شمس لا تغيب .. شكري فيصل

شمس لا تغيب ..

شكري فيصل

ملك الحافظ

دخل إلى قاعة المحاضرات في مدرج اللغة العربية في جامعة دمشق، كهل، أشيب، رَبْعَة، له عينان وقَّادتان، ونظرات نفاذة تنمُّ عن ذكاء شديد!

قبل أن يدخل ببضع دقائق مال أحد الطلاب على زميله قائلاً: سيدخل الآن الدكتور شكري فيصل[1]، وهو واحد من أقطاب اللغة العربية في الوطن العربي.

كان ذلك عام 1972م، وكنا في السنة الثانية، هذا التعليق أثار اهتمامي؛ فأنا أحترم المتفوقين والمبدعين في شتى مجالات الحياة؛ لذلك شنفت أذنيَّ، وأرهفت سمعي، وفتحت عينيَّ لأتملى من رؤية هذا العملاق الذي سيغزو عالمنا!

تسلم تدريس الأدب الإسلامي، فبدأ بشعر الفتوحات وشاعرها حسان بن ثابت، ثم انتقل إلى الغزل في عصر بني أمية، وقسمه إلى ثلاثة أقسام: الغزل التقليدي، والغزل العذري، والغزل العُمري.

ولعل شفافية الدكتور شكري، وروحانيته، وملكاته الأدبية: قد صبت في تيار الغزل العذري الطاهر النقي العفيف، يقول في كتابه: "تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام": "إن النفوس البشرية سواءٌ في تعرضها للحب، ولكن بعض الحب عاطفة مؤقتة لا تلبث أن تخمد وتبرد وتزول، كما يزول لهب القش بعد اتقاد وضياء وسطوع، وبعض الحب عاطفة خالدة لا ينال منها إعراضٌ أو ملل أو قسوة؛ وإنما تظل دائمًا متوهجة، لها في كل حيز من عالم المحب الداخلي جرس لا ينقطع، وحنين لا يهدأ"[2].

وتحدث عن نشأة الغزل العذري، فقال: "صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربى جيلًا من الصحابة، ولكن هذا الجيل كان مشغولًا عن نفسه بواجبه، وعن صوت قلبه بقرآنه، وعن مجاهدة المحبين بمجاهدة المشركين، وعن مكابدة الأشواق بمكابدة الأشواك، وعن الاستقرار في الأرض بالضرب في الأرض، أما في العصر الأموي، فقد آن لهذه النبتة - لهذا الغزل العذري - أن تتفتح وأن تزدهر، وأن تتشقق أزهارها عن الثمرات الطيبة في تاريخ الأدب العربي"[3].

وفي معرض حديثه عن عمر بن أبي ربيعة، الذي يمثل تيار الغزل الماجن، يقول: "لعل أبلغ ما نمهِّد به في التعرف إلى عمر: هذه الرواية التي تقول: إن عمر بن أبي ربيعة ولد يوم مات عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإن الناس كانوا يقولون بعد: أيُّ حق رُفِع، وأي باطل وُضِع؟!"[4].

ويقول في مكان آخر: "عمر بن الخطاب قضى حياته على سرير الحرب، وعمر بن أبي ربيعة قضى حياته على سرير الحب".

ويتابع: "ومع موت الفاروق غابت الشخصية التي كانت تكبت أهواءها لترعى حدود الله، وتحبس أنفاسها على الائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه، وترى أن البعد عن الشبهة خير من الاقتراب منها، وفي ولادة ابن أبي ربيعة ولادة الشخصية التي كانت تدَع الأهواء منطلقة، وقد تقترب من الشبهات أو تنغمر فيها، لا يعنيها من ذلك شيء في سن الشباب الأول إلا الاستجابة لهذه الأهواء والاستباق إليها"[5].

وفي معرض حديثه عن القرآن الكريم، قال في إحدى المحاضرات: "سنختار سورة من سور الحواميم" (أي: التي تبدأ بـ "حم")، ثم توقف فجأة كأنما تذكر شيئًا، وسرعان ما استدرك قائلاً بتأسف شديد: أستميح القرآن عذرًا أن أقول: أختار؛ وإنما سيكون موضوع دراستنا سورة تبدأ بـ(حم).

هذا الإحساس المرهف، والشعور الديني العميق لا يؤتاه إلا من رضي الله عنه، وفتح مغاليق نفسه لتعُبَّ من أنوار الله!

وفي معرض حديثه عن قوله تعالى: ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [البقرة: 83]، قال: "الأبناء يسيرون نحو النماء، والآباء يسيرون نحو الفناء"، انظر إلى هذه المفارقة العجيبة!

وحين يحدثنا عن الشاعر المطبوع يقول: "ليس الطبع نباتًا بريًّا ينمو كيفما اتفق، ولكنه جهد كبير، وعمل دؤوب...".

وحين يتحدث عن التجديد في الشعر يقول: "ليس التجديد أن نقفز فوق القديم، لكن التجديد أن نقتل القديم فهمًا..."، ويقول في مقالة له عنوانها: لماذا؟ بعد زيارته للهند: لماذا تلتقي هناك جبال (هيمالايا) وشواطئ مدراس، ولا يكاد يلتقي هنا الجزء من الشاطئ والجزء الذي يليه؟ لماذا يوحد النهر هناك ويغرق هنا؟ لماذا تكون الأحجار في الهند عقودًا وأسورة، وتكون الحجارة هنا رجمًا للأبرياء، وانتقامًا من الأنقياء؟ لماذا تحمل الرياح هناك المطر، ويحمل المطر النبت والكلأ والشجر، ثم لا تكون الرياح في وطننا الكبير إلا رياح العداوة والبغضاء؟

حملنا - نحن طلابَه - مبادئه، وأفكاره، وإخلاصه، وطريقة تدريسه، وبثثناها في نفوس طلابنا، فأنبتت ثمرات يانعة، مردُّها إلى ذاك الجذع الصلب الذي صان الأمانة، وخدم لغة أمته وأدب قومه، وحمى تراثهم، وكان وفيًّا لأساتذته وطلابه، ولكل من ساهم معه في تحقيق كتاب، أو بذل له مساعدة مهما صغرت.

مات الدكتور شكري فيصل تحت عملية جراحية في جنيف، ودفن في المدينة المنورة مثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن لن يموت إنسان أعطى هذا العطاء، وامتدت قامته طويلة عملاقة لتظلل أجيالًا مضت وأجيالًا سوف تأتي، وهي تحمل طابعه المتميز - رحمه الله، وأجزل له الثواب.

               

[1] الدكتور شكري فيصل أستاذ الأدب العربي في جامعة دمشق، له عدة مؤلفات، منها: مناهج الدراسة الأدبية، تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام، المجتمعات الإسلامية في القرن الأول الهجري وتطورها اللغوي والأدبي، وغير ذلك من التحقيقات، مات منذ سنوات قليلة.

[2] تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام، صفحة (287).

[3] المصدر نفسه، صفحة (284).

[4] المصدر نفسه، صفحة (339).

[5] المصدر السابق (341).