ستون منارة مهداة إلى بعض كتائب المجاهدين

ربيع عرابي

1-  الحرية هي أثمن ما وهبه الله عز وجل للإنسان : "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴿٧٢﴾" – الأحزاب.

2-  فالإنسان من بين خلق الله، وبأمر الله وإذنه وإرادته، أعطي من الوسائل السمعية والبصرية ومن عقل وبصيرة، ما يُمَكِّنُهُ من إختيار وتقرير طريقه : "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٢﴾ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴿٣﴾" – الإنسان.

3-  وأعطي حرية اختيار المنهج الذي ينظم حياته ومعيشته، تاركا الثواب والعقاب على ذلك لله وحده، وليس لأحد من خلقه : "وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر إِنّا أَعتَدنا لِلظّالِمينَ نارًا أَحاطَ بِهِم سُرادِقُها وَإِن يَستَغيثوا يُغاثوا بِماءٍ كَالمُهلِ يَشوِي الوُجوهَ بِئسَ الشَّرابُ وَساءَت مُرتَفَقًا ﴿٢٩﴾ إِنَّ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ إِنّا لا نُضيعُ أَجرَ مَن أَحسَنَ عَمَلًا ﴿٣٠﴾" – الكهف.

4-  ونعمة الحرية التي وهبها الله عز وجل للإنسان، هي التي ميزته وفضَّلته، ورفعت مكانته بين الخلائق : "وَلَقَد كَرَّمنا بَني آدَمَ وَحَمَلناهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقناهُم مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلناهُم عَلى كَثيرٍ مِمَّن خَلَقنا تَفضيلًا ﴿٧٠﴾ يَومَ نَدعو كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم فَمَن أوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ فَأُولـئِكَ يَقرَءونَ كِتابَهُم وَلا يُظلَمونَ فَتيلًا ﴿٧١﴾ وَمَن كانَ في هـذِهِ أَعمى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعمى وَأَضَلُّ سَبيلًا ﴿٧٢﴾" – الإسراء.

5-  وحرية الإختيار والقرار في الدنيا، هي التي ينبني عليها الثواب والعقاب في الآخرة : "وَما نُرسِلُ المُرسَلينَ إِلّا مُبَشِّرينَ وَمُنذِرينَ فَمَن آمَنَ وَأَصلَحَ فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنونَ ﴿٤٨﴾وَالَّذينَ كَذَّبوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ العَذابُ بِما كانوا يَفسُقونَ﴿٤٩﴾" – الأنعام.

6-  وهي التي تستوجب الخزي والندامة يوم القيامة، على سوء الإختيار وفساد القرار : "حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴿٩٩﴾ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴿١٠٠﴾" – المؤمنون.

7-  وهي التي تستوجب المساءلة والثواب، يوم العرض والحساب : "وَقالوا إِن هِيَ إِلّا حَياتُنَا الدُّنيا وَما نَحنُ بِمَبعوثينَ ﴿٢٩﴾ وَلَو تَرى إِذ وُقِفوا عَلى رَبِّهِم قالَ أَلَيسَ هـذا بِالحَقِّ قالوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذوقُوا العَذابَ بِما كُنتُم تَكفُرونَ ﴿٣٠﴾ قَد خَسِرَ الَّذينَ كَذَّبوا بِلِقاءِ اللَّـهِ حَتّى إِذا جاءَتهُمُ السّاعَةُ بَغتَةً قالوا يا حَسرَتَنا عَلى ما فَرَّطنا فيها وَهُم يَحمِلونَ أَوزارَهُم عَلى ظُهورِهِم أَلا ساءَ ما يَزِرونَ ﴿٣١﴾" – الأنعام.

8-  والحرية التي وهبها الله عز وجل للإنسان تشمل : حرية الإعتقاد، وحرية القول، وحرية الفعل أو العمل.

