ابن الخشاب في سهل الدم بطل حلبي منذ ألف عام

ابن الخشاب

في سهل الدم بطل حلبي منذ ألف عام ...

د. محمود حريتاني

قبل ألف عام أو يزيد قليلاً، ولأسباب كثيرة ادعاها الفرنجة الغربيون، وضعوا شعار الصليب على صدورهم وأكتافهم،(و الصليب منهم بريء ) وقاموا باعتدائهم الوحشي على جميع بلاد الشام لغايات أساسية استعمارية واضحة، بذرائع وهمية ودينية، على رأسها حجة كاذبة تتلخص بجملة واحدة هي :

 " تخليص قبر السيد المسيح من سيطرة المسلمين، وهؤلاء يعرقلون قيام المسيحيين الغربيين بالحج إلى القدس" .

حجة كاذبة مختلَقة بذريعة دينية أطلقوها في أوربة على شعب جاهل متخلف ( كان العرب المسلمون آنذاك هم سادة العلم و المعرفة، وأوربة غارقة في ظلام العصور الوسطى ).

اندفع الشعب الاوربي بدون وعي، وكان سادته يحلمون باستعمار واضح يحققونه على أكتاف الرعاع الجهلة باسم الدين.

جاء الفرنجة عام 1096 م ، بأولى حملاتهم الصليبية الثمانية واحتلوا عدداً من بلاد الشام في الداخل : الرُّها ( أورفة حالياً ) وأنطاكية و مدن الساحل السوري والقدس أيضاً وما حولها.

إذن كانت حلب في هذا الوضع الذي لا تُحسد عليه: في شماليّها بيزنطة الطامعة فيها، وغربيّها الفرنجة الصليبيون المحتلون.

أكثر من ذلك وأهم :كان حاكم حلب السلجوقي ( رضوان ) منعزلا في قلعته، يدفع الجزية للصليبين لإسكاتهم، ويقبل أن يأخذ الصليبيون جزية من كل مسلم ذاهب إلى أداء فريضة الحج.

إذن لم يبق عقبة في وجه تقدمهم إلى الداخل السوري سوى حلب التي دفعت الجزية لهم مراراً لكسب رضائهم، بعدما احتلوا أكثر القلاع المحيطة بها، وحتى مناطقها القريبة.

 معركة سهل الدم

في العام 1119م أكمل الصليبيون استعدادهم لاحتلال حلب وكان الجو ملائم جداً:

- فخليفة بغداد لا حول له ولا قوة، بل إنه متآمر مع البيزنطيين.

- حاكم حلب رضوان السلجوقي في قصره في قلعة حلب بعيد عن أهالي حلب .

- الصليبيون يحتلون جميع القرى و القلاع حول حلب، ويفرضون الجزية.... و تجارة حلب قد كسدت وتحول معظمها إلى أنطاكية.

 لم يبق من نجدة لحلب سوى أهلوها.... وزعيمان يذكرهما تاريخ هذه المعركة إلى اليوم.

التحضير إلى المعركة

اعتاد الحلبيون على الدوام أن يجتمعوا في الساعات الحرجة من تاريخهم زمراً صغيرة لمناقشة الأخطار المحيقة بهم بكثير من الحيوية، فيجتمع وجهاؤهم غالباً في المسجد الجامع متربعين على السجاجيد، أو في صحن الجامع في ظل المئذنة المشرفة على بيوت المدينة.

وأما التجار فيلتقون أثناء النهار على طول أسواق " المْدينة" ويتحدثون في أمور البلد.

وهكذا تسري الأخبار و الشائعات على ألسنة النساء و الرجال.

زعيم حلب .. القاضي أبو الفضل بن الخشاب

ينحدر ابن الخشاب من أسرة غنية من تجار الخشب وله دور أساسي في إدارة حلب، وبوصفه قاضياً ، فإنه يتمتع بسلطة دينية ومعنوية كبيرة، ويضطلع بأمر تسوية النزاعات المتعلقة بالناس و الأموال.

وهو علاوة على ذلك رئيس المدينة، الأمر الذي يجعل منه شيخ التجار، وممثل مصالح الشعب لدى الملك السلجوقي في قلعته، وقائد الميليشيا البلدية.

