته أو موقعه أو تاريخه؟!. إن الدعوة التي تفرط في رجالها وجنودها وأنصارها, لا يمكن أن تستقيم أحوالها أبدا.

إنها القيادة الحكيمة والتوفيق الرباني والرؤية الثاقبة والبصيرة النافذة, التي تميز بها الإمام الشهيد حسن البنا, فصنع هذه الدعوة الكريمة وهذا الصرح الكبير, على أسس الإيمان العميق والحب في الله, وحاك خيوطها الحريرية بنبضات من نور البصيرة, فنمت وترعرعت لحمتها حتى أصبحت ملء السمع والبصر, رغم استشهاده قبل أكثر من ستين عاماً.