الشهيد زكريا الحلو

ولد الفقيد في بلدة اعزاز على بعد 45كم شمال حلب –لابوين صالحين فقيرين وتعلم في مدارسها إلى أن نال الثانوية العامة, فانتقل إلى حلب ليكمل دراسته الجامعية في كلية الهندسة التي تخرج فيها بتفوق كما كان متفوقاً في المرحلة الابتدائية والاعدادية والثانوية، وكان زكريا أمل والديه ويعين والده العجوز في عمله فكان ينتقل معه من بيت إلى بيت يحمل معه ما يستطيع حمله كي يخفف عن ابيه العجوز شيئاً من أعباء الحياة وما كان أقساها على والده الحاج صفر الحلو، وإني لأذكر وهو يحمل تنكة البرغل ليضعها في الطاحونة وهو فرح مرح لأنه طالب في الثانوي أي إنه شاب يساعد والده.. ولم ينقطع عن مساعدة والده في عمله المضني حتى وهو طالب في الجامعة وكان يفاخر بذلك ويفخر وما كان كسائر الطلاب الذين يأنفون من مساعدة آبائهم في أعمالهم وخاصة ما كان كعمل الحاج صفر الحلو.. يعمل مع والده ليوفر شيئاً من المال يعينه في دراسته الجامعية وكم كان إيجار البيت يشكل هماً كبيراً من همومه.

أما المأكل فكان يكتفي بالقليل النادي منه، وكان يروي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن بيت النبوة كانت تمر به الليالي ذوات العدد بل مرت به ثلاثة أهلَّة ولم يوقد فيه نار. كان طعام بيت النبوة الماء والتمر أما طعام زكريا فكان الماء المحلى بالسكر والخبز تمضي به الأيام والليالي ولا يجد لنفسه طعاماً أو شراباً غير هذا يتناوله في رضى لا يعرف معنى الشكوى من فقر اوعوز ولا يعرف هذا عنه الا الله ومن عايشه عن قرب ووثق به من إخوانه.. كان همه أن ينهي دراسته ليقدم لاهله وإخوانه ودعوته ما يجب عليه تجاههم جميعاً..

وينهي زكريا دراسته الجامعية ويزداد بإنهائها نشاطه على عكس كثير من الشباب الذين يتقاعسون ويخلدون إلى الأرض عندما يجب أن يبدأ عطاؤهم بإنهائهم دراستهم وتخرجهم في جامعاتهم..

ويلح على زكريا ابواه ان يتزوج فيتزوج وتُقرُّ عيون ابويه بحفيدة سكرة كما كانا يقولان عنها ويصفانها وهما يلاعبانها عوضاً عن الوالد الذي شغلته أمور دعوته وجماعته عن طفلته عن دنياه كلها.

زكريا.. أيها النجم الذي تألق في سماء إعزاز، لكنه لم يلبث أن انطفأ.

أيتها الشجرة الباسقة في بساتين اعزاز التي وصفها شاعرها الكلزي بحق عندما قال:

إعزاز يا جنة الشمال         يا موطن الحب والجمال

زكريا ياشجرة الزيتون أيتها القطرة الندية التي سقت أرضاً عطشى طالما اشتاقت إلى الري حتى جئت فرويتها بدمائك الزكية.

لقد ولدت في أحضان الفقر ورعيت الفاقة ولكنك رضعت معنى الكرامة معنى أن يكون الفقير كريم النفس عزيز الجانب، وأنت ترى أباك في أسماله يحمل طاحونة البرغل على عاتقة ينتقل بها من حارة إلى حارة ومن بيت إلى بيت وأنفة المؤمن تفرض احترامه على كل من يلقاه يدأب ليله ونهاره ليغذو فراخه بالحلال طعاماً طيباً وشراباً ليس أطيب منه إلا ذلك اللباس البسيط الذي ابتاعه بالمال الحلال بعرق الجبين بالكسب الطاهر النقي.

ويفرح أبواك- أيها العزيز الغالي- بتفوقك على أقرانك في المدرسة ويغبطه الأصدقاء ويحسده الحاسدون على هذه الزهرة التي غدت ثمرة يانعة في وقت قصير..

ويصبح الفقير المسلم الملتزم ابن الفقير المسلم المحتسب مهندساً ملء السمع والبصر ويتحدث أبناء اعزاز اليقظى أبداً اعزاز التي لا تنام يتحدثون عن هذا المهندس الذي درس في حلب وعاش فيها حياة بسيطة قلما يصبر عليها سائر الطلاب حتى من إخوانه الذين أحبوا فيه أريحيته وذكاءه وألمعيته بقدر ما أحبوا دينه وتقاه وعشقوا دماثته وحياءه فلما عرفوه عن قرب عرفوا فيه الشاب المؤمن الصابر المحتسب..

