العلامة إبراهيم الغلاييني

أ.د/محمد أديب الصالح

مع العلاّمة الرباني الشيخ

إبراهيم الغلاييني رحمه الله (1)(2)

1300 – 1378هـ

أ.د/محمد أديب الصالح

رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام

كان ذلك قبل ثلاثين عاماً على الأقل يوم كنت في دار شيخنا في قطنا ودخلت مستأذناً إلى غرفة كان يقف فيها مع فاضل من أولاده وكل أولاده.. وكان أن جرى بين الأب والابن الحديث التالي:

قال ابن الشيخ: سيدي أنت ترى ما نحن فيه من الضائقة المادية.. والمسؤوليات أكبر من هذا الواقع و.. وأسمع أن العلماء يسعون وراء زيادة مرتباتهم.. إلا أنتم لا تحركون ساكناً.. من أجل أن تتحسن الحال ويخف دفع هذه الضائقة التي نعاني منها ما نعاني!!!.

ونظرت في وجه الشيخ - رحمه الله – وأنا حديث عهد بطلب العلم عنده- نظرت في وجهه لأرى وأسمع ماذا يكون الجواب؟؟

لقد دمعت عينا الشيخ وقال لولده: يا بني، ألا يكفي أن وجود أبيك مفتياً للمسلمين هو صورة لمعجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به في قوله: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة(3)" لا يكفي هذا حتى نلهث وراء طلب الدنيا!!! ويتضح هذا إذا علمنا أن الشيخ رحمه الله لم يتطلّع إلى هذا المنصب ولكن رضي به عملاً بواجب شرعي قدّره الله تعالى، وهذا ما صدقه منهجه الذي عماده أن منصب الإفتاء واجب لأداء حق الله في الفتوى، وليس مهمة لخدمة السلطان!.

لقد كان رحمه الله في تواضعه وخشيته من الله عز وجل يرى وهو في منصب الإفتاء أنه يمثل توسيد الأمر إلى غير أهله وذلك من علامات الساعة.

ويشهد كل الذين عرفوه –أجزل الله مثوبته- عن قرب، أنه كان مع علمه غاية في الورع، والتثبيت من النصوص حين يفتي وحين يجيب عن سؤال. وكانت عنايته بأية مسألة مهما صغرت عناية فائقة حين ينظر فيها من الناحية العلمية والبحث في المصادر والمظان.. وحين يستشعر أن الفتوى أمانة وأنه مسؤول عن هذه الأمانة بين يدي الله عز وجل، ولقد رأيت بجانب سريره قبل وفاته بشهور –وهو على غاية التعب- مجموعة من مصادر الفقه، وحين سألته لم يرهق نفسه بهذا؟ قال: لأول مرة أجدني مضطراً للأخذ برخصة الفطر في رمضان لشيخوختي وتعبي الذي ترى فأحببت أن أتثبت من الحكم في مصادره.. ورع من أجل نفسه وورع من أحل الآخرين حين يفتي.

تلك واحدة من خلائقه جزاه الله عنا وعن المسلمين كل خير.. وأجدر بالعالم العامل الورع أن يكون من عباد الرحمن الربانيين، أولئك الأولياء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه والذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

أرأيت إلى هذه الخصلة التي تذكرك بالسلف الصالح الذي كان أحدهم يخاف الله قبل أن يخاف الناس.. وكثيراً ما يقول: "لا أدري" خشية الوقوع في المأثم حين تلبّس الأمور فيستبدل الحرام بالحلال.. والحلال بالحرام والمعاذ الله..

إنه لم يكن همُّ أئمة الهدى عليهم الرحمة والرضوان أن يُذكروا في الناس بأنهم علماء بل كان همهم أن يرضى الله عنهم، وأن لا يكون العلم سائقهم إلى النار، وأن يكونوا أمناء على دين هذه الأمة وعلم هذه الشريعة حين يفتون وحين يدرسون.. ذلك أن العلماء ورثة الأنبياء وجدير بالوارث أن يكون على قدم المورّث.. رحم الله شيخنا الشيخ إبراهيم الغلاييني الذي مضى على وفاته تسعة عشر عاماً، وأعلى مقامه في الآخرين وجعل من ورعه وأخلاقه مثلاً يحتذى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

هذا ما سعدت بكتابته لركن "هكذا يعلم الربانيون" لمجلتنا الحبيبة "حضارة الإسلام" التي أشرف برئاسة تحريرها، في العدد الرابع من السنة الثامنة عشرة في شهر رجب 1397هـ، وتموز 1977م فيما مضى.

وأرى اليوم من حق القارئ الكريم بل من حق الأمة –وأنا أُعدُّ ما نشر في الركن المذكور ليكون- مع التنقيح والتوثيق والتخريج، وشيء من الزيادة: كتاباً قائماً بذاته: أن أضيف ولو قدراًَ يسيراً من الحديث عن حياة هذا العالم الرباني القدوة شيخنا المربي الثبت الشيخ إبراهيم الأصيل المشهور بالغلاييني، بعد أن لم يكن ذلك ممكناً للمجلة حسب المنهج في عدد الصفحات الذي له عدة اعتبارات، منها الاعتبار الاقتصادي يومذاك، وإليكم ما أردت والله المستعان.

النشأة وطلب العلم:

نشأ شيخنا أجزل الله مثوبته نشأة صالحة في أسرةِ هداية واستقامة وصلاح تعين عليه البيئة العامة في البلد الطيب منارةِ التاريخ دمشق، وقد اتجه بشكل مبكّر إلى طلب العلم عند كرام المشايخ يومذاك، مع عمل جزئي في التجارة، ثم لم يلبث أن انصرف انصرافاً كلياً إلى دراسة شتى العلوم الشرعية، وكان ذلك من فضل الله عليه وعلى الأمة والحمد لله، وقد وفق في حداثة سنه حيث المرحلة الأولى من مراحل الشباب –كما أسلفنا- لأن يظفر بالدراسة على عدد من أولئك العلماء الأفذاذ، نذكر منهم: المحدث الكبير الشيخ بدر الدين الحسني، والمفتي العام العلامة الشيخ عطا الله الكسم، والفقيه النابه الشيخ محمود العطار، والعلامة الشيخ عبد القادر الإسكندراني كما أخذ عن آخرين من أفاضل العلماء نذكر منهم الشيخ أبا الخير الميداني، ووالد زوجته السيدة أم بدر الدين الشيخ سليم لنطفجي المعروف بعلمه وتقواه، وقد صحب ذلك كله استدامة الرعاية النيّرة الذكية من والده رحمه الله السيد محمد خير –أبي الخير- الغلاييني الذي كان حريصاً الحرص كله على أن يتابع ولده الذكي النابه الموفّق، موهبة وسلوكاً: تحصيل العلوم الشرعية والعربية في حلقات أولئك الأخيار يرحمهم الله ويضاعف لهم أجر العلماء الربانيين الذين يعلّمون الكتاب ويدرسون. وكان طبيعياً –وقد توافرت الأسباب عند الطالب ومشايخه-: أن يحفظ عدداً من المتون، وأن يثمر توفره على الكتاب والدرس في مجالس العلماء إلى جانب الحلقات: قاعدة علمية تعطي –بتوفيق من الله- عطاءها الذي إذا انضم إليه الينبوع: كان من وراء ذلك المستوى العلمي اللائق في علوم الشريعة والعربية والمنطق وغير ذلك. وإذ تحقّق لشيخنا رحمه الله هذا المستوى، وأصبح للعلم وجود ذاتي في حياته –وبخاصة الفقه- فلا يعوزك أن ترى المعرفة، والبحث، والاستدلال مع الاستحضار لأساسيات المسائل في الأصول والفروع.

