وقفات شخصية مع العم والأستاذ أبي سليم

1930 – 2009 , 1348 - 1431

د. مأمون مُبّيض

لا أذكر اسم الكتاب الذي كنت أبحث عنه، ولعله كان كتاب خصائص التصور الإسلامي لمؤلفه سيد قطب رحمه الله تعالى، إلا أن الأستاذ المعلم هشام الجزائري، وهو أحد إخواني وأساتذتي الذين أثق بهم، أشار علي بزيارة مكتبة "دار الفتح" في منطقة الحجاز (2)، وأن أطلب الكتاب من صاحبها الأستاذ "أبو سليم" أملاً أن أجد عنده الكتاب المطلوب. دخلت مكتبة "دار الفتح" وكان الممر محاط بالكتب من كلا الجانبين، فلم أجد أحداً في المكتبة سوى الكتب هنا وهناك، فناديت "السلام عليكم" وإذا بصوت رخيم هادئ مطمئن يخرج من خلف صفّ مرتفع من الكتب التي وضعت على الطاولة في آخر الممر "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته".

ومن بعد الصوت أطلّ وجه مدوّر أقرب منه للحمرة، وجه رجل مطمئن الهيئة كصوته، وقدرّت حينها أنه كان في الخمسينات من العمر.

قدمت نفسي لهذا الرجل، وذكرت له اسم الأستاذ هشام الذي نصحني بزيارة المكتبة والسؤال عن الكتاب... فعرّف الرجل نفسه بأن الناس ينادونه "أبو سليم"، وقال لي: مرحبا بكل من يرسلهم إلينا الأستاذ هشام أو "أبو ياسر".

سألت الأستاذ أبا سليم عن الكتاب الذي أقصد، وقبل أن يجيبني على سؤالي، أخذ يدردش معي ليتعرف عليّ وعلى دراستي واهتماماتي... وبدرت عليه، أو هكذا شعرت، علامات السرور عندما علم أنني في السنة الثانية من كلية الطبّ في جامعة دمشق. وأخذ الأستاذ أبو سليم بالحديث عن مفاخر الأطباء المسلمين الأوائل من ابن سينا وابن النفيس والزهراوي... وبعد أن تحدث عنهم بالكثير من الإيجابيات، صمت برهة ووضع يده على خدّه وعقب قائلا "إلا أن علينا أن نحسن الاختيار فيما نأخذ عنهم، وفيما ندعه لهم".

ومن ثم، وبعد أشهر من تعرفي وترددي المتكرر على مكتبة أبو سليم، عرفت أسلوبه الموضوعي في رؤية إيجابيات الناس من مؤلفين ومفكرين، فهو لا يسمح لإعجابه بهم أو ببعض مؤلفاتهم، أن يمنعه من التنبيه لبعض مآخذهم أو هفواتهم أو أخطائهم غير المتعدمة أو المتعمدة أحيانا!

ليس في كل يوم نلتقي بشخص نعجب به فيترك بصماته الواضحة في حياتنا، إلا أن الأستاذ أبا سليم كان من هذا النوع، وهذا على الأقل لمن يحب أن يتأثر بالآخرين، ويستفيد مما عندهم.

إنك تشعر عند تعرفك على أبي سليم بأنك أمام رجل "مختلف" عن بقية الرجال، بأنك أمام رجل "متميّز"، وإن كان هذا بطريقة لا تعرف كيف تفسّرها بداية. والغالب أنك قد لا تفهمه أو تتعرف عليه حقيقة من اللقاء الأول، وإن كان التأثر حاصلا من الدقائق الأولى. وهذا التأثر ليس فقط مما يقوله أبو سليم، وإنما أحيانا بما يسكت عنه. حيث تشعر أحيانا أن لديه كلام يقوله في الموضوع المطروح، إلا أنه ولسبب "وجيه" عنده يفضل عدم الخوض بالأمر، والانتقال لجانب آخر يراه أكثر أهمية وفائدة!

ويسرني أن أقول أنني لم أخرج من مكتب دار الفتح في زيارتي الأولى إلا ومعي الكتاب الذي أتيت أبحث عنه!   

الموجّه والمعلم ومكتبة لا كالمكتبات:

يصفُ من يعرف أبا سليم حق المعرفة، الأستاذ الفاضل عصام العطار فيقول فيه " لكنَّ الخطَّ الأصيلَ المستمرَّ الأبرزَ في حياته إنّما هو خطُّ التربيةِ والتعليم ، والصفةَ الحميدةَ المتقدّمةَ في صفاتِه إنّما هي صفةُ الأبِ أو الأخِ المعلِّم المربِّي". (3)

 وتمر الأيام ويتكرر ترددي على مكتبة الفتح أو كما أصبحنا نسميها "مكتبة أبو سليم".