9-  حرية الإعتقاد نص عليها كتاب الله عز وجل في الآية الكريمة : "وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُم فَمَن شاءَ فَليُؤمِن وَمَن شاءَ فَليَكفُر ﴿٢٩﴾" – الكهف.

10-                     وأما حرية القول فهاهم الملائكة يسألون ربهم عز وجل متعجبين مستفهمين : "قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾" – البقرة، وهاهو إبليس ييفشي مكنونات صدره فيقول : "وَإِذ قُلنا لِلمَلائِكَةِ اسجُدوا لِآدَمَ فَسَجَدوا إِلّا إِبليسَ قالَ أَأَسجُدُ لِمَن خَلَقتَ طينًا ﴿٦١﴾ قالَ أَرَأَيتَكَ هـذَا الَّذي كَرَّمتَ عَلَيَّ لَئِن أَخَّرتَنِ إِلى يَومِ القِيامَةِ لَأَحتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلّا قَليلًا ﴿٦٢﴾" – الإسراء.

11-                     وأما حرية الفعل والعمل، فيقول جل من قائل : "وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴿٣٧﴾" – فاطر.

12-                     وحيث أن الحرية وُهِبَت للإنسان بأمر الله ومشيئته، فليس لأحد من الخلق الحق في مصادرتها أو التعدي عليها، تحت أي مسوغ ومبرر، ومن فعل ذلك فقد جاهر الله عز وجل بالعداء، وحارب قضاء الله وإرادته.

13-                     الطغيان طغيان، سواء أَلَبِسَ تاج كسرى، أو رداء قيصر، أو طَيالس يهود، أو عباءة قريش، فلم يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستبدل طغيان المجوس والروم وعرب الجاهلية، بطغيان إسلامي ذو عمامة ولحية، فالطغيان في جوهره تعد على أمر الله، ومصادرة لحرية خلقه، وفتنهم في دينهم، وتكميم أفواههم، وتقييد حركتهم، فلا يستقيم الطغيان في أي زمان أو مكان إلا بذلك، من عهد عاد وثمود إلى عهد السيسي وبشار.

14-                     قال عتبة بن ربيعة يوما وهو جالس في نادي قريش الذي يضم سادتها وكبراءها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا ؟ وكان ذلك بعد إسلام حمزة، وازدياد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعِبت به آلهتهم ودينهم وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد، أسمع، قال : يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رِئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد ؟ قال : نعم، قال : فاسمع مني، قال : أفعل، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة فصلت إلى قوله تعالى : "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود" فقام عتبة مذعورا ووضع يده على فم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول : أنشدك الله والرحم، مخافة أن يقع النذير.

15-                     وهكذا رفض الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظ الله له أن يتحول دينُ الحرية إلى طاغوت فارسي أو رومي أو قرشي، ملكي أو إقتصادي أو وجاهي قبلي، فالحرية في الإسلام ليست بضاعة قابلة للتفاوض بأي حال من الأحوال.

16-                     المنهج الرباني في الأرض هو إزالة الطاغوت، أي طاغوت، بشري أو بِرِداء الدين، وترك الناس أحرارا يختارون مايشاؤون، حتى يكون لإختيارهم قيمة يحاسبون عليها يوم القيامة، فالمكره لا إختيار له، فلا حساب عليه : " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّـهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴿٦٤﴾" – آل عمران.

17-                     فالطاغوت في كل عصر، هو المشكلة، وهو العائق، وهو العدو : "اتَّخَذوا أَحبارَهُم وَرُهبانَهُم أَربابًا مِن دونِ اللَّـهِ وَالمَسيحَ ابنَ مَريَمَ وَما أُمِروا إِلّا لِيَعبُدوا إِلـهًا واحِدًا لا إِلـهَ إِلّا هُوَ سُبحانَهُ عَمّا يُشرِكونَ ﴿٣١﴾" – التوبة.

