سيِّدةُ دار الخلافة العباسية، تَرْعى صبياً ضريراً

حلَّ الليلُ في بغداد، ومضى أولُه، وأوى الناسُ إلى فرشهم يأخذون قسطاً من الراحة، ولكنَّ أباً من الآباء المحزونين لم يجدْ إلى النوم سبيلاً، لقد جفا النومُ جفنيه، وسيطرتْ عليه الأفكارُ من كل جانب، لقد بلغه الكِبَرُ وبدأتْ علائم الرحيل، واشتدَّ عليه أن يترك ابنة وابناً ضريراً دون راعٍ ولا كفيل، ولم يجد هذا الأبُ مِن وسيلة سوى أنْ يبثَّ حزنه إلى زوجته فقال لها: أنا رجلٌ كبير، وأنتِ أيضاً قد كبرتِ وضعفتِ، وقد قرُب منا ما بَعُدَ، كما قال الشاعر:

وإنَّ امرأً قد سار خمسين حجةً

إلى منهلٍ مِن وردِهِ لقريبُ

وهذه الصبيّة يمكنُ أنْ تعيش بصحة جسمها، وتخدمُ الناس وتكفي نفسَها بنفسها، وهذا الصبي ضريرٌ، قطعةُ لحم، ليتَ شعري ما يكون منه؟

وبكى الأبُ وبكت الأمُّ، وداما على ذلك وقتاً طويلاً من الليل، ولم يكونا يعلمان أنَّ هذا الصبي الضرير كان يسمع كلامهما ولم يكن قد نام، ولعل أفكاراً تشبه أفكار والده كانت تراوده وتؤرِّقه، ويحدِّثنا هو عن هذه الليلة وما كان من والديه ويقول: (فأحزنا قلبي وهيجا كربي)، ولكنه لم يبُح لهما بشيءٍ، وجاء الصباحُ فمضى إلى المكتب على عادته، حيث تعلَّم القرآن وحفظه على شيخٍ ناصحٍ مشفقٍ.

وهنا كانت المفاجأةُ التي لم تكن بالحسبان...

جلس الصبيُّ يقرأُ ويراجعُ حفظَه ويثبِّته، والمكتبُ يعجُّ بالصبيان بين قارئٍ ومراجعٍ ومسمع، والمعلِّمُ يراقبُ ويتابعُ ويصحِّحُ ويدقِّقُ، وإذا بداخلٍ غير عادي يَدخلُ إلى المكتب، إنّه غلامٌ للخليفة جاء من القصر برسالةٍ إلى المعلِّم، ولم يكن الصبيُّ يرى ولكنه شعر بضجةِ دخوله، واهتمامِ المعلِّم وترحيبه به، ثم أنصتَ وإذا بالمبعوث يقول: السيدةُ -وإذا أُطلق هذا اللفظ فيعني زوجةَ الخليفة، السيدة الأولى في البلاد-... السيدةُ تُسَلِّمُ عليكَ، وتقولُ لك: قد أقبل شهرُ رمضان، وأُريد منكَ صبيّاً دون البلوغ، حسنَ القراءة، طيِّبَ الصوت، يصلِّي بنا التراويح.

ولم يطل المكثُ كثيراً ليأتي ردُّ المعلِّم بما لم يتوقعْهُ الصبيُّ الضريرُ: عندي مَنْ هذه صفته، وهو مكفوفُ البصر. إنه صبيٌ دون البلوغ، حسنُ القراءة، طيِّبُ الصوت.

يقول الصبيُّ: ثم أمرني معلِّمي بالقيام معه. فأخذ الرسولُ بيدي وسرنا حتى وصلنا الدارَ، فاستأذنَ، فأذنت السيدةُ لي بالدخول، فدخلتُ وسلَّمتُ.

وعَرَفَ أنَّ هذا اللقاء للاختبار والامتحان. قال: واستفتحتُ وقرأتُ: بسم الله الرحمن الرحيم. ويبدو أنّه قرأ بحزنٍ وتأثرٍ مما جرى في الليلة الماضية. قال: فبكتِ السيدةُ، واسترسلتُ في القراءة، فزاد بكاؤُها، وقالتْ: ما سمعتُ قطُّ مثلَ هذه التلاوة، فرقَّ قلبي، فبكيتُ. فسألتني عن سبب ذلك فأخبرتُها بما سمعتُ من أبي. فأدركتْها العاطفةُ الإيمانيةُ النبيلةُ، والمشاعرُ الإنسانيةُ الخيِّرةُ المخبوءةُ في ضمير الإنسان فقالت: يا بُنَيَّ، يكونُ لك مَنْ لم يكنْ في حساب أبيك.