ويذكر هنا: أنه قرأ مع صديقه الحميم ورصيفه الشيخ أبي الخير الميداني "حاشية ابن عابدين" في الفقه الحنفي على مفتي الديار الشامية العلامة الشيخ عطا الله الكسم جزاه الله خير الجزاء، على أن زميله الشيخ أبا الخير كان شيخه في النحو، إذ درّسه هذا العلم من علوم العربية شهراً كاملاً، كما حدثني شيخنا أكرمه الله غير مرة بذلك.

ومما يجدر ذكره هنا: أن معلومات غاية في الأهمية عن شيخنا ورحلته في الدراسة العلمية والسلوك: كنت أتلقفها وأنا في سن مبكرة من الرجل الصالح التقي النقي والد الشيخ رحمهما الله وغفر لهما: محمد خير الغلاييني أبي الخير الذي كان يقيم أيام شيخوخته المباركة النيرة في منزل شيخنا في قطنا، إذ كنت أجلس إليه، أفيد من تجاربه في الحياة خلال تاريخه المديد –ما شاء الله- وآنس كثيراً بصلاحه، وكثرة عبادته وقراءته للقرآن –من حيث علمه وزهادته في الدنيا، وتقوى قلبه المنوّر بالطاعة، وكثيراً ما كان يقول –وقد أقعده الهرم عن الذهاب إلى المسجد- كما أتمنى أن يدوم لي الاقتداء بإبراهيم في الصلاة، لأن من صلّى خلف عالم تقي، فكأنما صلّى خلف نبي!!

ولقد سمعت منه مرات عدة، وهو يتحدث عن أيام الدراسة لشيخنا: أنه قد درس على الشيخ محمود العطار، وأفاد من تلمذته عليه الاتصال النافع بعدد من الكتب في شتى علوم الشريعة والعربية –وبخاصة الفقه- وقد أقام عنده سنة كاملة –حيث كان الشيخ إمام وخطيب الجامع الكبير في بلدة كفر سوسيه قرب دمشق- وسُكناه غرفة متواضعة تابعة للمسجد –شأن الغرف التي يسكنها أكثر طلاب العلم- موقعها فوق أماكن الماء والوضوء، وانقطع في تلك الحقبة انقطاعاً كاملاً للدراسة الجادة حينذاك، يقول: وقد أتعب نفسه تعباً شديداً بالمثابرة على التحصيل، مضموماً إلى ذلك، مكابدة العيش في مجاهدة للنفس، المجاهدة التي تكون بريد صلاح القلب، ومراقبة الله عز وجل، فاصطحاب الكتاب، والدرس الجاد، يصحبه قيام الليل، وصلاة النافلة عموماً، والإكثار من صيام النفل، مع الإقلال من الطعام أيام الإفطار، الأمر الذي أدى –بقدر من الله- إلى جهد صحي شديد، حيث بلغني مرضه، فبادرت إلى  كفر سوسيه وهالني ما رأيت، فاستأذنت الشيخ محمود في العودة به إلى دمشق للمعالجة، على أن يعود بعد الشفاء إن شاء الله، وكان مما ناله من الجهد: شيء من جفاف الحلق بحيث لا يستطيع إساغة شيء من الطعام، وأشار الطبيب بإدخال الماء والسوائل نقطة وراء نقطة، وبعد هذا مع المداومة على العلاج، عوفي –والحمد لله- وعاد –ودعاء الوالدين يكلؤه بإذن الله- إلى نشاطه العلمي الجاد المتبصّر، وكل ما يعين على العمل بالعلم، من جهاد النفس الذي هو أول لون من ألوان الجهاد في سبيل الله –كما يقول العلماء وهو سبيل العالم، بله طالب العلم، إلى صلاح القلب الذي بصلاحه صلاح أعمال الجوارح، وهو ما هدى إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله –كما جاء في الحديث الصحيح-: ".. ألا إن في الجسد مضغةً إذا صلَحت صلَح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد لها، ألا وهي القلب" (خ (53)، م (1599)).

الأدب.. والوفاء:

وإذا كان الخير يُذكر بالخير: فلأذكر هنا –وقد دار الحديث عن العلامة الفقيه الحنفي الشيخ محمود العطار وعلاقة شيخنا به: إن شيخنا رحمه الله كان مثال الأدب والاعتراف بالفضل قولاً وعملاً، ومن ذلك أن الشيخ محمود أجزل الله مثوبته زار تلميذه شيخنا الغلاييني في منزله بقطنا وكنت في تلك الحقبة ألازم –بحمد الله- شيخنا طلباً للعلم ملازمة تامة في دروسه ومجالسه، وتحركاته- بعد حلقة الدرس، مع ضيفه الكبير، فكان هذا أعون على أن أشهد بنفسي سلوك شيخنا المتميّز مع شيخه العطار وهو نزيله في منزله بقطنا، ومن أبرز ما حصل أن الزيارة كانت صيفاً والحر في النهار شديد رغم الطقس المعتدل على الغالب في منطقتنا هناك، يصحب ذلك الحرص على صلاة الجماعة، والمنزل بعيد بعض الشيء عن المسجد الذي يصلي فيه شيخنا إماماً، ويلقي على الناس ما شاء الله من الدروس والمواعظ، فكان شيخنا رحمه الله وهو في مركزه المرموق الذي يعرفه الناس جميعاً هناك مسلمهم وغير مسلمهم، فهو المفتي، وهو الخطيب والإمام، والموجه البارز في كثير من قضايا المجتمع توجيهاً سليماً في نور الإسلام، وهو –كما يعلم الجميع- الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهيبته الشجاعة بصدعه بالحق ونشدانه أن تكون كلمة الله هي العليا: من بديهيات المعرفة التي لا يفارق الشعور بها أحداً هناك.. شيخنا الذي له كل هذه الخصائص –وغيرها كثير- يخاف على شيخه من شدة الحر، فيمسك بالمظلة ويرفعها فوق رأسه منذ الخروج من المنزل ومروراً بطريق متشعب المسالك، ثم بالسوق على ما فيه من الزحام ووصولاً إلى المسجد، فكان يرى الناس شيخهم الشيخ إبراهيم يرفع هذه المظلة فوق رأس ضيفه المسن وبعضهم لا يعلم طبيعة العلاقة، لكنه استنتجها من تصرف الشيخ، وقد رجوته غير مرة أن يأذن لي بأن أقوم بهذه المهمة اليسيرة في ظاهرها الكبيرة في معناها، فيصرُّ هو على القول: هذا حقي يا بني وواجبي تجاه شيخي جزاه الله عني كل خير، وهذا يسير يسير من بعض حقه عليّ، والحق أني –على صغر سني يومذاك- كنت أخجل كثيراً منن هذه الصورة، وهي أن أمشي وأنا مستريح وشيخنا احتراماً لأستاذه يرفع المظلة من المنزل إلى المسجد ومن المسجد إلى المنزل ذهاباً وإياباً، ولكن الدرس –بما يحمل من المعاني الكبار-= كان بالغ التأثير، وهو صورة من صور حرص شيخنا على التربية وبالقدوة مع قيامه –كما يرى- بواجب الإكرام والخدمة والتقدير لشيخه رحمهما الله رحمة واسعة وأعلى مقامهما في الآخرين، والحق أن هؤلاء الربانيين يعلّمون الأخلاق قبل أن يعلّموا العلم جزاهم الله عن الأمة كل خير وكم كان كلاماً نورانياً رفيعاً، كلام شيخنا وهو يثني على ضيفه الكبير وأستاذه في المسجد وعندما يُزار في منزله مبيناً ما له من قدر ومكانة عند أهل العلم والصلاح في دمشق وغيرها، ثم ماله من فضل كبير عليه بتدريسه علوم الشريعة المطهرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشيخ محمود العطار، كما كان شيخاً لأستاذي ومربيّ الشيخ إبراهيم، فقد ازددت –فيما بعد- من المعرفة به والإفادة من علمه وفضله وكريم سلوكه عام 1944 – 1945م وأنا طالب في الكلية الشرعية بدمشق –العمارة- أيام كان مدرساً عظيم القدر –على كبر سنه- فيها يدرس الفقه الحنفي لأولئك الطلبة الذين هم على عتبة الشباب، تحقيقاً لقوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) (آل عمران) حيث قال البخاري رحمه الله: "الرباني هو الذي يدرّس صغار العلوم قبل كبارها" وذلك طاعة لله تعالى في أن يكون الأساس الذي تقوم عليه التربية والتعليم أساساً متيناً، فترى الرجل الرباني وتلامذته يتحرّكون على ساحة الحياة طاعة لله تعالى، العالم بالتعليم والتربية والتوجيه، والطلبة بالتعلّم والانصياع للقيم التربوية التي يوجّهون من خلالها، وكل أولئك من الروافد العظيمة لبناء قوي يظفر به الفرد والجماعة في ظل شريعة الإسلام وأخلاق الإسلام.