كنت قبل مكتبة أبي سليم أنتقي الكتب بشكل فرادى كتابا بعد كتاب، ولكن بعد التعرف على أبي سليم، أصبحت القراءة أكثر تنوعا، ولكن، وهذا الأهم، أكثر ترابطا وبحيث ينتقل الإنسان ربما من الأهم للمهم ومن ثم للهام، وبحسب الحاجة الفردية للقارئ، وما يحتاجه لتتكامل عنده جوانب المعرفة، فلا يطغى جانب على حساب الجوانب الأخرى.

كان أبو سليم دوما عنده في ذهنه وفي مكتبته ما ينصح به أو يشير إليه، في كثير من الأحيان مما هو معروض في المكتبة، وفي بعض الأحيان مما هو غير معروض للبيع، وكأن العم أبا سليم كان ينتقي لبعض الكتب قرائها! وكان يقول أحيانا "هل قرأت هذا الكتاب؟" أو "ماذا قرأت للمؤلف الفلاني؟" ومن ثم يشير لبعض التسلسل في أولوية قراءة بعض الكتب أو المؤلفين أو الأفكار المطروحة... وكم عرّفني ونصحني جزاه الله خيراً ببعض الجوانب الهامة في عالم الكتب والأفكار.

تحدثت معه كثيراً عن كتب وأفكار مالك بن نبيّ وأنور الجندي وسيد قطب وعباس محمود العقاد ومصطفى صادق الرافعي وعصام العطار وجودت سعيد ومحمد عبد الله دراز وفاخر عاقل ووهبة الغاوجي الألباني ومحمد أحمد الراشد وسعيد رمضان البوطي وعبد القادر عودة ووحيد الدين خان وأبو الأعلى المودودي وطه حسين وعلي الطنطاوي ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي ومحمد قطب وعائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ وناصر الدين الألباني وزهير الشاويش وعماد الدين خليل ومصطفى السباعي ومحي الدين القضماني ومحمد إقبال وعبد العزيز بن باز ومحمد متولي الشعراوي وأبو الحسن الندوي وعمر عبيد حسنة وحسن الترابي ونجيب الكيلاني وعدنان زرزور وعبد الكريم زيدان ومحمد أسد وشوقي ضيف وجبران خليل جبران وأدونيس... هذا غير القدامى من أمثال ابن تيمية وابن القيم وأبو حامد الغزالي وابن حزم والماوردي وابن كثير والقشيري وعبد القادر الجيلاني وابن خلدون والبخاري ومسلم والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل والإمام مالك والنووي وغيرهم.      

ومع هذا التنوع في القراءة كنت أسمع من الأستاذ أبي سليم بشكل صريح أحيانا وبمجرد إشارات عابرة في أحيان أخرى عن أهمية التخصص والتعمق في فهم فن من الفنون أو كاتب من الكتاب أو فكرة من الأفكار.

ويصف الأستاذ عصام العطار هذه المكتبة فيقول في مقالته عنه "أما مكتبته التي أنشأها في دمشق قبل أن يغترب عن دمشق : « دار الفتح » ، فلم تكن مجرد مكتبة كبيرة تجمع عدداً كبيراً من الكتب فحسب؛ ولكنها كانت قبل ذلك مدرسة ثقافية حرّةً أمينة راقية، يدخلها الطلبة والتلاميذ وشداةُ المعرفة والثقافة فلا يجدون في صاحبها (أبي سليم) التاجرَ بائعَ الكتب الذي يهمه تصريف بضاعته بأيّ شكل؛ بل يجدون فيه قبل ذلك الأستاذَ المعلّمَ المثقّف الناصح: هذا الكتابُ يفيدُك في دراستك أو بحثك ، هذا الكتابُ لا يفيدك كثيراً، هذا الكتابُ يوجدُ في موضوعه ما هو أفضل منه. ويسألُه سائلون في مشكلاتٍ دراسية، ويسأله سائلون في مشكلاتٍ شخصية، فيجدون عنده الصدر الرحب، والمشاركة الوجدانية، والرأيَ السديد، والعون العمليّ حيثما أمكنَ العون .. لقد كانت مكتبة دار الفتح مدرسةً فَذَّة، مدرسةً ثقافيةً واجتماعيةً وخلُقية، روحُها وفكرُها وأداتُها التنفيذية بالدرجة الأولى أبو سليم" (3)