18-                     والطاغوت قد يلبس ثوب السياسي أو العسكري، أو التاجر أو صاحب المال، أو الكاهن أو رجل الدين، أو الساحر ورجل الإعلام، لا فرق، فكل هؤلاء يكرهون الناس على ما لا يريدون وما لا يرغبون، فتنعدم الحرية ويصادر حق الإختيار.

19-                     إن السبيل الأول لإزاحة الطواغيت عن مراكز النفوذ وكف أيديهم عن مصادرة حق الناس في الإختيار، وإعادة الحرية للناس كافة، هو البلاغ واللسان والبيان : "ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ﴿١٢٥﴾" – النحل.

20-                     وحين يتشبث الطواغيت بكراسيهم، ويمانعون في إطلاق الحرية لأصحابها، ويصدون الناس عن سماع كلمة الحق تحقيقا لحرية الإختيار، فيقوم السيف حينئذ بما عجزت عنه الحكمة والموعظة الحسنة : "وَقاتِلوهُم حَتّى لا تَكونَ فِتنَةٌ وَيَكونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلَّـهِ فَإِنِ انتَهَوا فَإِنَّ اللَّـهَ بِما يَعمَلونَ بَصيرٌ ﴿٣٩﴾" – الأنفال.

21-                     فالقتال شرع لدرء الفتنة عن الناس، والفتنة هي مصادرة حرية المرء في الإعتقاد والقول والعمل، سواء كانت تلك المصادرة، بالقوة والسلاح، أو بالخداع والتلبيس، أو بشراء الذمم والعقول، أو بنشر الفساد والتحلل، فعندها يتدخل السيف لإزالة العوائق، وتكسير القيود، وفتح الأبواب والنوافذ، فيصبح الدين لله، لا لذهب المعز، ولا لسيفه، ولا لشخصه.

22-                     لم يُشرع القتال مطلقا لمحو الكفار من الأرض، فإزالة الكافرين واجتثاثهم وإبادتهم، ليس من أهداف القتال أبدا، وهو مخالف لسنة الله الماضية في الأرض إلى يوم الدين : " وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّـهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴿٢٥١﴾" – البقرة.

23-                     السُنَّة الماضية في الأرض هي سنة التدافع بين الناس، لا سنة الإفناء، إلا قبيل الساعة حين يفنى المؤمنون وترفع الكعبة والكتاب فتقوم الساعة على شرار الناس.

24-                     عن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "يَدْرُسُ الإسلام كما يدرس وَشيُ الثوب، لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك، ويُسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى طوائف من الناس : الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها"، فقال صلة : "فما تغني عنهم لا إله إلا الله لا يدرون ما صيام ولا صدقة ولا نسك؟"، فأعرض عنه حذيفة رضي الله عنه، فردد عليه ثلاثا، كل ذلك يعرض عنه، ثم أقبل عليه في الثالثة، فقال : "يا صلة، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار، تنجيهم من النار". رواه الحاكم في المستدرك في كتاب الفتن والملاحم وقال حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

25-                     نتساءل : هل هناك أكبر من تحريض ابن سلول، ومحاولته تأجيج الفتنة بين المهاجرين والأنصار، ثم قوله : "يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّـهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٨﴾" – المنافقون.

26-                     وهل هناك أشنع من حديث الإفك الذي تولى كبره ابن سلول وثلة من المنافقين فتنزلت عليهم لعنات الله في الدنيا والآخرة : "إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٢٣﴾" – النور.

27-                     ماذا كان رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء ذلك : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال : كنا في غزاة بني المصطلق فكسع (ضرب) رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري : يا للأنصار، وقال المهاجري : يا للمهاجرين، فسمع ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ما بال دعوى جاهلية؟"، قالوا يا رسول الله : كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال : "دعوها فإنها منتنة"، فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال : فعلوها ؟، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "دَعْه، لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" - رواه البخاري.