من أخلاق الربانيين:

هذا: والحديث عن الأدب وكامل التقدير والمحبة من شيخنا الشيخ إبراهيم يرحمه الله لأستاذه الكبير الشيخ محمود العطار، وقد لزمه في الدراسة عليه حقبة طويلة بعض الشيء: ينقلنا إلى ما كان من سلوكه الأمثل مع صديق له وزميل درّسه علم النحو شهراً واحداً.. نعم شهراً واحداً، ذلكم هو العلامة الشيخ أبو الخير الميداني الذي كان يكبره بقليل من السنوات.

ولقد علمت ذلك –كما سبق- من شيخنا، إذ سمعت منه غير مرة وفي مناسبات عدة، أن الشيخ أبا الخير درّسه علم النحو شهراً كاملاً، لذا فهو يتعامل معه على أنه شيخه، وعندما يلتقيان، وفي الغالب يكون هناك بعض الأساتذة والطلاب، وأحياناً العديد من الناس الذين يصحبون المشايخ للفائدة والانتفاع بعلمهم: أقول: عندما يلتقيان –والحال ما ذكرت- يكون من شيخنا-على ما يبلغه من العمر وما يزدان به من العلم والفضل- الأدب الرفيع، والقدر الفائق من الاحترام والتقدير لأخيه، وعند اللقاء، وكذا عند الافتراق يصرّ رحمه الله على تقبيل يد أستاذه الشيخ أبي الخير، فهو شيخه، وما يقابله به هو بعض حقه.

ولعل من استكمال الفائدة أن أشير إلى أن مما زاد هذه العلاقة وثوقاً بين الشيخين الربانيين: كون الشيخ الميداني –مع منقبته التي ذكرنا- أخاً وزميلاً لشيخنا في الدراسة الموسّعة في الفقه على الشيخ عطا الله الكسم إذ قرأ عليه "حاشية ابن عابدين" في الفقه الحنفي، وأعيدت هذه القراءة للكتاب بأجمعه أو لعدد وافر من أبوابه بضع مرات، كما تزاملا في اصطحاب شيخهما الشيخ عيسى الكردي النقشبندي مريدين يتميزان بالعلم والمعرفة على طريقة أهل السلوك من السلف الصالح، حيث كان الشيخ عيسى رحمه الله –مع عنايته العظيمة وهو يوجه مريديه ويرشدهم- بمنهج السلوك المنضبط بضوابط الشريعة التي تُحِلُّ تقوى الله مكانها اللائق. وما جاء في الحديث الصحيح من أن "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" خ (4777)، م(9)، ثم ما جاء عن السلف الصالح في ذلك.. كان من كبار فقهاء الشافعية في دمشق، حتى إنه كان يقال له: الشافعي الصغير. وما أزال أذكر زيارة للقبور في سفح الصالحية، يوم قال لي شيخنا مشيراً إلى قبر على السنة: هذا قبر شيخي الشيخ عيسى رحمه الله على السنة كما ترى!

هذا ولم يكن عجباً من العجب –والشيخ أبو الخير هو من هو في علمه وأدبه الجم وأخلاقه: أن يكون مسلك شيخنا رحمهما الله في التعامل معه على الطريقة المنيرة التي أدير الحديث عنها: موضع التقدير البالغ، وإعطائها مكانها اللائق من نفسه وقلبه، يلاحظ ذلك من يرى ذلك الذوق في التعامل بينهما، وما يتبادلان من الاحترام غير المتكلّف، ثم ما يكنّه الشيخ أبو الخير لشيخنا من المحبة الصادقة، والاعتراف له بالفضل في حياته وشهرته، حتى إنه قال لي مرة وأنا أشرف بالحديث معه عن العلاقة الفاذة بين الشيخين: "يا ولدي ما ترى من شهرتي في دمشق وحُسن الحديث عني لدى الناس: مردُّه بعد فضل الله وتقديره، إلى شيخك الشيخ إبراهيم رحمه الله وأعلى مقامه في عليين، فشيخك له المكانة العظيمة في نفوس الناس، وهو موضع احترام الجميع وتقديرهم في أجواء العلم والتقوى، وصلة الشعب المسلم بعلمائه، وعندما نلتقي مصادفة أو على موعد في "رابطة العلماء" أو أي مجلس من المجالس العامة أو الخاصة، ويكون معه بعض الطلبة والمريدين، ومعي كذلك: يلقاني بوجهه المتألق وأدبه الرفيع، ويصرّ على تقبيل يدي أمام الجميع، لأني –كما يرى مشكوراً- شيخه، وإذا كان الأمر كذلك على هذه الصورة التي ترى من تقديره، وأدبه الرفيع، وتواضعه مع أخيه وزميله أبي الخير، فكيف يكون شعور من يرون هذه الواقعة بما تحمل من معاني الخير والأخلاق والتي سداها ولحمتها أدبه معي وتواضعه؟ لا أشك في أن الواحد منهم يقول في داخل نفسه: إذا كان الشيخ إبراهيم يقدّر الشيخ أبا الخير على هذه الصورة التي نرى، فمعنى ذلك أن أبا الخير جدير بما يلقى من التبجيل والاحترام، وكانت الشهرة من وراء ذلك، وما أجلّ وأعظم ما يقدم بها هذان العالمان الربانيان وأضرابهما، من هذا اللون العظيم من التربية، وهو التربية بالقدوة والسلوك، بجانب التربية بالكلمة والدرس والموعظة!!

والذي لا غنى عن ذكره –ولو طال بنا الحديث- أن الشيخ أبا الخير أجزل الله مثوبته على صراحته المحبّبة ووقوفه عند كل ما هو استقامة وحق.. لم يدع في مرة من المرات أن يقصّ عليّ –مستشهداً على أدب شيخنا وكريم تواضعه- أنه كان مرة مدعواً عند أسرة كريمة في الميدان من آل قطرميز، وكان الشيخ إبراهيم مدعواً أيضاً. وعندما التقينا في دار صاحب الدعوة، أصرّ على أن أجلس في مكان التكرمة الأكثر لأنني شيخه ولي الفضل عليه –كما يقول- وأكثر من هذا: بعد أن خرجت قبله مستأذناً للوفاء بموعد لديّ: طلب أهل الدار من الشيخ أن يجلس حيث كنت أجلس، تكرمة له كما كانت التكرمة التي أصرّ عليها لي، فأبى بحزم أن يفعل، وقال: هذا المكان لا يليق إلا بشيخي، فلا يحق لي أن أتجاوز قدري، وأجلس في مكان التكرمة الذي كان يجلس فيه الشيخ أبو الخير!!

