محمد قطب... والطريق الطويل

حسن قاطرجي

(1)

خسر العالم الإسلامي (قبل أشهر) بوفاة الداعية الكبير الأستاذ محمد قطب رحمه الله قامةًً فكرية شامخة، وخبرة حركيّة زاخرة...

يتميز المفكِّر محمد قطب رحمات الله عليه بوعي سياسي عميق، وتتبُّعٍ مدهش للأحداث، وتألُّق في فهم الإسلام ودورِهِ العظيم في قيادة البشرية، وبنُبْلٍ أخلاقي يَغْمُر من يعاشِرُه بإعجابٍ شديد... مع ذكاءٍ حادّ، وثقافة غزيرة، وتواضعٍ مُدهش وهضمٍ للنفس يذكِّران بالسلف الصالح المتقدّمين رحمهم الله، كل ذلك لا يَعْسُرُ التعرف عليه من محادثته أو قراءة كتبه الكثيرة أو من الجلوس معه وملاحظة تصرُّفاته.

هذا العملاق هبةٌ من الله لأهل عصره، ثم هو نتاجُ عنايةِ أخيه (الشهيد سيد رحمه الله) به عناية خاصة كما سجَّل ذلك هو رحمه الله في إهداء مؤلَّفه المُمتع «سُخْرِيات صغيرة»، نتاج تكوينِهِ لنفسِهِ ثقافياً وأخلاقياً على مقياس النموذج الإسلامي الذي فهمه من القرآن الكريم والذي ربما نَدَرَ مَنْ تسمع يفسِّر آياته باستنتاجاته العميقة وروعة ربطها بالواقع مجبولةً بمشاعره وأحاسيسه كما تسمع منه رحمه الله، وأقدِّر أنّي لست مبالغاً إن شاء الله  في أيّ كلمةٍ من هذا الكلام...

ما تقدَّمَ انطباعٌ سريع في أسطر عن هذا الداعية الكبير رحمه الله، وستكون لي وقفة مطوّلة بإذنه سبحانه للحديث عنه في مقالة قادمة...

أما عن الطريق الطويل فقد أخبرني أكثر من مرّة في سياق تعليقه على مُجْرَيات الأحداث في العالم الإسلامي وتقويم مسار الحركة الإسلامية وتجاربها ودروسها - التي كان يستفيض في الحديث عنها -أنه كتب كتاباً أسماه (الطريق الطويل) في أواخر عمره – توفي رحمه الله عن 98 عاماً - أَوْدَعَ فيه خلاصة تأمُّلاته وفَهْمه لطبيعة الطريق الحركي من القرآن والسيرة ومن رَصْده لأسباب طُول هذا الطريق التي يجب على الدعاة أن يتهيّأوا لها... ويمكن اختصار عناوين هذه الأسباب بما يلي:

1. قُوّة مدلول (لا إله إلا الله) عندما تُفهم على حقيقتها وأهدافها الحضارية، وطبيعة هذا الدين في الإصرار على التغيير الجذري والشامل.

2. ضخامة وحِدّة إصرار أعداء الإسلام على محاربته ومحاربة حَمَلته الصادقين...

3. متطلَّبات إصلاح التواءات النّفس البشريّة ومقتضيات (التربية) وما تتطلّبانِهِ من جهد ووقت...

4. (سُنّة الله) في تغيير المجتمعات وما يتطلّبه التغيير من الجُهد وعامل الزمن...

5. (فقه الابتلاء) -ومن صميمه: المشقة والصعاب وطول الطريق -لحكمة الارتقاء بالأنفس والتأهيل القيادي وتصفية الصفوف...

لقد عاش الأستاذ محمد رحمات الله عليه حياة طويلة – بالنسبة لأعمار أقرانه – حافلة بالابتلاءات والعطاءات: أرادها الله أن تكون نموذجاً متألِّقاً من نماذج الثبات على العهد والصبر واحتساب الأجر، وقدوةً للأجيال في العطاء للإسلام وتسخير الطاقة كلِّها لله ربّ العالمين... في العُسر واليُسر، في الرخاء أو حياة السجن والبلاء، في قوة الشباب وبعد ذُبُول العمر.

فهل نقدِّر (عظماءنا)، ونستفيد من تجاربهم، وتدرك المرأة المسلمة عظمة مهمتها في بناء الإنسان، ونُعِدّ أنفسنا لطريقٍ طويل دلُّوا عليه وسلكوه للظَّفَر في نهايته برضوانٍ من الله وريادةٍ حضارية لدينه تُنقذ العالَم كلَّه من الدمار وعذاب الإنسان؟

فَرَادة الداعية المفكّر محمد قطب... (2)

تتّسع مساحة البركة والثراء الفكري والغنى المعنوي في حياة المرء عندما يتعرّف على عظماء!