كنتُ، وكغيري من الشباب في دمشق ومن المدن الأخرى، نزور مكتبة أبا سليم لنأخذ النصح والمشورة ليس فقط في الكتب والأفكار والأدب، وإنما حتى في حياتنا الفكرية والدراسية والمهنية... وحياتنا الخاصة أحيانا. كنت تشعر بكلماته وتوجيهاته ونصائحه، أنها نصائح أب حنون لأبنائه، وبأنه حريص عليهم وعلى تشكلهم الفكري والتربوي. كنت تشعر مع كلمات أبي سليم عدم افتراق القول عن العمل، وتشعر أنك أمام إنسان ارتفع إلى مستوى تطبيق المعاني التي يتحدث عنها في حياته الواقعية. كان يميل في نفسه وللنخبة من الناس من حوله بالأخذ بعزائم الأمور وعدم الركون إلى الرخص، وإن كان لا يعارض هذا لعامة الناس. ولعل هذا يفسّر ما يجعل بعض الناس، ممن لا يعرفون حياة الأستاذ، ينتقدون منهجه وجديته وصرامته في الحياة.

ولعل في هذا المعنى كتب عنه الأستاذ الفاضل المحقق زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع في بيروت مقالة عن أبي سليم عنوانها "الداعية بطريقته الخاصة، من قرون ماضية" (4).

التخصص النفسي:

لقد كان للعديد من الأساتذة والعلماء فضل عليّ في تزكية وتشجيع توجهي لدراسة الطب النفسي والتخصص فيه، وكان من جملة هؤلاء الأستاذ أبا سليم. فعندما علم باهتمامي بجوانب النفس البشرية، وربما احتمال تخصصي في الطب النفسي، أشار عليّ ببعض الكتب المفيدة في هذه العلوم النفسية والاجتماعية. وسُرّ كذلك عندما عرف بعزمي على التوجه إلى أوروبا للتخصص في الطب النفسيّ، وكانت لتوصياته الأثر الطيب في حياتي الدراسية والخاصة. ففي الجانب التخصصي كان توجيهه دوما بالرجوع إلى أمهات الكتب في الفن الذي يدرس فيه الإنسان، وقد أخذت بالكثير مما نصح به ووجه إليه.

ومما لم أطبق مما نصح به، ولو كنت طبقت لكان عندي الآن ربما من أكبر القواميس والمعاجم الطبية النفسية، فقد أشار عليّ مرة أن أحاول وأنا في الغرب وأثناء تخصصي وكلما مرّ معي مصطلح نفسيّ جديد أن أكتبه على بطاقة صغيرة، شارحا أصل الكلمة ومعناها بالعربية واللاتينية، ومن خلال الزمن سيتجمع لديّ مادة علمية غزيرة جديرة بالنشر والطباعة. صحيح أنني لم أطبق هذه النصيحة بالذات إلا أني أخذت بالنصائح الأخرى التي جمعت لديّ مادة علمية طيبة، أو هكذا أحسبها، مما وضعته في عدة كتب وصلت للعشرة كتب، وهناك ما يتبع، إن كان في العمر بقيّة!

ومما نصح به الأستاذ أبو سليم أن أخطب بنت الحلال قبل توجهي للغرب، مما يحميني من مغريات الغرب ومفاتنه، وقد أخذت بهذه النصيحة ولله الحمد، ونعمت بالزواج من الزوجة الفاضلة الأديبة وفاء، والتي بالإضافة إلى رعاية وتربية أبنائنا الثلاثة، تعمل في الأدب حيث نشرت العديد من الكتب القصصية والأدبية، بالإضافة إلى موهبتها في الرسم المائي، وهي حفظها الله نعم الرفيقة في مغترب أوروبا.

رجل القضيّة والمهمّات!

عندما تكون مع الأستاذ أبي سليم، كنتَ تشعر دوما، ومهما كانت المناسبة، أنك مع رجل صاحب رسالة، لا يكاد ينفك عنها ولا هي تنفكّ عنه. تشعر أنك أمام رجل ممتلئ بقضيته، وهي الإسلام وعلو الإسلام وعزة الإسلام.  

وعندما أخذت طريقي في الغرب، وقطعت أشواطا في تخصصي في الطب النفسي، تيسّرت لي ظروف اللقاء بالأستاذ أبي سليم عدة مرات في أوروبا، ومرة لما زرته في منزله في عمان، وكان قد غادر دمشق وعاش بقية حياته الطيبة في عمان.