قلت: وأحسب أن ما تتركه هذه الواقعة وأمثالها من الأثر الطيب في النفوس: ناطق بنفسه، ولا يحتاج إلى مزيد من البيان والتعليق، ورحمة الله على عالمي الأمة الربانيين المتواضعين، وأجزل مثوبتهما، وبوأهما منازل الأبرار المقربين.

وهذا كله جدير بتوكيد ما كان عليه شيخنا من محبة العلم النافع وأهله العاملين به، والحرص على نشر علوم الإسلام، وإعطاء هذه المكرمة ما تستحق من التقدير الذي يحمل على الاقتداء.

وقد كنت أرى من حرصه على الدرس والاهتمام بالقراءة أيام كنت أشرف بتدريسه لي وتربيته العجب العُجاب، رأيت ذلك وأحسست به، وقد قرأت عليه عدداً من الكتب في شتى علوم الشريعة والعربية ناهيك عما يتعلق بالسلوك وأعمال القلوب.

وماذا عليّ أن أذكر أن وجهاء قطنا تجمعوا مرة عنده في الدار حيث استقبلوا وأُجلسوا في غرفة ملاصقة للغرفة التي نقرأ فيها الدرس، وأظنه في الفرائض، والغاية من التجمع الذهاب مع الشيخ إلى دمشق لمراجعة جهة حكومية في شأن واحدة من مصالح البلدة يومذاك، وتكرر تذكير الشيخ بأدب من أجل الخروج والسفر، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن قال: "ليس هناك موعد يُخْرَم، فأنا مستعد لاصطحابكم في هذا الأمر المهم، ولكني لا أقطع درس العلم أو: درسُ العلم لا أقطعه، ومن يدري ما يمكن أن يكون من الخير على يد طالب العلم!؟" وهكذا كان، حيث انتهينا من الدرس على الوجه الذي ينتهجه عادة من الدقة والتوثيق، وسلامة الربط بين الفروع والأصول بالقدر الذي يمكنني استيعابه، جزاه الله خير الجزاء، ثم سافر مع القوم إلى دمشق، وحصل المطلوب والحمد لله.

وأكثر من هذا: كان هنالك رجل من خيار أهل دمشق وصلحائهم الأذكياء، لا ينقطع عن مجالس الشيخ حيث يكون الشيخ في دمشق، فضلاً عن زيارته في منزله بقطنا قبل أن يتحوّل المنزل إلى دمشق، وعلى نباهة هذا الرجل وفضله، لم يكن على استيعاب لما يحمل الشيخ بين جنبيه من تقدير فريد للعلم، والاهتمام بالدرس والتدريس، وفقاً لما هدى إليه قوله تعالى: (ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون) فقال للشيخ –وهو يرى اهتمامه بهذا الطالب وعنايته به-: يا سيدي! ألا تريدون أن تعطوا فلاناً –وهو يعنيني- الطريق؟ فقال له الشيخ مجيباً: "طلب العلم طريق وزيادة". وصادف أن الرجل خرج بعد أن أوصد عليه الشيخ الباب في سؤاله الذي كان يراه مهماً للغاية، وظللت مع الشيخ وحدنا في الغرفة، فراح يشرح لي لم كان طلب العلم طريقاً –في التصوف- وزيادة، ببيان القدر العظيم للعلوم المتعلقة بالكتاب والسنة، وما يخدمهما من علوم العربية، والمهم أن يخلص طالب العلم النية، كما يقطع الطريق على النفس والهوى، بما ينفثان من الجنوح إلى الرياء وما هو في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يكون في حرصه على العلم، وأخلاقه في الطلب: مثالاً يحتذى.. إلى آخر ما وجه إليه رحمه الله وأجزل مثوبته.. من ضرورة الجمع بين الجدية في طلب العلم والترقي من مدارجه ومصادره، وبين التقوى ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، على هدي ما دل عليه الكتاب الكريم، وبينته السنة المطهرة.. ثم لم يَعُد الرجل الطيب إلى القضية التي سأل الشيخ عنها والحمد لله..

وقد كنت أشرت من قبل إلى إقبال الشيخ الدائم على الكتاب العلمي، وأمانته في التدريس، والفتوى، طلباً لمرضاة الله، حيث يجمع بين الدقة العلمية من المصادر الموثقة، وبين الأدب مع الله في كل ما يأخذ وما يذر في هذه السبيل، إن الشيخ بذلك نعم المعلم ونعم المربي بهذا السلوك المنوّر بالهدي المحمدي والتزام السنة المطهرة على الوجه الذي ينبغي.

وهذا يذكرني بما قصّ عليّ الأخ الكريم الشيخ الدكتور محمد لطفي الصباغ شكر الله له، من أنه عندما كان مدرساً للعربية في درعا كان يلتقي أخانا الموفق خال أولادي الشيخ سعد الدين الغلاييني أحد أنجال شيخنا رحمهما الله الذي كان يدرّس هناك مادة التربية الإسلامية وصادف أن زار شيخنا ولده في درعا، وحصل لقاء في مجلس عام مع الشيخ: فسأله أحد الحضور عن حكم صلاة المرأة في المسجد، فأجابه الشيخ بالجواز، غير أن صلاتها في بيتها أفضل، ثم أحال السائل –لمزيد من التفصيل إن أراد –على كتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري.. يقول الأخ المفضال الدكتور الصباغ: فرجعت أنا- إلى كتاب "الترغيب والترهيب" فوجدت الحكم كما قال الشيخ إبراهيم بوّأه الله منازل الأبرار، الأمر الذي زادني يقيناً بسعة علمه، واستحضاره لأقوال العلماء في المسألة المسؤول عنها.

وكم أتمنى لو سلمت مجلدات فتاواه الثمينة، فلم تفقد، وتيسّر تقديم نماذج من تلك الفتاوى، بدقتها العلمية، والأمانة في نقل الأحكام من المصادر وحسن التعامل مع النصوص!! علماً بأنه كان يكتب في ذيل الفتوى: وكتبه الفقير إليه تعالى: "إبراهيم" بتوقيع.

وهذا الذي نقول في الكشف عن أهمية العلم والتعليم عند الشيخ والدرس والتدريس، مصحوباً ذلك بإخلاص وتقوى الله عز وجل ينقلنا إلى أنموذج من نماذج أسلوبه العلمي الحكيم المؤثر عندما يتحدث إلى الناس مقرراً موضوعاً ما، من خلال تفسير آية أو شرح حديث نبوي، أو الكشف عن أبعاد كلمة من كلمات واحد من السلف الصالح، وهاكم هذا النموذج الذي أتحفنا به المحدث الفقيه أخونا المفضال الشيخ شعيب الأرناؤوط حرسه الله.

قال الشيخ شعيب:

