وقفات من حياة الوالد – رحمه الله –

نور من الذكرى 

سيرة وقول وعمل ( 1910- 2005) 

أسير وراء قلبي بين شموع مضيئة ، أضاءها لنا الوالد في طريق الحياة ليهتدي أولاده إلى رضاء الله ، وكل إنسان يرجو ربه أن ينير بصره وبصيرته في فضاء الحياة ، حتى يلتزم بشرع الله وبمحبة رسول الله .

أتمنى من كل محب لشيوخه ولعلماء دينه ، أن يكتب عنهم ماعلق بقلبه وعقله من كلماتهم وسلوكهم ، حتى تعم الفائدة ، ويتذكر الناس والأجيال ، تلك العمائم البيض التي قدحت صخور القلوب في ليل غابت فيه النجوم ، ووئد فيه القمر .

حمل المشايخ ( علماء الدين ) كتبهم على صدورهم ، وجلسوا في محاريب المساجد ، يعلمون إخوتهم شرع الله الذي ارتضاه لعباده ، أغلبهم رضي بالعيش الكفاف الذي يكاد أن يسد حاجتهم . لكنهم كانوا سعداء وأغنياء لارتباط قلوبهم بحبل الله .

شيع أهل حلب الشيخ محمد عطاء الله الجذبة خطيب الجامع الأموي الكبير سنة 1924 ، كان حديث الناس عن موقف الشيخ ضد المستعمر الفرنسي على منبرالجامع الكبير ، وعن تهديد القائد العسكري الفرنسي للشيخ على إثارة الناس ضد فرنسا ، مما سبب له مرضا" وكانت النتيجة أن تغمده الله برحمته .

خلف الجنازة كان يسير ثلاثة أبناء للشيخ ( محمد زين العابدين ، حسين ، جمال الدين ) ، أكبرهم والدي وكان عمره ثلاث عشرة سنة .

أجلست الأم الحزينة أولادها الصغار الثلاثة أمامها ، وسألت ربها العون ، فزوجها لم يترك لها شيئا" بسيطا" من متاع الحياة ، ولكنه ترك لها ولأولادها عمامة بيضاء فسيحة من التقوى والعمل الصالح .رضيت الأم بقضاء الله ، واستراحت خيوط وجهها عندما رددت قول الله ( وكان أبوهما صالحا" )

أصوات من أرحام الأسرة كانت ترشد الابن الكبير إلى طريق الآباء والأجداد .

انتسب الوالد إلى المدرسة الخسروية، وكانت أزهر بلاد الشام ، يقوم بالتدريس فيها علماء ربانيون ، صفت نفوسهم ، وسمت عقولهم ، و سطعت قلوبهم حبا" لله ، باركت الأم رغبة ابنها ، خلال السنوات الست من دراسته ، آثر الوالد – رحمه الله – أن ينام في المدارس الشرعية ( القرناصية – الاسماعيلية – الخسروية )حتى يتفرغ للعلم الشرعي ، ويكون قريبا" من العلماء ، جمع بين مناهج المدرسة الخسروية  وبين دروس العلماء ، طالب العلم الشرعي في القديم ، تتصدع ركبه من طول جلوسه في حلقات العلم أمام شيوخه ، طالب العلم الشرعي في القديم ، يجلس أمام شيخه يحمل الكتاب الذي يقرأ فيه الشيخ ويسجل على حواشي الكتاب شرح الشيخ لكل عبارة في الكتاب ، فالطالب يأخذ العلم مشافهة بالتلقي ، وأيضا" من حال الشيخ ، أخذ الوالد إجازات من شيوخه في الكتب التي قرأها أمامهم . كان الوالد سعيدا" في مسلكه ، يريد أن يجمع في قلبه العلوم التي تقربه إلى الله وتجعله معلما" ومرشدا" لإخوته المسلمين .

ابتعد في حياته عن ضجيج الدنيا ومباهجها الفانية ، سعادته في حمل كتابه والتنقل من مسجد لآخر ، يجلس في بيته بعد أداء واجباته ذاكرا" ربه وإخوته المسلمين بالسعادة ، أنوار السرور تغمر البيت . الزوجة والأبناء يستظلون بعرائش السعادة .

الوالد لم يبتعد عن العمل الوطني عندما كان المستعمر الفرنسي يحتل بلده ، وكانت له زيارات لزعيم الكتلة الوطنية ( أبونا حسن بيك – حسن فؤاد ابراهيم باشا )فعالم الدين يحب أن يكون له دور وطني  ،فهو على صلة مباشرة بأحاسيس ومشاعر وآمال وآلام الناس ، وهو مستودع قلوبهم .

وكان الوالد يحدثنا كثيرا" عن أحد الزعماء المناضلين ضد فرنسا ( الحاج فاتح مرعشي ) وكان يلتقي في زاوية النسيمي معه تحت القلعة بجوار مبنى البلدية القديم ، وكان المشرف على الزاوية الشيخ محمد غازي النسيمي ، وكان يجتمع في الزاوية كبار الوطنين والمجاهدين ضد فرنسا .

مسيرة الوالد في حلقات العلم ، امتدت سنوات مليئة بالنماء بفضل الله ، لم يعرف الراحة ، عمل متواصل يجد فيه هناءه وسعادته ، وقف خطيبا" يوم الجمعة أكثر من خمسين سنة ، درَّس في الشعبانية ( معهد العلوم الشرعية ) أكثر من خمسين سنة ، درس في الثانوية الشرعية أربعا" وعشرين سنة ، درس في جامع أبي يحيى الكواكبي في الجلوم سبعا" وأربعين سنة ، مساجد وجوامع كثيرة جلس في محاريبها معلما" ومدرسا" سنوات وسنوات .

الوالد في مسيرة حياته العلمية لم يهاجر إلى دولة عربية ، ولم يعتكف في بيته ، مضى إلى غايته معتمدا" على ربه ، العلم الذي أخذه عن شيوخه ، عاهد به ربه أن ينقل هذه الأمانة إلى المسلمين دون كلل أو ملل ، كنت مع إخوتي نشفق عليه وقد بلغ من الكبر عتيا" ونطلب منه أن يجلس في البيت ، لكنه كان يأبى ذلك ويبين لأولاده  أن الله أكرمه بالصحة والعقل فعليه أن يستمر في عمله ، ويوضح لأولاده  مضمون الأمانة التي يحملها وهي ربط قلوب طلاب العلم في هذا العصر بقلوب مشايخه وأساتذته ، حتى يبقى العلم متألقا" زاهرا".

كان في دروسه الفقهية يدرس المذهب الحنفي ، وكان يستطرد إلى المذهب الشافعي ليبين للمستمع إبداع هذا الدين ،هذا الدين مدرسة للحرية الفكرية، أصحاب المذاهب يأخذون من رسول الله ، وكل صاحب مذهب لديه دليل على صحة رأيه ،حرية الاستنباط من أقوال وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أعطت الحيوية والديمومة لهذا الدين ، فالمسلم ليس إمعة ، أحاط بالإسلام بعقله وقلبه ، وغردت نفسه سعادة بحرية الرأي واتباع المذهب الذي يرضيه .

هذه كلمات في مسيرة حياة الوالد ، اتمنى أن ينهض طلابه ومحبوه في إضاءة بعض الشموع مما لمسوه من الوالد حتى يستفيد طلاب العلم في هذا الزمن من الأمانة التي حملها العلماء في الزمن الماضي ، وحتى تبقى شعلة العلم الشرعي مضيئة في كل زمن .

                   ولده : محمد عطا .

وسوم: العدد 660