وكم سعدت، وغيري من الشباب الذين تربوا على يد الأستاذ أبي سليم، كم سررنا باللقاء به مجددا في أوروبا، فكان في أوروبا وكما عهدناه في ربوع دمشق رجلاً صلبا، ممتلئا بقضية الإسلام وبلاده والمسلمين. وبالرغم من خروجه من المكتبة التي حُرم منها، وبالرغم من عدم وجود نسخ الكتب الكثيرة من حوله، إلا أنه كان يتابع النصح والتوجيه والتسديد لإخوانه ولطلابه ولمحبيه.

وحتى عندما زرته في بيته في عمان عام 2007، وقد أعياه المرض وتقدم السن، فكان كما هو في صلابة العزيمة والهمّة العالية، وكما هو في حرصة وتفانيه في خدمة إخوانه ومن حوله وكل من يلجأ إليه.

ومما نصحني به العم أبو سليم، وأنا ممتنّ له بهذا الفضل، أن أتصل فور وصولي لأوروبا بالأستاذ والمربي والمفكر والأديب الإنسان عصام العطار، وقد قمت بهذا التواصل مع الأستاذ عصام حفظه الله من الأيام الأولى لوصولي للغرب، فكان هذا، ولا يزال، متنفسا واسعا لي وأنا في هذه الديار وهذه الحياة.

ومن نصائح الأستاذ أبي سليم الأخيرة لي ومباشرة قبيل سفري للدراسة في الغرب، أن لا تطيب لي ولا لغيري من الشباب حياة الغرب، وأن لا تمنعنا صعوبات الحياة المادية في بلادنا، وكما قال هو "طوابير الخبز... وطوابير أناني الغاز" أن تصرفنا عن العمل لبلادنا، وعن العودة إليها للمساهمة في بنائها، وأن نذكر على الدوام بأن لدينا واجبا نقوم به نحو بلادنا وأهلنا وأوطاننا.

وقد كانت هذه هي أمنيتي وأمنية الكثيرين ممن أعرف من الأساتذة والإختصاصصين والدارسين والعلماء في الغرب والشرق، أن نعود لبلادنا الحبيبة دمشق وربوع الشام، لنساهم في ضمّ جهودنا، المتواضعة، للعاملين المخلصين هناك من أجل النهضة الشاملة في بلدنا ومجتمعنا، إلا أن سير الأحداث وتطورها وتأزمها وخاصة فيما يتعلق بحقوق المواطن وحقوق الإنسان، منعت الأستاذ أبا سليم ومنعتني ومنعت الكثيرين من أمثالنا من العودة الحرّة الكريمة للبلاد.

إن جهودنا التي نضعها في الغرب من خلال تخصصاتنا ومعارفنا، لكم نسرّ أن نضعها في خدمة بلدنا وموطن مولدنا ومنشئنا. صحيح أن الله تعالى لم يتعبدنا في أرض دون أرض، ومكان دون آخر، إلا أنّ بلد الإنسان وموطنه أحبّ إليه من كل الأرض، وخاصة الشام، وما أدراك ما الشام.

وكما يقول أستاذنا الفاضل عصام العطار معبّرا بلغته الشاعرية المؤثرة ما يلهج في قلوب الكثيرين (5):

يا شامُ يا شامُ يا أرضَ المحبينا        هان الوفاءُ وما هان الوفا فينا

نحيا على البعد أشواقاً مؤرقة        لا الوصلُ يدنو ولا الأيام تسلينا

قصّ الصخر!

ومما يسرني ويدخل الابتسامة إلى نفسي أحيانا، ومما أحاول تذكره وقت الشدة والأزمات، وخاصة عند صعوبات التعامل مع البشر حادثتان عن الأستاذ أبي سليم:

القصة الأولى، أن أبا سليم الذي كان يعمل في تربية الشباب، وتهذيب النفوس في دمشق وخارج دمشق، وبعد أن اضطرته الأحداث في سوريا للخروج والعيش في الأردن، أنه ربما شارك في الأردن بتسيير مصنع لقصّ الصخر، وربم يُسمونه "مقلع". فأذكر أنه قال يوما "هل تعلم يا مأمون، قصّ الصخر أسهل من تربية الإنسان وتهذيب النفس البشرية! ففي قصّ الصخر يمكنك أن تطلب سماكة الصخرة التي تريدها اثنين سنتمتر أو واحد ونصف، فنقصّها لك كما طلبت. أما تغيير النفس البشرية فشئ آخر".