بسم الله الرحمن الرحيم.. في الخمسينيات في أثناء طلبي للعلم كانت تقام في مساجد دمشق حفلات لإحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، تتلى فيه قصة المولد، وينشد المنشدون قصائد في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ويخطب غير واحد من المتكلمين يتحدثون عن شمائل النبي صلى الله عليه وسلم، وكريم خلاله وسجاياه، ويذكرون المعجزات التي أجراها الله على يديه، ويعمقون محبة النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسهم، حتى يكون أحبّ إليهم من أنفسهم والناس أجمعين، يفعلون ذلك لتثمر هذه المحبة الطاعة التامة والتسليم المطلق لهديه صلى الله عليه وسلم، وكنت شديد المحبة لهذه المجالس، فأسارع إلى حضورها حين يبلغني أمرها، لما فيها من عِظات بالغات، وتوجيهات مباركات، وكان يحضر تلك المجالس علماء أجلاء من مدينة دمشق وضواحيها، وكثير منهم قد جاوزوا الستين، وكانوا يجمعون إلى قوة إيمانهم ووفرة علومهم، مظهراً أنيقاً في اللباس والهيئة، فهم يدلّونك على الله بأفعالهم وأقوالهم وهيئاتهم، وفي يوم من الأيام من شهر المولد أُخبرتُ أن قصة المولد ستتلى في جامع الدقاق في الميدان أو جامع مازي القريب منه، وسيحضره علماء دمشق الأجلاء، وكان الموعد في المساء بعد صلاة العشاء، فتُليت قصة المولد وخطب الخطباء، وكان في المسجد الشيخ إبراهيم الغلاييني رحمه الله، وربما كان أكبر القوم سناً، وأفضلهم علماً، وأكثرهم اتباعاً لهديه صلى الله عليه وسلم، فطلب أحد أهل العلم منه رحمه الله، في ختام المجلس أن يتكلم ويعظ الحاضرين، فاستجاب لذلك وكان كلامه –على وجازته- عظة بالغة، انتفع بها الحاضرون، وتأثروا بالغ التأثر، وغطّت على كلام المُجيدين الذين تحدثوا قبله، وسرُّ ذلك في نظري أنه رحمه الله كان يقول ما يفعله، ويحاول –ما استطاع- أن يكون مؤمناً حقاً، فكان المستمع إليه يُحسُّ بحرارة الإيمان تنبعث من تلك الكلمات التي تسمعها منه، وكان مما حفظته من وعظه ذلك أنه كان يُلحّ على المستمعين تحقيق معنى العبودية في جميع تصرفاتهم لله سبحانه وتعالى، التي هي الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وقد أجاد كل الإجادة في تفسير قوله تعالى: (إياك نعبدُ وإياك نستعين) وكان مما قال:

"إن العبادة الحقة هي التي تجمع بين أمرين اثنين، وهما: أن لا يُعبد إلا الله، وأن تكون العبادة مما شرع الله".

ثم قال ما معناه: إن العبودية الكاملة التي تجمع كل أفعال الإنسان المقرونة بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، تدفع صاحبها لأن يستمد العون منه تعالى والتوفيق والهداية، وأن العبد الذي يتحقق في باب العبودية ويخلِص له سبحانه ويستمد العون منه لا من أحد سواه فإن الله عز وجل يحييه حياة طيبة، ويكفيه هم الدنيا وعذاب الآخرة واستشهد بقوله تعالى: (أليسَ الله بكافٍ عبده) ثم قال: كونوا عبيداً لله يكن الله رباً.

رحمه الله رحمة واسعة، فكم ذرفت عليه لوفاته دموع المؤمنين، وحزنت القلوب، وانطلقت ألسنتهم بالثناء عليه والدعاء له.

فراسة وكرامة:

ليس من مكرور القول التذكير بأن العالم الرباني همّه –وهو يؤدي رسالة الخير في الأمة- استدامة صفاء قلبه، وحسن صلته بالله عز وجل، وإذا كان الأمر كذلك: فلا تسل عما يكرمه الحق تبارك وتعالى به من عطاء قوله جل شأنه: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون) (يونس) ومن ذلك ما يتفضل به عليه من نور البصيرة، حيث صدق الفراسة وإجراء الكرامة على يديه.

وددت أن أسوق هذه الكلمات بين يدي ما أنا بسبيله من إيراد ما حدثني به الأخ المفضال الشيخ شعيب الأرناؤوط من أن عدداً يبلغ العشرة من إخوانه مدرسي مادة التربية الإسلامية تنادوا للذهاب إلى قطنا لإطلاع شيخنا الشيخ إبراهيم الغلاييني على ما تعانيه هذه المادة ومدرسوها من الحيف والمساءة عسى أن يسهم عند أولياء الأمر في دفع الأذى وإعادة الأمور إلى نصابها، وكان الشيخ مشهوراً –كما هو معلوم- بحسن تفهمه للمشكلات، وصدق لهجته، وصراحته في كلمة الحق، ناهيك عن همته العالية في كل ما هو من مصالح الأمة بسبب، وواضح أن المشكلة المطروحة تتعلق بعقيدة الأمة وثقافتها.

وكان لقاء الأساتذة للذهاب إلى الشيخ –كما يقول أخونا الشيخ شعيب- في مكان انطلاق –باصات- قطنا في الحلبوني، وأكثر الإخوة لم يكونوا تناولوا طعام الغداء قبل السفر إليه عند الغروب، وكان إلى جانب المرآب مطعم يصنع الشطائر، فبادر بعضهم فاشترى وأكل، ورفض البعض الآخر أن يأكل قائلين بأنهم سيأكلون عند الشيخ، لأن الشيخ معروف عنه تقديم الطعام للأضياف، أياً كان سبب الزيارة، وانطلقنا –كما يقول محدثي الفاضل- في السيارة حتى وصلنا قطنا، ولقينا الشيخ أجزل الله مثوبته، والذي حصل: أنه بعد ترحيبه المؤنس –كما هي عادته وكريم خلقه- أطلعناه على جلية الأمر فيما جئنا من أجله، فتفهّم الأمر بإحاطة واضحة، وتحمّس له، ووعد خيراً كما هي عادته في خدمة الإسلام والمسلمين، ودفع الأذى عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر من أخلاقه المعروفة بالتواتر.

ثم قال الشيخ لأحد ولديه الشيخ محمد أو الشيخ عبد الله –لا يذكر الشيخ شعيب-: اذهب وائتنا بالطعام ثم التفت إلينا وقال بلهجته المحببة المهذبة: ليس من المستحسن أن يأكل طالب العلم في الطريق وهو قائم، لأنه خلاف السنة، خصوصاً وأنه ذاهب إلى أخ له في الله.

يقول الشيخ شعيب: وتبين لنا أن الله قد كشف عن بصيرته، وأطلعه على ما فعله بعضنا، فكان الذين لم يأكلوا يعتبون بأسلوب لطيف على الذين طعموا في الطريق، ويقولون لهم: أرأيتم كيف أن الشيخ أنجز ما كنا متصورين من تقديم الطعام، رحمه الله رحمة واسعة وكانت له –من نور البصيرة- فراسة صادقة، هذا: وقد وفى الشيخ بما وعد في شأن القضية التي زرناه من أجل تجليتها وطلب توسطه في رفع الحيف ودفع المساءة والحمد لله.

الصدع بالحق والتأييد الإلهي:

وبعد: فغير خاف –والله أعلم- أن هذا الذي رأينا من الكلمات المضيئة، المضمخة بعبير الإخلاص، والتي تدخل بكل يسر إلى القلوب، وتعمل عملها الخيّر في النفوس، وتحدث ما تحدث عند السامع من التأثر البالغ على طريق الهداية والتوفيق: مردُّه إلى ما جرت الإشارة إليه فيما سبق، وهو توفيق الله شيخنا الشيخ إبراهيم –وهو العالم الرباني- إلى العمل بالعلم، والزهادة في الدنيا، مع التنسُّك والإكثار من العبادة، في سلوك لا يغادر السنة، مضموماً إلى ذلك: ما كان من السخاء وبسط الكف في الصدقات وفعل الخيرات والقربات، ناهيك عما أخذ به نفسه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد توافر له –بحمد الله- الشجاعة النادرة في الصدع بالحق، وأن لا يخاف في الله لومة لائم، كل أولئك مع الحرص على بذل الجهد في تعليم من يستطيع من الناس أحكام الدين وآداب الإسلام من خلال الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

وإن أنس لا أنس ما حدثني به الثقات عن موقف غاية في الروعة وقع له أيام انتشار جيش الاحتلال الفرنسي في قطنا بعيد ثورة 1925م، حيث بلغ الأمر من السوء حدّ أن أذِنت القيادة للجنود وهم المتطوعون من غير أهل السنة، بمشاركة الناس في بيوتهم، حتى إنك لا تعدم أن ترى في كل منزل جندياً أو أكثر يسومون الناس سوء العذاب من طريق التعايش الذي فرضوه عليهم.

