الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الباني

نموذج عن صحابة رسول الله

د. محمد الزحيلي

أستاذ الفقه الإسلامي والدراسات العليا

عضو وخبير مجامع الفقه الإسلامي

الحمد لله واهب العطاءات والمنح، والصلاة والسلام على رسول الله الأسوة القدوة للمسلمين، ورضي الله عن الآل والصحابة أجمعين، وبعد:

فإن المثَل يقول: رُبَّ صدفة خيرٌ من ميعاد، وقد التقيت في معرِض الشارقة للكتاب بتاريخ 9 / 11 / 2013م بالأخ الأستاذ أيمن أحمد ذوالغنى، ولم تسبق لي معرفةٌ به إلا ما يعرف من كتبي وما سمع به عنِّي، ولكنَّ العلم رحِم بين أهله، وأهداني كتابه الممتع المفيد "صفحات من سيرة العلامة المربي عبد الرحمن الباني" (1432هـ / 2011م) فسعدتُّ بذلك أشدَّ السعادة؛ لما أحمل عن الشيخ من احترام ومحبَّة وتقدير.

وأبديت إعجابي بالكتاب، فأطلعَني على الصفحة الأخيرة التي يطلبُ فيها من زملاء الشيخ وطلاَّبه وأحبابه كتابةَ الأثر الذي تركه في نفوسهم، وبعض المواقف معه، وطلب منِّي المشاركة، فسارعتُ لذكر جانب قليل جدًّا من الذكريات عن الشيخ رحمه الله تعالى.

إننا نعتقد أن صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم خيرُ جيل عرفه التاريخ، وأنهم تربَّوا على يدَيه، وتخرَّجوا من مدرسته، ونهلوا من معينه، واقتبسوا من نوره، ثم ناصروه وآزروه، وحملوا الدعوة معه، ثم تابعوا جهادَ الدعوة ونشرها في الخافقَين، فكانوا منارات للهُدى، وضياء للعالم، وقدوةً للناس، وأسوة في العمل والتطبيق لشرع الله ودينه وآدابه وأحكامه، وهم صفحةٌ بيضاء في جبين الدهر للسَّير على خُطاهم.

وإن معرفتي بالشيخ عبد الرحمن الباني وما سمعته عن سيرته العطرة حملني على الاعتقاد - منذ مدَّة طويلة - بأنه نموذجٌ عن هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، في سُمعته، وخَلقه وخُلقه، وسلوكه، وحياته، ومعاملاته، وحمله للدعوة، وشعوره بالمسؤولية الملقاة على عاتقه في التربية والتعليم والإدارة، والاستقامة، والجهاد الفكري، والصبر، والمعاناة، والشعور بالمكانة والموقع الذي اختاره الله تعالى له.

وإن صلتي بالشيخ كانت قليلة، وأذكر ثلاثة مواقفَ منها:

الأول: كنت سنة 1963م في السنة الثالثة من كلية الشريعة بدمشق، ورغبت في تدريس ساعات في التربية الإسلامية في المدارس الثانوية بدمشق، وكان الأستاذ الشيخ عبد الرحمن الباني المفتِّشَ الاختصاصيَّ للمادَّة، والمشرف عليها، وذهبت لمقابلته، فوافق، وأطلعني على موقع الثانوية والأجواء المحيطة بها، وعن طلابها، وتركيبتهم الفكرية والعقائدية، وعن مديرها، وأنه كذا وكذا وكذا. وقال: وعليك العمل.

وقمت بالتدريس فوجدتُّ الأوصاف كاملة، مما يدلُّ على إخلاص الشيخ، وحرصه على الدعوة، ومتابعته لأحوال المدارس التفصيلية، وصدقه في النصح، وحرصه على التوجيه والتعاون فيما يرضي الله تعالى.

الثاني: ذكرت محبَّتي وتقديري للشيخ أمام أحد أقاربي، وكان المفتِّشَ الاختصاصيَّ لمادَّة أخرى، وكان حزبيًّا، فروى لي قصَّته مع الشيخ، قال: قرَّرت وزارة التربية تعديل مناهج الدراسة في الوزارة، وشكَّلت لجنةً من المفتِّشين الاختصاصيِّين لجميع الموادِّ لمناقشة الموضوع، وحدَّدَت الوقت للاجتماع. قال: فهمَسنا في آذان سائر المفتِّشين الحزبيِّين أننا سنلتقي غدًا في الاجتماع، ونسخر ونستهزىء بالشيخ!

وفي اليوم التالي حضَرنا الاجتماع، فكان أولَ الحاضرين في الموعد المحدَّد الشيخ الباني، وبدأنا عرضَ الموادِّ مادَّة مادَّة، فكانت مداخلات الشيخ عميقة، وتوجيهاته سديدة، ولافتة للنظر، وكأنه أكثر خبرةً في كلِّ مادَّة من موادِّ التربية من المفتِّش الاختصاصيِّ بها، فانقلب الرأيُ عندنا، وفرضَ احترامه علينا، وصار الأستاذَ علينا جميعًا بعلمه وخبرته وإخلاصه.

الثالث: كان المفتِّشُ الاختصاصيُّ في وزارة التربية مسؤولًا عن المدرِّسين في اختصاصه، وعن المناهج، وعن الكتب، وكانت الكتب تُعهَد لبعض المدرِّسين للتأليف، فكان الشيخ الباني رحمه الله تعالى، يأخذ كتبَ التربية الإسلاميَّة في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية إلى بيته، ويقرؤها منفردًا، ثم يقرؤها مع أولاده، ويفتح النقاشَ معهم للتأكد من سلامة العبارات، وقربها للفهم، وإمكانيَّة الاستيعاب، وكشف نِقاط الغموض، والألفاظ الصعبة، وذلك كنموذج تطبيقيٍّ عمَّا سيجري في المدرسة، وما سيلاقيه الطلبة عند قراءة النصوص، فإن اطمأنَّ لكلِّ ذلك دفع الكتابَ إلى الطباعة والنشر والتوزيع.

هذه مواقفُ محدَّدة، ولكنَّ الألسن كانت تلهَج بذكره، والثناء عليه، وإطراء مواقفه، والمدح له. ولمَّا ترك الوزارة، وسافر إلى الرياض أقرَّ الجميع بالخسارة التي وقعَت، ولكنَّ همَّته العالية، وعلمه الدقيق، وحرصه على الدعوة والتبليغ عوَّضه خيرًا، فقدَّم للأمَّة الخِدْمات الجليلة، وترك البصَمات المؤثِّرة، ونهل منه الطلبة العلمَ والأدب والسلوك الطيِّب الحسن.

رحم الله الشيخ عبد الرحمن الباني، وأسكنه فسيح جنانه، وعوَّض المسلمين خيرًا، وبارك الله في أولاده وأحفاده، والحمد لله ربِّ العالمين.

الشيخ د. محمد الزحيلي ومعه أ. أيمن بن أحمد ذوالغنى

في معرِض الكتاب بالشارقة 2013م