أمين هذه الأمة

أبو عبيدة عامر بن الجراح

م. محمد عادل فارس

[email protected]

إنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة السابقين إلى الإسلام. فقد أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة.

واسمه عامر بن عبد الله بن الجراح... لكنه اشتُهر بكنيته: أبي عبيدة بن الجراح.

أسلم في ريعان شبابه، فقد كان عمره يوم أسلم سبعة وعشرين عاماً، وكانت حياته في الإسلام صبراً وعلماً وحلماً وجهاداً وفتحاً حتى توفّاه الله وهو على رأس جنوده في فلسطين حين انتشر فيهم طاعون عمواس سنة 18هـ، ودُفن هناك في غور بيسان.

لقي أبو عبيدة يوم أسلم عنتاً وشدة من أبيه، وهاجر مع من هاجر، في الهجرة الثانية إلى الحبشة، ثم عاد إلى مكة، وهاجر بعدئذ إلى المدينة المنورة وشهد المشاهد كلها.

ففي غزوة بدر كان في جيش المسلمين، وكان أبوه في جيش المشركين، وجعل الأب يتصدى لابنه، والابن يتحاشاه ويحيد عنه، فلما تكرّر ذلك من الأب، قصد إليه ابنه فقتله. قال المفسرون: وفي أبي عبيدة بن الجراح نزل قول الله تعالى: }لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم...{ الآية 22 من سورة المجادلة.

وفي غزوة أحد كان أسداً يقاتل المشركين ويدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندما جُرح النبي صلى الله عليه وسلم، ودخلت في وجنتيه حلقتان من المِغْفَر (وهو زَرَدٌ يُلبس فوق الرأس عند الحرب) هُرع إليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه. يقول أبو بكر فرأيت أبا عبيدة يطير طيراناً ويقول في لهفة: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزع من وجنتي رسول الله ما أصابهما!... فنزع الحلقتين بأسنانه، متحاملاً عليها، محاذراً أن يؤلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسقطت ثنيّتاه (اثنتان من أسنانه الأمامية).

وجاء وفد من نصارى نجران، من اليمن، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا في مسجده وسمعوا منه وحاوروه... ثم قالوا له: ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها من أموالنا. فقال صلى الله عليه وسلم: "ائتوني العَشِيَّة، أبعثْ معكم القويَّ الأمين". يقول عمر بن الخطاب: "ما أحببت الإمارة قطُّ، حبي إياها يومئذ". وأي شيء أشرف وأعلى من أن يوصف امرؤ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالقوي الأمين؟! قال عمر: "ورُحتُ إلى صلاة الظهر مبكراً. فلما صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم، نظر يمنةً ويسرة، فجعلت أتطاول لعله يراني! فلم يزل يلتمس ببصره من يريد، حتى رأى أبا عبيدة فدعاه، وأرسله إلى القوم".

وما زالت القوة والأمانة والحصافة والهمّة... تلازم أبا عبيدة منذ أسلم وجهه لله، حتى لقي الله!.

***

وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً على سرية في ثلاثمئة من المهاجرين والأنصار إلى حيٍّ من جُهينة، مما يلي ساحل البحر، وزوّده بجِراب (وعاء يوضع فيه الزاد) من تمر فكان يعطيهم منه قبضةً قبضة، ثم قلّ الزاد فصار يعطيهم تمرة تمرة، حتى إذا نَفَدَ راحوا يقتاتون بورق الشجر، وهم راضون بقضاء الله، حتى أبدلهم الله بالعسر يسراً فأخرج لهم من البحر حوتاً عظيماً أكلوا منه أياماً ذواتِ عَدد!.

وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم كذلك في غزوة ذات السلاسل، في جمع من المهاجرين الأولين، فيهم أبو بكر وعمر، مدداً لعمرو ابن العاص. وقال له: "لا تختلفا" فلما قَدِمَ عليه قال له عمرو: "إنما جئت مدداً لي، فأنا أمير عليك" فقال أبو عبيدة: دونك وما تريد!. ورضي أن يعمل تحت قيادة عمرو.

وشهد فتح مكة، وكان على مقدمة موكب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ضمّ المهاجرين.

وأبلى أبو عبيدة بلاء حسناً في فتوحات بلاد الشام شبراً شبراً.