وفي هذه الأثناء –والحال هي الحال- جاء رجل مسكين مستضعف إلى شيخنا –وهو في المسجد- يشكو له علاقة سيئة بين جندي أسكنه الاحتلال في داره وبين زوجته، فاختار الشيخ –ولم يكن مفتياً بعد- أن يوجه الرجل الذي يعتصره الألم ويعيش على تهديد الجندي له بالموت: إلى القاضي ذي المنصب الرسمي، ويخبره بالأمر علّه يساعده، ولكن القاضي –وقد بلغ منه الذعر مبلغه- صدّه، وأمره أن لا يتحدث عنه أنه لقيه بهذا الشأن قائلاً له: ألا ترى إلى حالة الطوارئ المفروضة على البلد بمن فيه؟!.

وعندما عاد الرجل إلى شيخنا وقصَّ عليه ما حدث مع القاضي: صحبه إلى المنزل وفي الطريق رأى شاباً يعرفه من المسجد، فقال له: تعال معي أعلمك كيف يُنكر المنكر، وحدثني هذا الرجل يرحمه الله أنه رأى بأم عينه تصرّف الشيخ بعد أن دلّه صاحب المنزل على الغرفة التي يخلو فيها الجندي الحقير بزوجته، إذ طرق الشيخ الباب وطلب أن يُفتح فرفع الجندي صوته بالوعيد للطارق، فما كان من الشيخ –كما حدثني الرجل- إلا أن دفع الباب بقوة لا يعهدها الناس منه، وإذا بالباب الموصد ينخلع، ولم تَخْفَ بوادر السوء بين الجندي والمرأة، فغضب الجندي وثار لأنه الأقوى –كما يحسُّ بذلك- ولكن الشيخ قابله بالنصح الحكيم، غير أن المجرم لم ينتفع بهذه الحكمة بل غضب بسوء أدب وتهديد ووعيد، وعمد إلى بندقيته المعلقة في الجدار، ووجهها إلى صدر الشيخ، ولكن الشيخ وقد بلغ منه الغضب لله مبلغه أمسك البندقية من يد الجندي قائلاً له: اضرب الله أكبر منك، اضرب الله أكبر منك، واستطاع بقوة إيمانه أن ينتزعها منه، ويتخذ منها بواسطة حمالتها سلاحاً طوقه به على رقبته، وهنا خارت قواه، وأصبح الشيخ سيد الموقف، وقاده إلى دار الحكومة، وفي الطريق لم يقصر في تأديبه وتأنيبه، حتى إذا اقترب الشيخ من مباني السلطة الفرنسية، صادف ذلك خروج ضابط شركسي مسلم يعمل ترجماناً للفرنسيين، فسأل الشيخ عن هذا الأمر المهول، فأجابه بالواقع، عندها قال هذا الترجمان الضابط لشيخنا: انتهى دورك يا سيدي، ونحن ستنصرف إن شاء الله.

ومما يجدر ذكره هنا: أن الشيخ رحمه الله لم يقدم على ما أقدم عليه وهو يجهل أن هنالك أحكاماً عرفية وحالة طوارئ، وأن دم المسلم –أو المواطن السوري عموماً يومذاك- لا قيمة له عند اللزوم، وإن كانت تصرفات المستعمرين الفرنسيين أحياناً أقل سوءاً من تصرفات بعض الحكام عندنا الذين همّهم توكيد إلغاء وجود الإنسان، بمصادرة حريته وكرامته، وانتهاك الحرمات صباح مساء، فالشيخ رحمه الله غضب لله، وأقدم على ما أقدم عليه انتصاراً للحق، وقياماً بواجب معاونة الضعيف من إخوانه، ودرء المفاسد عن المجتمع قدر المستطاع، وليكن بعد ذلك ما يكون، وإنها لشجاعة في نصرة الحق وأهله مقامها عظيم في تاريخنا ونورها وضاءٌ لا ينكره إلا أرمد العين أعشى، وبدونها تظل الأمة مضروباً عليها بالأسداد، ذليلة بعد عز، ضعيفة متراخية بعد قوة وظهور.

هذا: ولم يمض إلا حقبة يسيرة من الزمن حتى بدأ التآمر على الشيخ... أجل، بدأ امتحان الشيخ من طريق المال، فإن نجحوا، سقط الشيخ في وهدة حب الدنيا، وأن غضبه لم يكن لله، إذ سرعان ما تغير الحال على وهج الذهب، ولكن خاب فألهم، وقصة ذلك كما يلي: بعد حقبة يسيرة من الزمن دُعي الشيخ دعوة رسمية لحضور اجتماع مهم طارئ في دار الحكومة يحضره المستشار الفرنسي وبقية الرسميين من عسكريين ومدنيين ولبى الشيخ الدعوة حرصاً على أن يكون –وهو المفتي والخطيب والمدرس والإمام- على علم بمسالك الأمور، ودراية بما يجري على الساحة العامة، واستقبل الاستقبال المناسب، وجلس في مكانه اللائق، والحضور ينظرون إليه ولم يمض مع ذلك إلا دقائق، حتى أعلم الشيخ بإعلان عام أن الجندي الذي كانت له واقعة عصية مع الشيخ قد تاب وأناب، وسيعتذر من الشيخ ويطلب الصفح منه أمام الجميع من المستشار الفرنسي فيما بعد.

بدت الموافقة على وجه الشيخ ووصل الجندي إلى حيث يجلس، واعتذر وأخذ يد الشيخ يريد تقبيلها بحسب الظاهر، ولكن سرعان ما ضرب الشيخ على يد الجندي بيده، وهناك تطايرت ليرات ذهبية كثيرة بعض الشيء وتبين أنها المؤامرة الشنيعة، ونادى الشيخ بعد أن تطايرت الليرات: تريدون أن تشتروا إبراهيم بالذهب، إبراهيم يغضب لله، ولا يبيع دينه، واعملوا ما شئتم فروحه رخيصة في سبيل الله ثم نصرة الحق مهما كلف ذلك من ثمن. وانفض الاجتماع بعد أن رفع الشيخ عقيرته بشجاعته الأدبية، وجرأته في الصدع بالحق، ولم يقصّر في توجيه الخطاب للمتآمرين بما يستحقونه، وتأنيبهم على صنيعهم الساقط المتخلف.

وبعد هذا كله، راح القوم يسترضون الشيخ معتذرين، وأبلغوه ما قرروا من عقوبة الجندي، ومن فقراتها إبعاده عن قطنا إلى بلد ناءٍ بعيد.

وهكذا انتصر الحق، وارتفعت راية الرجل الرباني الشجاع الشيخ إبراهيم الغلاييني، وكان صنيعه من أوله إلى آخره محطة مباركة في تاريخ الغضب لله والصدع بالحق، وأن لا يخاف العالم الرباني في الله لومة لائم.

من كراماته رضي الله عنه:

وفي خاتمة المطاف: لعل من الخير وما ينبغي من التكامل –أو ما يقاربه- في الحديث عن واحد من أعلام الربانيين –وأستاذنا الشيخ إبراهيم واحد من عيونهم- أن نشير إلى أن ما كان عليه الشيخ من الصفات التي سبقت، ومنها سلامة عمل الجوارح، نتيجة استنارة أعمال القلب، بعد إخلاص الدين لله على يده –وفق ما تقرره الشريعة- واحدة أو أكثر من الكرامات التي يكرم بوقوعها أولياءه الربانيين في نور قوله تبارك وتعالى: (ألا إنّ أولياء الله لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) (يونس).

وقد وقع العديد من ذلك له يرحمه الله، مما شهدته بنفسي، أو سمعته من العدول الثقات، والأمر متسع لعطاء الرحيم الرحمن سبحانه في حياة زاخرة بالخير والصلاح.

