أسرة الشهيد نصر كيلاني

هكذا شاء الله لحماة، أن يكون تاريخها مليئاً بالملاحم الخالدة، مسطراً بمداد من دماء الشهداء منذ الحروب الصليبية التي ارتد خلفها الغزاة وحتى يومنا هذا، وما زالت تجاهد في كل عصر من كل جيل، وهي تقدم قوافل الشهداء زرافات ووحداناً وأسراً بأكملها، هكذا أراد الله لحماة أن تكون حامية الإسلام تدافع عنه وتذود عنه بأبنائها وبناتها وشاء الله لها أن تتنضر برياحينها، وتتأنق بورودها، وتختال بأبهة الشهادة، وأن تتضمخ أعطافها بدماء المجاهدين من فلذات أكبادها، وقد هرعوا إلى الساح كوكبة تلو كوكبة ورعيلاً إثر رعيل، نهضوا لمقارعة الطغاة والمفسدين من الطائفيين الحاقدين، وقد عاثوا في بلاد الشام تمزيقاً بالإسلام والمسلمين وكما قدمنا في الجزء الأول من مواكبنا منارات الدرب نماذج من الأسر الشهيدة نقدم هنا استشهاد أسرة كاملة على أيدي الغزاة الجدد أو عائلة من آل الكيلاني بحماة وهي تأتي بين الأسر الحموية كواسطة العقد، وقد امتدت الأيدي الآثمة لتنال منها فلم تكن إصابة هذه العائلة هينة ولا سهلة شأن مئات الأسر في حماة بل كان النزال الدامي، والدفاع عن الشرف والعرض والوطن والدين، وكان الانتصار المشرف على الذات والدفاع عن الحَصَان المسلمة، وقد راحت تنادي: وا إسلاماه، ومن حولها كل أنواع الأسلحة التي تقصفها من كل مكان، على أيدي الزبانية من علوج أسد.

وهكذا راحت طاحون المآسي تدور برحاها، منقّلة المآسي والخراب والدمار، من حي إلى آخر، حتى كانت ماساة الكيلانية، وهي حي أشبه ما يكون بقلعة حصينة، فصمدت أياماً طويلة أمام هجوم الغزاة وحوش القرن العشرين غير أن أولئك المجرمين أمطروا عليها وابلاً من قذائف الدبابات وراجمات الصواريخ والمدفعية، تدك البيوت، وتقتل العشرات، ولكن فتية الإيمان لم يتعودوا أن يتلقوا الرصاص إلا في صدورهم بل ضربوا أروع آيات الاستبسال والبطولة والإيثار والتضحية والمعاناة، فهرعوا إلى رد العدوان وتلقين الطائفيين درساً لن ينسوه أبداً..

هرع الشيخ المجاهد أديب الكيلاني يدافع ويذود عن الحي وعن الحرمات، ويأخذ البيعة على الشباب فيعاهدونه على الموت في كل هجمة من هجمات السرايا الباغية والوحدات الخاصة وهم يرددون، الله أكبر، الله أكبر، غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه، لقد هرع الكثير من أبناء الكيلاني للدفاع عن الدين والوطن والعرض والكرامة، ولطالما تاق شباب الإسلام إلى مثل هذا اللقاء مع الكفرة أعداء الله، فهرع الشيخ عبد الجليل الكيلاني نقيب أشراف حماة وفي العقد الخامس من عمره، هرع مع ثلة مؤمنة من أبناء الحي لرد عدوان العلوج الأسدية على مدينتهم حماة وعلى حيهم "الكيلانية".

ومن بين أولئك المجاهدين الأبطال من آل الكيلاني كان الشهيد المهندس نصر إسماعيل الكيلاني، وأخوه الشهيد المهندس سعدي إسماعيل الكيلاني، وكانت أمهما الكريمة ضحية رصاصات حاقدة من مرتزق مأفون حاقد.

ولد الشهيدان الشقيقان سعدي ونصر في حماة عام 1955 – 1953م على التوالي في حي الكيلانية، وتربيا مع إخوتهما وأبيهما المزارع المثقف، وعاشا مع الوالدة البارة، والوالد البار حياة ملؤها الحب والسعادة، لا سيما وأن العائلة تتفيأ ظلالاً كريمة من التقى والورع وترفل في بحبوحة من العيش، وتأنس بروح الإسلام العظيم.

لقد سبق نصر كثيراً من إخوانه المجاهدين إلى الجهاد فكان صاحباً للقائد الشهيد عبد الستار الزعيم وعمر جواد، حيث كانت فلسطين منتجعهما الوحيد فهرعا إليها في عام 1969م، يودان اللحاق بمهدي الإدلبي وغيره من المجاهدين الصادقين، ولما عاد نصر من رحلته الجهادية إلى فلسطين التقى بالمجاهد الكبير الشيخ مروان حديد، فعقد العزم على السير معه فكان له ما أراد.

كانت أسرة الشهيد تحظى بالحب والاحترام من الأهل والجيرة، فوفر له ذلك مناخاً طيباً من المودة والإخاء، فأحسن الاستفادة من كل ذلك..

اعتقل نصر عام 1979م ولمدة عام في سجون أسد بدمشق، ثم أطلق سراحه، فواصل مسيرة الجهاد، وحزم أمره على الثأر لهذا الدين ولإخوانه الذين استشهدوا في سبيل الله، كما عزم أن يستشهد في سبيل الله أملاً بجنة الله ورضوانه، فقاتل في حماة في شهر المأساة شباط وفي عدد من شوارعها، وكان من أوائل المدافعين عن منطقة السوق ثم الحاضر ولم ينسحب أمام الحشود الظالمة ولم يجزع، فسقط شهيداً في تلك المعركة المشهودة في الرابع من شباط 1982م بعد أن قاتل في سوق الحداد ثم في الكيلانية قتال الأشداء الأبطال.

أما أخوه الأصغر سعدي، فقد استشهد أيضاً أثناء حصار الكيلانية بعد أن أدى الواجب وهو من يعرف واجبه تجاه دينه ضد المرتزقة والأزلام.

استشهد سعدي رحمه الله برصاص الحقد، كما استشهدت والدته الطيبة أيضاً، فكان وقع المصاب أليماً على الأسرة الكريمة..

ولم تترك السلطة عائلة آل الكيلاني بخير فقد قتلت العشرات من أبنائها وشردت العشرات، واعتقلت العشرات، ونسفت دورهم جميعاً في حي الكيلانية، وهكذا أخذ الإجرام يتوسع ليشمل أسراً وعوائل بأكملها..

وهكذا مضى نصر وسعدي وأمهما ومضى كثير من أبناء العائلة شهداء إلى ربهم، بعد أن لقنوا المجرمين دروساً في التضحية والفداء، وواجهوهم بعزائم الرجال.

إنها عائلة كريمة من أكبر عائلات حماة قتلت السلطة من أبنائها ما يقرب من تسعين ضحية، وفجعتهم بتدمير بيوتهم وسكناهم.

هكذا كان نصر الذي نشأ وترعرع في مساجد حماة، وقاتل في فلسطين وعاد ليستشهد في الحاضر وفي حَيِّه على أيدي السفاحين القتلة ولكن بمشيئة الله.

سيبيد جمع الشرك قاطبة          سنزيل عرش عصابة التتر

بدمائنا نفدي عقيدتنا              ونصون حرمة محكم السور

لن يرهبونا بالذي فعلوا            فقلوبنا أقوى من الخطر

وسوم: العدد 711