(والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون )

لمّا كان كل ابن آدم خطّاء ، فإن البغي بين الناس واقع لا محالة ، لذلك نهى الله عز وجل عن وقوعه أصلا، وتوعد بشديد الوعيد البغاة  ، كما أنه  شرع في حال وقوعه انتصار ضحاياه على الذين يبغون عليهم في قوله عز من قائل  في سياق الحديث عن عباده المؤمنين :

(( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) .

إن  سبب نزول هذا النص القرآني كما جاء في كتب التفسير هو وقوع البغي من الكافرين على المؤمنين إلا أنه وفق قاعدة العبرة بعموم لفظ القرآن  الكريم لا بخصوص سبب نزوله  فإنه قد عالج هنا وقوع عموم البغي سواء وقع من الكافرين على المؤمنين أو وقع بين المؤمنين فيما بينهم، وجعل لذلك ضوابط حتى لا يقابل البغي بأشد منه ،فتختل حينئذ العدالة التي يريدها الله سبحانه وتعالى بين عباده كي تستقيم الحياة وتسير كما أراد لها  .

وإن أول ما يثير الانتباه في ما شرع الله عز وجل بخصوص منع البغي ومحاربته هو تسمية الرد عليه انتصارا، وهو ما يعني من جهة  امتناع المظلوم من ظالمه ،كما  يعني من جهة أخرى الانتقام منه، ومن جهة ثالثة يعني أيضا تأييد المظلوم والوقوف إلى بجانبه ضد ظالمه .

 ولقد  قيّد الله تعالى الانتصار على البغي  بالعدل بحيث يكون على قدره أو من جنسه كي تتحقق العدالة المطلوبة  بقوله تعالى : (( وجزاء سيئة سيئة مثلها )) . أي يكون الرد على البغاة بما يسوءهم كما ساء بغيهم من كانوا ضحاياه . ومع ما شرع الله تعالى  من الرد على الإساءة  بغيا بمثلها، فإنه من رحمته رغّب في  إشاعة الصفح والعفو عمن وقع منه البغي قائلا : (( فمن عفا وأصلح فأجره على الله )) ، فجعل العفو بديلا عن الانتصار، ورغب في أجره عنده  الذي  وعد به  العافين عمن ظلمهم  .

 ولقد وقف المفسرون  والعلماء عند قضية الانتصار من البغاة بمثل أو بعدل بغيهم والعفو عنهم  ، فقالوا إن البغاة إذا ما أصروا على بغيهم  فالقصاص منهم أولى بهم ، أما إذا ما اعتذروا معترفين ببغيهم ونادمين على وقوعه منهم ، فالعفو عنهم أولى ،وقد رغّب فيه الله عز وجل مقابل أجر وعد به العافين عنهم .

ورفع الله تعالى الحرج عمن وقع عليهم البغي في الانتصار  قائلا : (( ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك مع عليهم من سبيل )) شريطة أن يقابل  الظلم بما يناسبه من انتصار ، وأعقب ذلك قوله جل شأنه : ((  إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم )) ، وهو ما يؤكد رفع الحرج عن المظلومين في قصاصهم من الظالمين الذين يبغون في الأرض بغير الحق  والذين يستحقون العقاب . ويرغب سبحانه وتعالى مرة أخرى في العفو بقوله جل شأنه : ((  ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور )) . والملاحظ في هذا الترغيب الأخير أنه حل محل الترغيب في الأجر الذي وعد به سبحانه وتعالى  في الترغيب السابق ، فرغب في العزائم التي أمر بها ،والتي تقتضي الصبر على البغي ، والتنازل عن الانتصار مع القدرة عليه ابتغاء وجه الله تعالى ومرضاته ،الشيء الذي يفهم منه مزيد من الترغيب في العفو والصفح على ما في البغي من مشقة على النفس .