وإذا كان الأمر كذلك: فلابد من الإشارة إلى أنه –يرحمه الله- كان لا يُولي ظهور الكرامة كبير عناية لأنه يخاف أن تكون استدراجاً كما ورد ذلك عن أحمد بن حنبل رحمه الله وكثيراً ما كان شيخنا يردد: الاستقامة هي عين الكرامة، فالخير كل الخير عنده، والكرامة كل الكرامة، أن يعمل المؤمن بهذا الدين، ويضبط سلوكه بضوابط الشرع الحنيف، وإذا ظهر على يده شيء مما نقول من الكرامات: تراه وكأنه مذعور مما حدث، ويحاول جاداً صرف من شهدوا ذلك عنه، وأحياناً تدمع عيناه، ويستبدل الحديث الذي كانت الكرامة ثمرته، بموضوع آخر، أو بمسألة علمية ينبغي تداول الكلام في شأنها إلى غير ذلك من الصوارف التي يراها، موصداً البابة التي ظهر منها الأمر الخارق.

ومهما يكن من أمر: فإن هذا الموقف من الشيخ يزيدنا رغبة في أن نتحدث بإيجاز إضافة إلى ما ذكر عن بعض هذه الكرامات، وسأقتصر على ذكر ثلاث منها، مستصحباً حقيقة أن ما ذكر دليل على مالم يذكر، ما دامت الكرامة ليست من صنع صاحبها، ولكنها فضل من الله تبارك وتعالى يتفضل بها على أوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون.

* فأولاها: ما حصل لي معه وأنا حديث السن، حديث العهد بطلب العلم عنده، إذ خرجت من المسجد بإذنه وهو معتكف في العشر الأواخر من رمضان، وذهبت إلى دارنا حيث الوالدة(4) رحمها الله وأجزل مثوبتها هي راعية المنزل لأن والدي توفي وأنا ابن ستة أشهر، وسنها عشرون عاماً، وتأبّت على الزواج حرصاً منها على التفرغ لتربيتي وتعليمي أعلى الله مقامها في الآخرين مع المنعَم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

وجرى بيننا كلام في شأن الثياب، ويبدو أني أطلت بعض الشيء وربما كان ذلك خطأ لعدم الانتباه أو ما يشبه ذلك مما يمكن أن يقع من فتى سنّه ثلاثة أو أربعة عشر عاماً يومذاك، وشعرت بيني وبين نفسي بالخطأ خصوصاً وأنها –بعد الله- كل شيء بالنسبة لحياتي التربوية وكل ما يكون من أسباب بناء شخصيتي، فهي بعد الله صاحبة الفضل الكبير على درب اليتم الطويل وعدت إلى المسجد. وبعد دقائق من درس قرأته مع الشيخ، شرع يمتّن شيئاً من حفظه في القرآن الكريم وأنا أضبط في المصحف، وكان من عادته أن يقف أحياناً عند بعض الآيات يستجلي بأسلوب جميل بعض معانيها وما تعطيه من الفوائد، فجاء على آية لا أذكرها الآن، حمله معناها على القول –بكل وضوح- هذا ما يجب أن يكون للوالدين طاعة لله عز وجل، لا كما يفعله بعض الشباب من مجادلته والدته وربما رفع صوته فوق صوتها، وأحسست صادقاً –علم الله كأن الشيخ كان معنا ساعة جرى الحديث بيني وبين سيدتي الوالدة في منزلنا حيث كنا وحدنا، وهو رحمه الله في المسجد ملازم للبقاء فيه معتكف!!.

واستغفرت الله بعدها مرات ومرات، واسترضيت سيدتي الوالدة معتذراً وهذا بعض حقها، لأن حقها وهي الأم الصابرة المجاهدة التقية كبير كبير، على أن شخصيتها بما اجتمع لها بعون الله من عزم وحزم وشفقة وصبر: كانت أكبر مني وأكبر من اعتذاري، فرضيَتُ ودعت دعاء مصحوباً بالدموع، رحمها الله رحمة واسعة.

* أما الثانية: فقد حدثني الثقة العدل الذي لا أشك في صدقه وتقواه، وفي محبته الصادقة الواعية لشيخنا رحمهما الله، معلمي ومربيّ في السنتين الرابعة والخامسة –وهي سنة الشهادة يومذاك- في المدرسة الابتدائية، وفي بيته أيضاً معاونة لطالب قريب له يتيم يتوسم فيه الخير: الأستاذ حسين أمين من خيرة أهل قطنا، وكبار رجال التربية والتعليم في سورية إذ أمضى –مع التدريس- حقبة طويلة في التفتيش.

حدثني أنه عندما كان الشيخ في الأربعينيات حاجاً حجته الأخيرة، وهو مشتاق إليه ويحبه، رأى فيما يرى النائم: أنه مع الشيخ إبراهيم في الحج، وعندما أتيا ماء زمزم، وشربا بهناءة من ذلك الماء المبارك الذي هو طعام طُعم وشفاء سُقم، شرع الشيخ يلحّ عليه، بإعادة الشرب، والتضلّع من ماء زمزم، وكرر ذلك غير مرة، ومضت الأيام وعاد الشيخ من الحج بعد تأخر لسبب صحي. يقول الأستاذ حسين –أبو ماجد- وذهبت إلى منزل الشيخ –شأن الكثيرين- للمباركة بالحج، والتهنئة بالقدوم وطلب الدعاء، وكنت إلى تلكم اللحظات عند الشيخ ناسياً الرؤيا، ولكن فوجئت بما جعلني أذكرها مفصّلة على خير وجه، ذلك بأن تلميذي النجيب سعد الدين أحد أولاد الشيخ، قام يكرم الأضياف بتوجيه من أبيه بأن قدّم لنا ماء زمزم بكؤوس جميلة، والذي فوجئت به وأبكاني، أنه عندما وصل الشيخ سعد إليّ بدور الضيافة شربت الكأس، وإذا بالشيخ يقول لولده سعد: اسق عمك وأستاذك أيضاً من ماء زمزم –وكان ذلك لي دون الآخرين من الأضياف وهم كثر، وكرر ذلك هنا- كما كرر أمري بالتضلّع من ماء زمزم –في مكة المكرمة هناك إذ كلما شربت كأساً أمر سعداً بأن يجدد الإكرام بكأس أخرى.. وعندها اعترتني حال الصحو بعد الغفلة، وتذكرت الرؤيا التي كنت ناسيها، تذكرتها بالتفصيل الذي عماده التطابق بين أمره لي بأسلوبه العذب المحبّب غير مرة بأن أتضلّع من ماء زمزم، وبين أمره ولده تلميذي النابه بأن يعاود إكرامي بعد كل كأس بكأس جديدة ثلاث مرات أو تزيد، وبكيت وبكيت وأحسست بسعادة لا أملك وصفها وحمدت الله على فضله في أن منّ علينا بل على الأمة بهذا الرجل الرباني العظيم عالمنا وشيخنا الشيخ إبراهيم يرحمه الله!!.