ففي معركة اليرموك كان خالد بن الوليد هو القائد العام، وكان أبو عبيدة قائداً على القلب، والقلب هو لب الجيش وقسمه الأعظم. وبعد اليرموك صار أبو عبيدة قائداً عاماً لجيوش الشام، وفتح دمشق صلحاً بعد حصار دام عشرة أسابيع، ثم انطلق مع خالد إلى بعلبك فطلب أهلُها الأمان فأمّنهم وصالحهم، ونزل إلى حمص وفتحها بعد حصار طويل، ثم إلى حماة ومعرة النعمان واللاذقية وقنسرين وحلب وأنطاكية ثم القدس... وكان أهل كل بلد يطلبون الصلح فيعطيهم إياه، إلا ما كان من فتح اللاذقية فقد فتحت عنوة، وإلا ما كان من صدامات مع قوات للروم حول حمص.

وحين توفي أبو بكر الصديق كان أبو عبيدة يخوض معركة اليرموك، ووصل إليه الخبر، فكتمه عن الجيش حتى لا يُحْدث في الصف بلبلة. وحين ولي عمر وكتب إلى أبي عبيدة كتاباً يوليه فيه على الجيش ويعزل خالداً، وكان الجيش على أبواب دمشق، لم يبلِّغ أبو عبيدة مضمون الكتاب إلا بعد أن فتح الله عليهم دمشق، حرصاً على مصلحة المعركة، ونصرةً لدين الله.

وحين طَعَنَ أبو لؤلؤة المجوسي عمر بن الخطاب، وأدرك عمر أن الوفاة قد حانت قال: "لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيّاً لاستخلفته. فإن سألني ربي عنه قلت: استخلفتُ أمينَ الله وأمينَ رسوله".

***

ويجلس عمر بن الخطاب مرة بين بعض الصحابة، ويقول لمن حوله: تمنَّوا!. فيقول أحدهم: أتمنى لو أن لي ملء هذه الدار ذهباً أنفقه في سبيل الله، ويتمنى رجل ثان، وثالث... فيقول عمر، وقد اغرورقت عيناه بالدموع، لكنني، والله، أتمنى لو أن ملء هذه الدار رجال مثل أبي عبيدة بن الجراح.

وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما قدِم عمر الشام تلقاه الناس وعظماء الأرض، فقال: أين أخي؟ قالوا: مَن؟ قال: أبو عبيدة. قالوا: الآن يأتيك. فلما أتاه نزل فاعتنقه. ثم دخل عليه بيته، فلم ير في بيته إلا سيفه وترسه والضئيل من المتاع. فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك من زينة الدنيا؟! فقال: يا أمير المؤمنين: هذا الضئيل يبلِّغني المَقِيل [أي يكفيني في هذه الحياة إلى أن ألقى الله. وأصل المقيل المكان الذي يستريح فيه وقت القيلولة]. فقال عمر: كلنا غَيَّرتْنا الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة!.

إنه المسافر الذي يغُذُّ السير حتى يبلغ هدفه، وليس له هدف دون رضوان الله، وهو يذكر الزاد الذي مدحه الله تعالى: }وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى{.

وبعث عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة مالاً كثيراً، وقال للرجل الذي بعث معه المال: انظر ماذا يصنع به؟!.. ورجع الرجل إلى عمر ليقول له: لقد وزعه كله، من فَوره، على الفقراء!.

وإن عمر ليذكر لأبي عبيدة، ذلك الكتاب الذي كتبه أبو عبيدة ومعاذ بن جبل، إلى عمر يوم ولي الخلافة، قالا فيه: "إنا نحذّرك يوماً تعنو فيه الوجوه، وتَجِف القلوب، وتنقطع الحجج، فالخلق يومئذ داخرون لله عز وجل، يرجون رحمته، ويخافون عقابه".

***

وعلى فراش الموت، في أرض فلسطين، حين أدرك أبو عبيدة أن الأجل قد حان أوصى من حوله: "ألا تُهْلكنّكم الدنيا، فإن امرءاً لو عُمّر ألف سنة ما كان له بدٌّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الذي ترون. وإن أكْيَسَ الناس أطوعهم لربه، وأصدقهم عملاً ليوم معاده".

يقول اللواء الركن محمود شيت خطاب في كتابه "قادة فتح الشام ومصر"، بعد أن تحدث عن أبي عبيدة وفتوح الشام: "وكأني بأبي عبيدة ينادي من وراء الغيب: هل فتحنا فلسطين ليسلمها أبناؤنا لليهود؟ واحسرتاه واأسفاه".

غادر أبو عبيدة هذه الدنيا وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ودفن ببيسان، وخلّف من بعده ذكراً طيباً في الدنيا، ونسأل الله أن يحشرنا وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين. وحَسُن أولئك رفيقاً.