28-                     ولما سمع عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، بما قاله أبوه : "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً فمُرْني به، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي على الأرض فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر فأدخل النار". فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: «بر أباك، وأحسن صحبته» - رواه ابن حبان.

29-                     ولما وصل المسلمون مشارف المدينة، تصدى عبد الله لأبيه، وقال له : قف، والله لا تدخلها حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدخول، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فظهر بذلك مَنِ العزيز ومَنِ الذليل.

30-                     فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يصادر حرية المنافقين، ولم يأخذهم بالشبهات والنيات، رغم معرفته بهم فردا فردا بإخبار الله له، وإعلامه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه بأسمائهم، حتى لا يتسببوا بمصيبة للمسلمين.

31-                     ألم نقرأ في السيرة خذلان المنافقين للمسلمين في أحد، وتحزيبهم الأحزاب في الخندق، ألم نقرأ تآمر يهود والمجوس والأعراب على قتل عمر ونجاحهم في ذلك، فَلِمَ لم يؤخذ هؤلاء بالشبهة والتهمة، والجرائم واضحة وأشخاصها معروفون.

32-                     حتى اليهود لم يؤخذوا بكفرهم، ولا بسبب كياناتهم المشبوهة داخل المدينة، بل أخذوا بجناياتهم المثبتة الكبيرة، فعوقب بنو قينقاع لإعتدائهم على الحرمات، وعوقب بنو النضير لتوافقهم على إغتيال الحبيب صلى الله عليه وسلم، وعوقب بنو قريظة لإشتراكهم في الخيانة العظمى وانحيازهم لقريش وغطفان في غزوة الخندق، وفرق كبير أن يؤخذ المرء لجناية كبرى ثبتت عليه، وأن يؤخذ لإعتقاد أو قول أو عمل، فقد كان يهود لعنهم الله يستهزؤون بالمسلمين ويينتقصونهم سرا وجهرا، وكانت حصونهم أوكارا للرذيلة والفساد والتآمر على الإسلام، فلم يعاقبوا إلا بجناية ثابتة واضحة.

33-                     المسلمون اليوم واقتداء بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم لن يقبلوا استبدال طاغوت أمريكا وروسيا وإيران وعملاء العرب بطاغوت إسلامي ولو رفع مئات الشعارات الإسلامية.

34-                     إن الفيصل بين الحق والباطل هو صواب المنهج لا جمال الشعار : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّـهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٣﴾ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴿٤﴾" – الصف.

35-                     قال الفضيل بن عياض : العمل الحسن : أخلصه وأصوبه، فقيل له : ما أخلصه وأصوبه؟ فقال : إن العمل إذا كان خالصا، ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، حتى يكون خالصا صوابا، فالخالص ما كان الله، والصواب ما كان على السنة.

36-                     إن مصادرة الرأي وتكميم الأفواه، والخطف والإعتقال، والتصفية والإغتيال، هي علامات واضحة كافية على انحراف المنهج، أو فقدانه من الأصل، ولا تنفع هنا سياسة التبرير تلو التبرير، والإنكار تلو الإنكار، فالتبرير والإنكار يعنيان أننا نتعامل مع حمقى جهلة، أو مع مجرمين سفلة، ونربأ بالمجاهدين أن يكونوا من أحد الفريقين.

37-                     إن حسن النوايا لا يغني عن حسن الفِعال، فمن ارتكب جريمة في حق الأمة لن ينفعه الإحتجاج بطيبة القلب، وسلامة النوايا، فالدماء والأعراض والأموال حِمَى مَصون، من تعدى عليها، فهو خارج على الأمة.

38-                     هناك فرق كبير بين الحزم والجبروت، وبين القتال المشروع والجريمة، فمن استهان بأرواح الأمة وممتلكاتها وحقوقها، وقع تحت وعيد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أَبِو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أَنَّهُ قَالَ : "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي، يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا، وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ" صحيح مسلم.

39-                     إن ردود الفعل تفتح باب الجريمة، ولا تبني دولة الحق بحال من الأحوال.