إذن يتعدى نشاطُه إطارَ وظائفِه الرسمية، وحَوْلَه عدد كبير من المريدين، ولهذا كان يحرك الآراء السياسية و الدينية وخاصة في مواجهة الغزاة الفرنج، ولا يخشى أن يقول لملك حلب رضوان السلجوقي رأيه في سياسته الاسترضائية بَلْهَ الخضوعية .

بدأ رضوان ملك حلب يتحاشى الدخول في صراع مع القاضي.

كان الملك السلجوقي قد توارى في قلعة حلب بين حريمه وحراسه ومسجده وبركة مائه ومضمار خيله الأخضر، لأنه يُؤْثِرُ مداراة حساسية رعاياه ونزقهم، ومادام سلطانه بالذات غير ممسوس، فإنه يتسامح في تعبير الجمهور عن رأيه.

كان الخشاب القاضي قصير القامة، جَهْورِيّ الصوت، وله باع طويل في الاحتجاج على أعمال الفرنجة حول حلب.

ما ان توفي حاكم حلب رضوان السلجوقي حتى قرر سكان مدينة حلب بقيادة القاضي ابن الخشاب أن يقبضوا على زمام مصيرهم بأيديهم.

فقد كان الفرنج يستعدون لحصار المدينة، و العساكر سادرون في الاختلاف على من يحكم القلعة.

ابن الخشاب قرر أن يتصرف ومعه وجهاء المدينة من غير إبطاء، في مدينةٍ عليها أن تمنح حكمها أميراً قوياً، يُؤْثِر مصالح الإسلام على مصالحه الشخصية.

طرح الاهالي اسم إيلغازي والي ماردين كحاكم جديد لحلب ، فإنه وإن لم يكن سلوكه مثالياً على الدوام، لكنه محارب مقدام فقد حكمت أسرته القدس زمناً طويلاً وأخوه سقمان أحرز النصر على الفرنج في حرَّان.

انتهى قرار الأكثرية إلى دعوة إيلغازي للمجيء إلى حلب، وفَتَحَ له القاضي ابن الخشاب أبواب حلب خلال صيف 1118 م .

وكان أول ما قام به الأمير أن تزوج ابنة الملك المتوفى رضوان السلجوقي، دليلاً على المصاهرة و الاتحاد بين المدينة وسيدها الجديد، وتأكيداً لشرعية إيلغازي في الوقت عينه، وبعد ذلك أصدر إيلغازي أمره باستدعاء عساكره، وقد تعهّد أهالي حلب بأن يجمعوا له الأموال ليصرفها على قواته.

وهكذا ولأول مرة بعد عشرين عاماً من بدء الغزو الفرنجي تحظى عاصمة شمال الشام بزعيم راغب في القتال......

المعركة

حشد الطرفان جيوشهما واختلفت الروايات حول الأعداد التي جمعها إيلغازي فقد أوردها ابن القلانسي وسبط ابن الجوزي أكثر من أربعين ألف مقاتل مسلم، بينما لم تذكر الروايات التاريخية عدد عساكر الفرنجة.

إما لأن إمدادات الجند كانت تَتْرى من أنطاكية الإمارة الفرنجية، وإما لأن قوات إمارة طرابلس ومملكة القدس وإمارة الرها لم تصل بعد.

القتال بدأ مع قوات أمير أنطاكية وقائدها روجر أو المعروف بالكتب العربية " سرجال" والذي تمركز في منطقة جبال عفرين التي لا يستطيع الوصول إليها إيلغازي لوعورتها.... بينما كانت قيادة إيلغازي في قنسرين.

حاول روجر المماطلة في هجومه ريثما تصل النجدات إليه وأرسل إلى إيلغازي رسالة يقول فيها: " لا تُتْعِب نفسك بالمسير إلينا، فنحن واصلون إليك".

في يوم الجمعة 28 حزيران 1119 م ازدادت غارات الفرنج على حلب وأراد أهلوها الاستعجال في القتال؛ وقرر إيلغازي أن يبدأ القتال قبل وصول امدادات الفرنجة بناء على طلب أمراء الجيش، فجدّد القسم عليهم بالقتال، واستدرج الفرنجة إلى سهل سرمدا وطلب من القاضي أبي الفضل بن الخشاب أن يُحرِّض الجند على القتال .

