رحمك الله أخي أبا زُكاء... وتقبلك بالعلماء العاملين

رحمك الله أخي أبا زُكاء...

وتقبلك بالعلماء العاملين

محمد فاروق البطل

نعم... لقد رحل عن هذه الدنيا الغرور إلى جوار ربه العالم الفقيه الأخ الحبيب أبا زكاء د.محمد رواس القلعه جي، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته... وزُكاء هي ابنته البكر التي أحبها وتعلق بها، وبها كان يُكنَّى، وباسمها كنا نناديه لفترة طويلة، ثم جاء ولده محمد المنتصر بعد عشر سنوات.

هو أكبر مني بسنتين، لكنني رافقتُه في مرحلتين دراسيتين، رافقتُه في الثانوية الشرعية بحلب، متقدماً عليَّ بسنة دراسية واحدة، ثم رافقتُه في كلية الشريعة بجامعة دمشق، كذلك كان متقدماً عليَّ بسنة دراسية واحدة، وكان ضمن أول فوج انتسب لكلية الشريعة في العام الذي تأسست فيه، وبالتالي كان ضمن أول فوج تخرج منها عام 1958.

كان أساسه العلمي مكيناً، فقد درس في الثانوية الشرعية (الخسروية) بحلب  على يد علماء ربانيين فحول أمثال الشيخ العلامة محمد راغب الطباخ مؤرخ حلب، والشيخ الداعية محمد أبو الخير زين العابدين، والفقيه الأصولي الشيخ محمد السلقيني، والشيخ الرباني الحافظ محمد نجيب خياطة شيخ القراء في عصره، والفقيه الحنفي الشيخ محمد الجبريني ... وغيرهم من علماء حلب الأعلام رحمهم الله تعالى .

وفي كلية الشريعة بجامعة دمشق درس كذلك على أيدي كبار علماء سورية ومصر والمغرب، ممن تعاقدت معهم كلية الشريعة في السنوات الأولى من تأسيسها، كان مِن هؤلاء العلماء والدعاة الفحول الشيخ الداعية الدكتور مصطفى السباعي، والعلامة الفقيه الشيخ مصطفى الزرقا، والعالم القانوني الرئيس الدكتور محمد معروف الدواليبي، والعلامة المحدث الشيخ محمد بهجة البيطار، والعلامة الشيخ محمد المنتصر الكتاني، والعلامة الفقيه الدكتور محمد فوزي فيض الله، والأستاذ الدكتور فتحي الدريني، وغيرهم من العلماء الأعلام رحمهم الله تعالى، ثم تابع دراسته في الأزهر الشريف، لكنه لم يكن مرتاحاً لعطائهم، ولا مسروراً بالدراسة لديهم، وكان للقصص التي أوردها لي أثر كبير في تغيير اتجاهي في الدراسات العليا وصرف نظري عن الدراسة في الأزهر.

وأشهد أن الأخ أبا المنتصر كان طالباً مجداً، أعطى نفسه ووقته كله للعلم، ثم فرغ جهده للفقه، لم يكن يشغله عن ذلك شيء، ولم يكن يجذبه شيء غير العلم، سواء كانت هذه المشاغل عائلية أو اجتماعية، أو سياسية، أو عامة بإطلاق... كان مشغولاً بالقراءة والكتابة، نهماً للمطالعة، حريصاً على اقتناء الكتب، و قد حدثني مرة أن زوجته أم المنتصر قالت له متألمة شاكية : النساء يغرن من الزوجة الثانية (الضرة) وأنا أعتبر كل كتاب من كتبك هو ضرة لي!!

كان رحمه الله تعالى صاحب همة وطموح، ولا أبالغ إذا قلت : أن الأخ ابا المنتصر كان مِن طموحه أن يبلغ مرتبة فقهاء العصر أمثال الشيخ محمد أبو زهرة ومصطفى الزرقا، وقد كان بينه وبين أستاذه الزرقا سجال ونقد...

ولا شك أن تأثره بالفقيه الظاهري الإمام ابن حزم كان كبيراً، بعد أن أقبل على دراسة المُحلَّى، وعبَّ كثيراً من أفكاره، شجعه على ذلك الفقيه المغربي الشيخ محمد المنتصر الكتاني أستاذنا في كلية الشريعة، بل إنني أقول : إن شخصية أخينا أبي المنتصر وأفكاره تطبُعت بكثير مما اشتهر عن ابن حزم، في جرأته واستقلال رأيه، وقوة شخصيته، لكن لم يُعرف عن الأخ أبي المنتصر شذوذ  ولا شطط، ولا ابتداع، وأستطيع أن اقول كان ملتزماً بقول الجمهور في معظم أرائه.