وهكذا جاء الجوابُ الحاسمُ على السؤال الحائر: (هذا صبيٌ ضريرٌ قطعةُ لحم ليت شعري ما يكون منه؟)

نعم: يكونُ لك مَن لم يكن في حساب أبيك.

ولكن كيف ينسى الأبُ أنَّ الذي خلقه لن ينساه؟ وها هو القَدَرُ ينطقُ على لسان سيدة القصر: يكون لك مَنْ لم يكن في حساب أبيك.

لقد ادخرَ اللهُ الفضلَ لهذه المرأة، وأكرمها بأنْ جعلها مظهرَ العناية الإلهية بهذا الصبي وأمثاله.

يقول الصبيُّ: ثمَّ أَمرتْ لي بألف دينار فقالتْ: هذه يتَّجِرُ بها أبوك، ويُجهِّزُ أختَك للزواج، وقد أَمرتُ لك بإجراء ثلاثين ديناراً كلَّ شهر راتباً دائماً.

وأَمرتْ له بكسوةٍ تناسِبُ دخولَهُ إلى القصر وتردُّدَهُ عليه، وبغلةٍ مسرجة ملجمة، وسرجٍ محلَّى.

وعاد الصبيُّ إلى البيت ليفاجئَ أبويه بهذا الإكرام الرباني المدهش.

ومرَّت الأيامُ وأصبحَ هذا الصبيُّ شيخاً كبيراً، يُعرف بأبي بكر الضرير، وقدِّر له أن يسافرَ إلى مصر، ويقيم هناك.

ويحدِّثنا مؤرِّخُ مصر أبو سعيد ابن يونس عنه فيقول: (محمد بن حبش الواعظ، أبو بكر الضرير، بغداديٌ، قدم مصر قديماً وهو شاب، وكان مِن حفاظ القرآن، وكان حسنَ الصوت بالقرآن، وكان يجلس للناس حين كبرتْ سنُّه في المسجد الجامع ويقصُّ [يروي الحكايات]، ويقرأ بألحان، ويعظُ الناس، وكان مقبولاً عند الناس، وكان كلامُه يقع بقلوب الناس، وكان يصلِّي بالناس في قيام شهر رمضان في المسجد الجامع العتيق [جامع عمرو بن العاص]، وكان كريماً سمحاً، توفي بمصر سنة 314).

ولِمَ لا يكون كريماً وقد رأى كرمَ الله وعنايتَه بعبيده؟

وذاتَ يومٍ خرَجَ يشيِّعُ جنازة وإذا به يَسمع صبياناً يبكون أمامَها ويقولون: مَنْ لنا بعدَكَ يا أبة؟

فلما سمعهم أبو بكر يقولون ذلك طافتْ بخياله على الفور صورةُ تلك الليلة الحزينة، التي بكى فيها أبوه وأمُّهُ خوفاً على مستقبله، فقال بدون شعورٍ منه: الذي كان لأبي بكر الضرير... يكونُ لكم أيها الصبيان، ولا يضيِّعُكم اللهُ الذي كان كافياً وكافلاً لأبي بكر الضرير...

وسأله أحدُ الحاضرين: ما معنى هذا الكلام يا سيدي؟

فأخذ أبو بكر وقد هزَّته الذكرياتُ يحدِّثُه ويقول: كان أبي مِن فقراء المسلمين، وكان يبيع الخَزَفَ، وكانت لي أختٌ أسنُّ مني، وكنتُ قد أُتِيَ عليَّ في بصَرِي، فانتبهتُ ليلةً فسمعتُ أبي يقول لأمِّي... وهذه الصبية يمكنُ أنْ تعيشَ بصحة جسمها وتخدم الناس، وهذا الصبيُّ ضريرٌ، قطعةُ لحم، ليت شعري ما يكون منه.....

وحين انتهى أبو بكر مِن حديثه كانت السكينةُ تملأُ القلوب...

ولعل الدعوات كانتْ تنطلقُ في تلك الساعة للسيِّدة الكريمة التي وقفتْ إلى جانب ذلك الصبيِّ الضرير، وإلى جانب أسرتهِ الفقيرة.

وتشيرُ صفحاتُ التاريخ إلى أنَّه في سنة (314هـ) تُوِّفي أبو بكر هذا، ولكننا بعد أكثر من ألف سنة نذْكُرُه، ونذْكُرُ فضائلَ تلك السيِّدة التي سندَتْهُ وأكرمتْهُ، وشَقَّتْ له طريقَ الحياة الكريمة[1].

__________________________________

[1] انظر: (نكت الهميان) للصفدي ص41، واجتهدتُ أن يكون المذكورُ فيه هو المترْجَم في (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي (2/290).

وسوم: العدد 719