* وأما الثالثة: فواقعة حصلت لي معه –وقد مضى على زواجي بابنته أم أولادي السيدة المصونة أم محمد إقبال ما يقارب الثمان سنوات، حيث صدر قرار إيفادي –وأنا معيد بكلية الشريعة بجامعة دمشق- إلى كلية الحقوق بجامعة القاهرة في القاهرة، للحصول على درجة الدكتوراه في الحقوق –الشريعة الإسلامية، وسافرت مع أهلي حيث مكثنا في القاهرة بضعة شهور ثم عدنا، وعزمت على العودة لمتابعة الدراسة والتحضير، وكنا ما نزال نسكن في قطنا والشيخ موجود هناك، وحرصت في اليوم الذي يسبق سفري أن أودّعه على الطريقة المسلوكة بيننا محبة واحتراماً وتقديراً، ولكني فوجئت بأن الشيخ متعب في النهار، وقيل لي: لعلك تمرّ في المساء، وفعلاً مررت في المساء، فإذا بي أفاجأ مرة أخرى بأن الشيخ ما يزال متعباً ونام مبكراً، وأنه –لحرصه على اللقاء مع ما هو عليه من التعب- رأى أن يكون الموعد فجراً إن شاء الله أو قُبيل الفجر، ولم أستغرب الموعد في هذا الوقت لأني أعلم أنه لا يدع قيام الليل والمناجاة بالأسحار، حتى عندما يكون متعباً بعض الشيء، بل يستشفي بذلك، شأن أهل القلوب الربانيين، وجئت قبل الفجر، واستقبلني جزاه الله خيراً بلهفة أبوية حارة مصحوبة بلطيف الاعتذار، وأشعرته أني أنا الأجدر بأن أعتذر عن إلحاحي، ولكنه السفر.. واستفسرت عن صحته وتمنيت له الشفاء العاجل ودعوت الله بذلك نظراً لما يعتريه من التعب، وضيق الوقت عندي لأني مسافر في الصباح، صلينا الفجر في المنزل، والغريب الذي لم أكن أتوقعه أنه –لأول مرة- تجمعنا فيها جلسة خاصة، يقدمني لإمامته في الصلاة، ثم لا ينفع الاعتذار، ويصرُّ على ذلك ولم يكن يدور بخلدي شيء من دلالة هذا التصرف الزاخر بالتواضع والإكرام، وأن له علاقة بأن هذا اللقاء هو الأخير هذه المرة، وانتقلنا من الصلاة بعد الفريضة، وقرأ أوراده المعتادة بشيء من الإيجاز، ثم فتح الله عليه –وهو ينظر إليّ جزاه الله خير الجزاء- بكلام عجيب في عذوبته، جِدّ عظيم في مراميه، تحسبه دموعاً وما هو بالدموع، وقد يكون كلام مودع، أنت محجوب عنك الشعور بذلك، فأنا –على الحقيقة- جدُّ حريص قلباً وعقلاً بأن أتزود أكبر قدر ممكن من عمق كلماته، والنظر إلى وجهه المؤنس النيّر بالصلاح والنصح، ثم الإفادة من توجيهاته التي تأخذ بمجامع القلوب، حيث أستمع إليه وهو صاحب الفضل في التعليم والتربية، والمعاونة على كل ما فيه سلامة البناء في مرحلة استقبل فيها العمل الجامعي، وما قد يتصل بذلك من شؤون الدعوة، ثم إنه –والحمد لله- جدُّ أولادي وهذا شرف كبير وتحدّث وتحدّث وفي عينيه التماع، وفي قلبه من نور الإيمان والخشية وجيب، وكانت نظراته تتألق وكأنها تريد أن تقول للزمن: تمهل قليلاً، تأنّ قليلاً، تريث قليلاً.. كل هذا وأنا –لأمر يريده الله- لا أتبيّن أن الجلسة أصبحت جلسة مودع لها دلالتها ومعانيها في المحبة والتذكير النافع العظيم، وأنى لي أن أحيط بسنا ما كان من نفحات تلك الجلسة التي كان السلطان فيها للغة القلوب، حيث سار معي –أكرمه الله- إلى الباب الخارجي، وكم كانت لحظات عميقة الدلالة على فضله ومحبته وما كان من رحلة عينيه إلى المستقبل في تلك اللحظات، وتعانقنا وقبّلني وعيناه تدمعان، وقبلت يده مرة بعد مرة، وقلبي يجف من عطائه وحنانه، كل ذلك وهو يتمتم نحو السماء، ولم يدع أن يدعو بدعاء الوداع المسنون عند السفر، وخرجت وأنا أتمنى أن لا أكون أثقلت عليه، مع أني اعتذرت له عن ذلك من قبل، وتوجهت إلى السيارة التي تقلّني إلى المطار، وأنا أحمد الله بلساني وبقلبي على ما أكرمني به من لقاء شيخنا على ما هو فيه من الحال الإيمانية التي رأيت، والعطف الذي شهدت، ودعوت الله له بالشفاء العاجل وأن يهبه سبحانه قوة من لدنه، تقدّره على أن يتابع مسيرة الخير، حاضر القلب، دائم النفع للآخرين.

وبيت القصيد: أنه لم يمض علينا بضعة أشهر في القاهرة، حتى وافاه الأجل في دمشق، وعندها أحسست بأن تصرفه النوراني الذي تحدثت عنه في منزله بقطنا موثّق العرى –والله أعلم- بنبأ الوفاة، فكأن الله تعالى قد ألهمه الإحساس بدنو الأجل، وأن لا لقاء بعد اليوم في هذه الدار، فكان منه ما كان، أجزل الله مثوبته، وجزاه عني كل خير.

وكم تمنيت أن لو قسم لي وداعه في لحظاته الأخيرة، وتقبيله بعد موته.. كما أكرمني هو بذلك الوداع المؤثر ساعة غادرت منزله في قطنا، ولكن قدر الله غالب، والرضا به واجب، ولا أملك إلا الدعاء بأن يجمعني الله به في مستقر رحمته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

والآن: أرأيتم؟ هذه هي ثالثة المكرمات التي اقتصرت على ذكرها، ولشيخنا رحمه الله غيرها وغيرها مما أرجو ذكره في كتاب عن شيخنا إن يسّر المولى عز وجل، وأولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

               

(1) "حضارة الإسلام" السنة الثامنة عشرة، العدد (4)، رجب 1397هـ/ تموز 1977م.

(2) ولد شيخنا رحمه الله في دمشق سنة 1300هـ ومن كبار العلماء الذين درس عليهم الشيخ عطا الكسم والشيخ محمود العطار رحمهما الله وعمل في بدء شبابه إماماً وخطيباً في قطنا وبعد سنوات قليلة عيّن مفتياً فيها وظل كذلك إلى أن توفاه الله في 15 شوال سنة 1378 للهجرة، ودفن في مقبرة باب الصغير بدمشق، ومما شرفت به أن أهديت إليه رسالة الدكتوراه "تفسير النصوص" في تموز 1964م بقولي هناك: "إلى الرجل الذي عاش لا يخاف في الله لومة لائم، حتى قضى في سبيل الهداية والحق مثلاً للعالم العامل المجاهد، ومربياً ناصحاً لدينه ولأمته الشيخ إبراهيم الغلاييني.." أستاذي.

(3) أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة برقم (59).

(4) الوالدة: هي السيدة أم أديب نظمية بنت أحمد الطحان ولدت في دمشق عام 1906م وعاشت في قطنا مع والدي الذي توفي رحمه الله وسنّها يومذاك عشرون عاماً وستة أشهر، وحرصاً منها على تربيتي دون سلطان لزوج جديد رفضت الزواج ثانية بعد أن خطبت غير مرة، وتفرّغت جزاها الله خير الجزاء للعناية بي صابرة على لأواء الطريق مجاهدة تقية، همّها –بعد استقامتها- أن ينشأ ولدها نشأة علمية صالحة، وكانت وفاتها في الرياض بالمستشفى بعد تمريضها أياماً، وهي صابرة محتسبة في المنزل بيننا عام 1403هـ ويسّر الله دفنها في البقيع بالمدينة المنورة والحمد لله إنفاذاً لما هو شبه الوصية.. ولقد أسعدني وزادني شرفاً، وهذا ما أملكه أن جعلت إهداء رسالتي للدكتوراه "تفسير النصوص" قولي هناك: "إلى الرائدة الأمينة على درب اليتم الطويل.. والتي ما زالت تتابع الطريق عطاء ووفاء ترجو بهما الله واليوم الآخر.. أمي يرحمها الله ويعلي مقامها في الآخرين. تموز 1964م.