تقدم القاضي الصفوف وألقى على العساكر خطبة حماسية بليغة استنهض فيها العزائم والهمم فأبكى الناس وعَظُم في أعينهم، وكرَّ القاضي ابن الخشاب على فرسه ورمحه بيده.

كانت ظروف المعركة قاسية على الفرنجة :

السرية التامة في تحركات جيش إيلغازي، ثم المباغتة، وقد هبَّت أيضاً رياح الخمسين أو الخماسين المحملة بالرمل في عيون المقاتلين.

النصر

دامت المعركة طوال يوم السبت 29 حزيران، و السهام فيها كما يقول المؤرخ كمال الدين، تتطاير وكأنها سرب من الجراد، وقد طَحَنَ المسلمون الأعداءَ طحناً.

وما هي إلا ساعات حتى تَمَزَّق الصليبيون وسقطوا بين قتيل وجريح وأسير، وكان من بين القتلى أميرهم روجيه دو سالرن وقد انفلق وجهه عند الأنف.

أما الذين نجوا من المعركة هاربين فقد اتجهوا إلى معسكرهم، وهناك تلقتهم قوات إيلغازي التي احتلت المعسكر قبل المعركة وأبادتهم عن آخرهم.

وصل البشير بالنصر إلى حلب والمسلمون صفوف مرصوصة في المسجد الجامع يختمون صلاة الظهر بالسلام ، وسُمِع عندها جلبةٌ كبيرةٌ من جهة الغرب، ولكن لم يعد أي مقاتل إلى المدينة قبل صلاة العصر".

واحتفلت حلب بنصرها عدة أيام، غنَّى الناس وذبحوا الخراف وتدافعوا لرؤية الرايات الصليبية و الخوذات ودروع الزرد التي غنمها الجنود، أو لرؤية أسير فقير يباع، لأن سراح الأسرى الأغنياء كان يُطلق لقاء فدية. وأُنشدَت في الساحات العامة قصائد المديح في إيلغازي.

إن مأثرة إيلغازي أثارت العزة والحماسة في جميع أرجاء العالم العربي ، وقد كتب القلانسي يقول: " وكان هذا الفتح من أحسن الفتوح والنصر الممنوح – لم يتَّفق مثله للإسلام في سالف الأعوام ".

وقد أورده مؤرخو الفرنج بأسى ودعوا المعركة باسم " معركة سهل الدم " وباللغة اللاتينية " أغر سانغينس " . ( أغر: سهل ، وسنغينس : الدم ).

جاء نصر معركة سهل الدم في سهل سرمدا بعد غارة مثيرة قام بها الملك بغدوين ملك القدس ( بودوان ) و نجح بغارته باجتياح مصر بمئتين وستة عشر فارساً وأربعمئة راجل فقط لاغير.

وبلغ ضفاف النيل و" سَبحَ " فيه كما يؤكد ابن الأثير ساخراً.

لقد بدا نصر سرمدا وكأنه انتقام، وفي نظر بعض المتفائلين وكأنه بداية استعادة ما ضاع.

كان الناس يتوقعون أن يسير إيلغاري دونما إبطاء إلى أنطاكية الإمارة الصليبية التي لم يعد لها أمير ولا جيش، ولكن إيلغاري لم يفكر أبداً في دفع تقدمه واستسلم في قلعة حلب إلى قصره، ولكن هذا لم يُنسِ اعتراف الحلبيين بفضله في إبعاد خطر الفرنج عن مدينتهم.

المراجع :

- الحروب الصليبية كما رآها العرب، أمين معلوف .

- الصليبيون في الشرق، ميخائيل زابوروف.

- تاريخ الجهاد لطرد الغزاة الصليبين، أسعد محمود حومد.

- إمارة حلب السلجوقية، محمد ضامن .

- الشرق و الغرب زمن الحروب الصليبية، كلود كاهن.

- حلب و الحروب الصليبية، جميل جمول.