وتنضي الايام وتشب نيران الثورة الإسلامية لتحرق أسداً وقبيله ويسارع الناس إلى الانحراط في صفوف المجاهدين زلكن قلة قليلة منهم كانت تعرف المهندس زكريا مجاهداً من طراز رفيع يتصل بالشباب ويكلمهم بصوت هادىء عميق لا جعجعة ولاادعاء ولا صراخ ويمضي المجاهد في حلب الثائرة أكثر أيامه ثم يعود إلى بيته المتواضع في اعزاز يتسلل إليه في ابتسامة ودود ولا يأوي إلى فراشه إلا بعد أن يسمع دعوات والديه الراضية وينظر إلى ابنته وهي نائمة فتناجيها روحه وتستجيب عيناه لنداء الأبوة فيعتذر إليها وإلى امها وإلى والديه في ابتهال خاشع.

(والله ما خرجت في سبيل الله إلا من أجلكم من أجل هذا الدين الذي جاء القرامطة الجدد ليمتهنوه ويبعدوه عن الحياة من أجل مستقبلكم ومستقبل هذا الشعب المقهور من أجل تخليص البلاد من هؤلاء الحكام اللئام الذين يريدون بها وبكم وبدينكم وبسائر حرماتكم وقيمكم شراً.

سامحيني يا ابنتي سامحيني يازوجتي سامحيني يا أماه سامحني ياأبتاه فقد نويت الشهادة في سبيل الله وأرجو أن اكون شفيعكم يوم القيامة.)

ويشاء الله أن يعتقل أحد الإخوة المجاهدين ويعذب عذاباً شديداً يعترف تحت وطأته على الأخ زكريا الذي كان مستوراً حتى عن عيون أقرب الناس إليه وتعتقله عناصر المخابرات العسكرية- وكان زكريا يؤدي خدمة العلم- فقد كمنت له على طريق اعزاز- عفرين فيما هو عائد مع أسرته الصغيرة من عفرين إلى اعزاز، ويبدي زكريا استغرابه لهذا الاعتقال ويطلب منهم أن يسمحوا له بأيصال أسرته إلى بيتهم في اعزاز ولكن الزبانية يرفضون طلبه ويأمرون أفراد الأسرة بالنزول من السيارة والوقوف على قارعة الطريق في انتظار سيارة عابرة تحملهم إلى بلدتهم وبيتهم...أنزلوا أمه وزوجته وطفلته واعتقلوا أباه العجوز ووضعوه في إحدى سياراتهم فيما صعد أربعة منهم إلى سيارته التي كان يقودها زكريا، ويعرف زكريا منهم أن أخاً مجاهداً قد اعتقل وقد اعترف عليه تحت ضربات الساطور الذي قطع بعض أنامل قدميه وتحت آلام قضيب الخزيران الذي كان يضعه في فمه أحد الضباط الطائفيين بحلب النقيب حسن خلوف..

قال زكريا: رب نجني ونَجِّ إخواني من القوم الظالمين.. وفيما هو يفكر في كيفية الخلاص من هؤلاء المجرمين لاحت له شاحنة كبيرة على البعد قادمة من حلب فهتفت أشواقه: نويت الشهادة في سبيل الله لإنقاذ إخوتي وجماعتي.. وضغط على البنزين حتى النهاية وكبر ثلاثاً والتحم بسيارته مع الشاحنة المسرعة المواجهة له فاستشهد رحمه الله، وقتل ثلاثة عناصر ممن كانوا معه في السيارة وجرح الرابع جروحاً خطيرة نقل على إثرها إلى المستشفى العسكري بحلب ليفضي بما قدمناه من معلومات اعتقاله واستشهاده، قيل أن تتخلص روحه الدنسة من الجسم النجس لتهبط الجحيم.

وأكبَّ الوالد على جثمان ولده زكريا وتحمل أقسى أنواع الضرب من الزبانية الآخرين الذين أبعدوه بوحشية عن ولده الذي صعدت روحه الطاهرة إلى عليين في ملحمة بطولية نادرة.

وافتقده إخوانه في حلب وإذا هم يسمعون قصة المهندس الأعزازي زكريا الحلو على ألسنة الناس في حلب وما حولها يتحدثون في إعجاب عن شجاعة هذا المجاهد البطل الذي استوفى ثأره ممن اعتقله بيده، وكان في استشهاده البطولي هذا قد أنقذ من يعرف من إخوانه المجاهدين المنبثين في حلب أولئك الذين كانوا ينتظرون أوبته ليتلقوا منه تعليمات الغد. وملاحظات اليوم والأمس..

استشهد زكريا وقد خلف وراءه أباً شيخاً عجوزاً لم يلبث أن قضى نحبه حزناً على زكريا وأماً صابرة وزوجة عفيفة محتسبة وطفلة في عمر الزهور.

وقد شيَّعه أبناء بلده بموكب مهيب إلى مثواه الأخير في اعزاز

زكريا.. أيها الشهيد الذي ابتسم للمنية وعانق الموت في رجولة الرجال..

ما نسينا أنتَ قد علمتنا           بسمةَ المؤمن في وجه الردى

والسلام عليك في الخالدين.

وسوم: العدد 710