وأحسب أنه سبحانه تعالى أكرمني بصحبة ثلّة من هؤلاء، وفي مقدمتهم الشيخ عليّ الطنطاوي، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الرحمن الباني، ووالد زوجتي أم علاء – رحمها الله -: الشيخ أحمد رأفت زاده، والداعية الكبير محمد قطب... في آخرين كُثُر من أهل العلم والفكر والحكمة، والدعوة والقُدوة ... رحمهم الله جميعاً، وحقيقةً يَصْدُق فيهم بحسب معرفتي وعِشْرتي لهم قولُ الشاعر:

إذا سكتوا رأيتَ لهم جمالاً                     وإنْ نطقوا سمعتَ لهم عقولا

وإذا كان لكلٍّ منهم نكهةٌ، ومذاق روحي أو خُلُقي أو علمي أو فكري أو دعوي... إلا أنهم ينظِمُهُم جميعَهم "سِلْك" العظماء... والأستاذ محمد يتميَّز بفرادة هي: فَهْمُه الحركي للإسلام مع وعي عميق للواقع وثقافة غزيرة وذكاء فائق... وفرادتُه هذه: "نموذج" تشتدّ الحاجة إليه اليوم لتحقيق نجاحات جديدة نوعية على أيدي حَمَلةٍ صادقين، بَرَرةٍ جادّين، رحمه الله.

لقد تميّز رحمه الله بمؤهِّلات فائقة وهبها له الله عزّ وجلّ: على رأسها: الذكاء العالي والقدرات الفكرية والإنسانية والأدبية المتميّزة، والاعتزاز الشامخ بالإسلام وفهم دقيق لنبعَيْه الصافيَيْن ـ كتاب الله وسنّة نبيّه ـ منزِّلاً له ببراعة رائعة على واقعنا مبيّناً اعوجاجه وتِيْهَه، مع البيان الأدبي الواضح والسهل والمؤثّر ... بالإضافة إلى مؤهِّلات مكتسبة بالمجاهدة والدأب أرى أنَّ اللهنأ وفقه إليها، وأميَزُها: فهمُه العميق لدورِ الإسلام في قيادة البشرية وفي الريادة الحضارية ـ وعصارة هذا الفهم أودعها في كتبه الرائعة: ((كيف ندعو الناس))، و((مكانة التربية في العمل الإسلامي))، و((هَلُمّ نخرج من ظلمات التّيه))، و((من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر)) و((هذا هو الإسلام)) ـ ثم وضوحُ طريق الدعوة عنده ـ تماماً تماماً ـ مع استعداد كامل لمستلزمات سلوكها مهما كانت التضحيات طالما أن ثمرتها رضا الله سبحانه وتعالى ونهايتَها الجنة، وإلمامُه الدقيق بالواقع العالمي وموازين القُوى الدَّوْلية وتفاصيل المؤامرات ضد الإسلام، واستعلاؤه الشامخ بحُجج باهرة وعزّة شامخة على الواقع الجاهلي وطغاتِه بجرأة وحزم وعُمق مع اتساع معرفة وخبرة عميقة وثقافة متنوعة غزيرة... ومثال على كتبه الشاهدة على هذا التميّز الثقافي والعمق التحليلي: ((مذاهب فكرية معاصرة))، و((واقعنا المعاصر)) ـ ((المستشرقون والإسلام)) ـ ((العلمانيون والإسلام)) ـ ((صفحات من تاريخنا المعاصر)) ـ ((دروس من قصة فرعون في القرآن الكريم)) (والكتابان الأخيران لم يُطبعا وقد أعارنيهما رحمه الله مخطوطَيْن)...

ومع كل ما حباه الله به من صفات وَهْبية أو كسبية أرى أن جمال هذا النموذج وفَرَادته يكمن في ((ناطحة سحاب قِمّته الأخلاقية))... إنْ في دماثة خُلُقه أو طِيب معشره أو في تواضعه المُدهش الأخّاذ سواءً في التعامل والأدب أو حتى في الأفكار والآراء! وأذكر أنني استجمعتُ قوتي ـ ذات مرّة ـ لإقناعه بأنني معترض على ما يتكرّر في كتبه من إطلاق لفظ (التصوف) في سياق بيانه أنه أحد أهم أسباب انحراف الأمة ومنابع ضَعْفها! ومع أنني أشاركه في هذا الحِنْق ولكن على ((التصوّف المنحرف الخُرَافي المخدِّر)) لا على ((التصوف)) المبارك ـ الذي هو لبّ التزكية في إطار الهَدْي النبوي! ـ فاقترحت عليه رحمه الله أن يُقيّده بلفظ (المنحرف) فما رأيتُ أسهل من قَبوله لهذا الاقتراح!!!

جمالَ ذي الأرضِ كانوا في الحياة وهُمْ                       بعد المماتِ جمالُ الكُتْب والسِّيَرِ