لقد كان الأخ القلعه جي ـ فيما أعلم ـ كان رائداً في جمع أقوال الصحابة الفقهية من مختلف المراجع والمصادر، وصولاً إلى استقصاء مذهب الصحابي في الفقه ومدرسته في الاجتهاد، وإمامته في العلم، وقد سبق لي أن اطلعت على ما أنجزه في هذا السياق كموسوعة فقه أبي بكر، وموسوعة فقه عمر، وموسوعة فقه عثمان، وموسوعة فقه علي رضي الله عنهم أجمعين، لكنه من المؤسف أنني لم أتابع إنجازه في هذا الميدان بعد افتراقنا في ديار الهجرة، واضحى كل واحد منا في مكان.

وآخر مرة لقيتُه كانت في الكويت عام 2007 وقد دعاني إلى تناول طعام الغداء في منزله العام وقال لي : إذا لم تلب دعوتي من أجلي، فلبها من أجل تلميذتك بنت الأسود من حلب، وهي زوجته الثانية بعد وفاة أم المنتصر.

حقق الأخ أبو المنتصر خلال حياته الحافلة بالعطاء والانتاج العلمي الغزير كثيراً مما كان يطمح إليه، لكن كل ذلك لم يكن ليغير من معالم شخصيته المحببة، الودودة، الشعبية المتواضعة، فقد كان رحمه الله تعالى يألف ويؤلف، صاحب نكتة وطرافة، سمحاً خلوقاً، عصامياً نشأ في بيئة فقيرة، وفي حي شعبي هو حي الكلاسة الشهير في مدينة حلب الشهباء، قدر الله سبحانه وبحكته البالغة أن يغادر أخونا أبو المنتصر هذه الدنيا في دار الغربة في المملكة العربية السعودية، وفي مدينة الخُبَر حيث كان يقيم مع ولده محمد المنتصر خلال فترة مرضه العضال، وقريباً من سكن ابنته زكاء التي تقيم مع زوجها وأولادها في المنطقة الشرقية من المملكة.

وإنها لمأساة مؤلمة أن تفقد مدينة حلب علماءها الأبرار التي رحلوا عنها مضطرين بعد تسلط النظام البعثي النصيري الاستبدادي على مقاليد الحكم في سورية.

وهكذا لحق الأخ ابو المنتصر وبقدر الله سبحانه بكوكبة كبيرة من العلماء السوريين المهاجرين الذين لقوا ربهم في هذه الديار المباركة أذكر منهم : الشيخ علي الطنطاوي، وأمين المصري، وعبد الله علوان (مكة المكرمة)، ومحمد المبارك وعمر بهاء الدين الأميري وشكري الفيصل (المدينة المنورة)، ومصطفى الزرقا، ومحمد معروف الدواليبي وعبد الرحمن الباني (الرياض).

يضاف إلى هؤلاء عدد كبير من علماء سورية وقادتها وزعمائها رحلوا عن هذه الدنيا الغرور مغتربين، ودفنوا خارج سورية التي أحبوها وخدموها وضحَّوْا من أجلها، وذلك نتيجة حكم هذا النظام المجرم الطائفي المستبد المتسلط عليها منذ قرابة خمسين سنة أمثال : شكري القوتلي، وناظم القدسي، ورشدي الكيخيا، وخالد العظم، ومأمون الكزبري، وغيرهم ممن لم تعد تسعفني الذاكرة بتذكر أسمائهم.

وإن سورية بغربة علمائها وقادتها، وزعمائها ورموزها، وصانعي استقلالها ومؤسسي نهضتها... ثم موتهم خارج حدودها، ودفنهم بعيداً عن تربتها يفقدها الكثير من معالم تاريخها الحديث، ويفقد الأجيال مبررات الانتماء لوطنهم وبلدهم وأرضهم...

وهذا ما خطط له الديكتاتور الزنيم حافظ أسد حين اغتصب الحكم في سورية ، وتسلط على مقاليدها سجن رجالها ، ونفى قادتها ، ومنعهم من العودة إليها ، بل لم يسمح لهم أن يموتوا على أرضها ، ويدفنوا في تربتها ، ثم ربط تاريخ سورية الحديث بشخصه ، ووجه الإعلام لتقديس ذاته ، ليصبح هو لا غيره قائد سورية الأوحد ، وزعيمها الخالد ، وباني مجدها ، وحضارتها متمثلاً شخصية فرعون [مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي] {القصص:38}.