وهكذا تتجلى عدالة الله عز وجل كما تتجلى رحمته  في هذا النص القرآني حيث  شرع الانتصار عند وقوع البغي، وفي نفس الوقت رغب مرتين في العفو والصفح  مقابل أجر عظيم للصابرين عليه والعافين عمن بغوا عليهم .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو التنبيه  تحديدا إلى آفة البغي التي تشيع بين المؤمنين أفرادا وجماعات ودول في زماننا هذا ، وهو ما يوجب على الأمة الإسلامية عموما أن تستحضر شرع الله عز وجل في حال وقوع البغي بين أفرادها أوجماعاتها أودولها، فتأخذ بما أمرها الله تعالى من انتصار عند إصرار البغاة على بغيهم ، وتستجيب أيضا لترغيبه سبحانه وتعالى في العفو والصفح على المقرّين ببغيهم والمتحللين منه والسائلين العفو ممن وقع عليهم .

وآفة هذا الزمان شيوع البغي وانتشاره بين  بعض الدول الإسلامية أوبين جلها  بسبب نزاعات فيما بينها لا تعدم حلولا، وهو ما يستوجب عليها العودة إلى شرع الله عز وجل في التعامل مع ما يقع بينها من بغي إما بالانتصار إذا ما أصرت الباغية منها على بغيها شريطة ألا يقع التجاوز منها في الانتصار أو بالصبر والعفو والصفح إذا ما أقلعت الباغية منها عن بغيها،  وندمت على ذلك، واعتذرت  وتحللت منه. وليس للدول الإسلامية بدا من الاحتكام إلى شرع الله عز وجل من خلال الرجوع إلى  آراء علمائها الربانيين الذين عندهم علم بشرعه سبحانه وتعالى ،وعرض ما يقع من بغي بينها عليهم للبث فيه عوض اللجوء إلى محافل لا يدين أصحابها بدين الله عز وجل، ولا يقضون بشرعه وقضائه .

 وعلى علماء الأمة تقع مسؤولية نصح حكامها خصوصا من يقع منهم البغي لثنيهم عنه عوض التزامهم الصمت ،وقد انتدبوا بحكم علمهم للتذكير بشرع الله تعالى لا يخشون في ذلك أحدا إلا الله عز وجل ، وهم المعول عليهم في القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل غيرهم . وعلى علماء الأمة أن يجاهروا بنصرة الدول الإسلامية المظلومة ،وذلك بعرض مظلوميتها على شرع الله عز وجل كتابا وسنة  عوض اضطرارها إلى عرضها على قوانين وضعية قد يعترض عليها شرع الله تعالى ، وعليهم أن يتوجهوا بالخطاب إلى حكام الدول الإسلامية الباغية على غيرها، وتنبيههم إلى مواطن بغيهم عملا بفريضة النصح لله تعالى و لكتابه ولرسوله عليه الصلاة والسلام ولأئمة المسلمين وعامتهم كما جاء  ذلك في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سئل لمن يكون النصح . و في المقابل لا يحسن بأئمة المسلمين أن يزهدوا في نصح الناصحين من علماء الأمة، لأنهم أحوج ما يكونون إليه وقد ولاهم الله تعالى أمانة الولاية واستأمنهم عليها كما استأمن العلماء على أمانة النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وكل عالم في دولة إسلامية يرى البغي صادرا عنها في حق غيرها ولا يمنعه ،فهو آثم عند الله عز وجل، وقد يكون شريكا في البغي بالتشجيع عليه أو حتى بالسكوت عليه. وفي المقابل لا يحق لحاكم يخشى الله تعالى أن يستكبر عن نصح العالم الناصح له، لأنه أدرى منه بمعرفة شرع الله تعالى وحدوده  .

اللهم إنا نسألك أن توفقنا إلى ما ترضاه لنا إذا وقع علينا بغي ، ونعوذ بك منه،   ونسألك أن تعصمنا من الوقوع فيه ، ومن التحلل منه إذا ما حصل منا شيء منه اللهم لا عاصم لنا من الوقوع فيه إلا أنت ، فاغفر لنا ،واعف عنا وعن إخواننا المؤمنين يا أرحم الراحمين يا رب العالمين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 944