وبعد سنوات قرأتُ في المثنوي لجلال الدين الرومي عبارة مشابهة للمعنى التي استفاده العم أبو سليم من تجارب حياته. حيث يقول الرومي

"فكسر الصنم أمر يسيرٌ بالغ اليسر، أما استسهال السيطرة على النفس فجهل وأيُّ جهل!" (المثنوي: جلال الدين الرومي، الجزء الأول، صفحة 146)  

والقصة الثانية رواها لي الصديق الصدوق المهندس المعماري المغربي العربي بوعياد، أن أبا سليم سأله مرة، وهو يعلم أنه مهندس معماري: "لو قمتَ وتعبتَ في تشييد بناء شامخ كبير، وبعد كل الجهد والتعب، جاء من عبث بقواعد البناء فأزاح لبنة أو لبنتين، فتهدم البناء، فماذا أنت فاعل؟"

وبعد شئ من التفكير، وكي يستفيد المهندس العربي من درس تجربة الأستاذ في الحياة فلا يفوّتها على نفسه، قال له "لا أدري. ماذا عليّ أن أفعل؟"

فقال أبو سليم بكل هدوء وثقة وتفاؤل وهو ينظر للأفق البعيد بعينين واثقتين ثاقبتين: "تبدأ بالبناء من جديد، ولكن تعمد لتقوية أساس البناء كي لا يعبث به أحد مجددا".

يا له من درس بليغ جدير بالتأمل والتدبرّ لكل من يريد العمل والبناء في هذه الحياة، على ما فيها من تحديات وعقبات يجب أن لا تغيب عن ذهن العاملين، وأنما جزء أساسيّ في المعادلة!

استراحة المجاهد العنيد عيد!

في يوم الخميس 7 محرم 1431 الموافق 24/12/2009 توفي الأستاذ محمد عيد البُغا أو الأخ أبو سليم في مستشفى في عمان، ودفن هناك، رحمه الله تعالى.

ما أحسب أن الأستاذ الراحل أبو سليم، ومن خلال متابعة ومعايشة سيرة حياته أنه رجل يتطلع للمجد والذكرى بين الناس وأمام التاريخ، فهو لم يطلب ذلك، بل نفر منه في حياته، فكيف يرضاه لنفسه بعد موته، وقد أفضى إلى خالقه. وما أحسبه إلا أنه مكتفٍ بما عند ربه الكريم، وبما في قلوب إخوانه من المحبة والتقدير والاحترام والدعوة الصادقة في ظهر الغيب.

وكما يقول الأستاذ عصام العطار، والذي كان على الدوام محط ثقة واحترام وتقدير ومحبة الأستاذ أبي سليم (6):

وما أبالي إذا التاريخ أنصَفني  أو جارَ في حُكمِهِ أو ضلّ أو كذبا

وما أبالي لسانَ الدهر توّجني  بالحمدِ أم أعملَ الأنيابَ والقضُبا

اللهُ قصدي وهذا الكونُ أجمَعُهُ  لم يَسْتثِر رَغباً في النفس ِ أو رَهَبا

حَسْبي طهارةُ قلبي في مقاصِدِهِ   والنهْجُ ما رَضيَ الرحمنُ أو طلبا

إن نِلتُ مرضاتهُ فالشمسُ دون يدي  فكيفَ أقبَلُ في آماليَ الشهُبا

رحم الله شيخنا ومربينا ومعلمنا أبا سليم، وعوّض عنه الأمة رجالاً أفذاذا كمثله، وصبّر أهله وأسرته وأبناؤه وأحبابه، وأصلح في ذريته ممن عرفت منهم من أبنائه في أوروبا الأخوين سليم وخالد الذين، وكما يقال عندنا في بلاد الشام "متعوب عليهم"!.

رجاء وأمل:

لم أعرف الكثير الكثير عن الراحل أبي سليم، ولو عرفت لكتبت المزيد، وكلي رجاء وأمل ممن يعرف عنه أكثر أن يكتب عنه وعن أمثاله، لنجدد في حياتنا نحن المسلمين أدب كتابة سير الرجال (والنساء) (7)، سواء كانت سير ذاتية أو غير ذاتية، لتكون هذه الكتابات دروسا وعبرا للأجيال الشابة، تتعلم منها دروس الكبار، ما أصابوا به وما أخطؤا، وما نجحوا فيه وما لم ينجحوا.