40-                     الفرق كبير بين العصابة والجماعة، فالعصابة رمز لتحقيق الهدف دون نظر للوسائل من قتل أو خطف أو إفساد، أما الجماعة فهي التي اجتمعت على تحقيق هدف مشروع بوسائل مشروعة، ولو أدى ذلك إلى قتال مشروع.

41-                     نبينا الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، نعرف نسبه ووصفه وهيئته، ونعرف خلفاءه نسبا ووصفا، ونعرف ولاة المسلمين الأمويين والعباسيين والعثمانيين نسبا ووصفا، الوحيدون المجهولُ نسبهم ووصفهم، هم دعاة الباطنية، كالقرامطة والإسماعيلية والنصيرية والعُبيدية، فإخفاء الهوية دلالة على انحراف المنهج، وتأسيس لدعوة باطنية جديدة.

42-                     إن الإمام المجهول والقائد الملثم والأمير المختفي يساوي تماما الإمام المسردب.

43-                     البيعة والطاعة في الإسلام لشخص معلوم على منهج معلوم وحقوق وواجبات معلومة : هكذا كانت بيعتا العقبة الأولى والثانية وبيعة الرضوان وبيعة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم أجمعين.

44-                     قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته التي تلت البيعة العامة بعد أن حمد الله، وأثنى عليه بالذي هو أهله : "أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

45-                     السلطة مصدرها الأمة فهي التي تبايع شخصا على منهج ومن ثم تراقب خطواته وأعماله.

46-                     سلامة المنهج مقدمة على بلوغ الأهداف، فلايقبل بلوغ الأهداف بوسائل منحرفة، فنحن أمة متعبدة بالطريق لا بالنتائج.

47-                     تحدث العديد من قادة الجهاد داخل وخارج سوريا، فأكدوا حرصهم على عدم مصادرة حق الأمة وحريتها في اختيار تفاصيل وشكل بنيتها السياسية، وحصروا دورهم في الدفاع عنها وحمايتها والمساهمة في هذا البناء.

48-                     إن محاولة أي مجموعة كائنة من كانت، مصادرة حق الأمة والإستئثار بقرارها وإلغاء حريتها، يحول هذه المجموعة إلى فئة باغية منحرفة متعدية على أمر الله في خلقه، متجاوزة لدينه وشرعه، فهي لا تختلف عمَّن سبقها من الخوارج في شيء، اللهم إلا استعمالها لأساليب المكر والخداع، والمراوغة والمداورة.

49-                     إن من يعطي نفسه الحق بتصنيف الأمة إلى صالح وطالح، وخائن وموال، ومعنا وعلينا، عليه ألا ينزعج ويغضب حين تصفه الأمة بالضلال والإنحراف، والزيغ والجهل، والعمالة والتبعية لهذه الجهة أو تلك.

50-                     قيادة الأمة تكون على بصيرة، فالأمة ليست حقلا للتجارب، وليست مشاعا لكل من أراد أن يختبر مواهبه وقدراته : "قُل هـذِهِ سَبيلي أَدعو إِلَى اللَّـهِ عَلى بَصيرَةٍ أَنا وَمَنِ اتَّبَعَني وَسُبحانَ اللَّـهِ وَما أَنا مِنَ المُشرِكينَ ﴿١٠٨﴾" – يوسف.

51-                     من يتصدر لقيادة الأمة عليه امتلاك القدرة والمؤهلات على فهم معطيات الزمان والمكان والبيئة (العصر)، فمن لازال يعيش في أوهام وأحلام الماضي البعيد أو القريب، دون أن يمتلك القدرة على التعامل الصحيح مع معطيات العصر، من إعلام واتصال ونظريات سياسية وإقتصادية وتربوية، فسوف يبني دولة أبي جهل بحسن نية أو بسوئها.

52-                     من لا يفهم معطيات العصر ولايتمكن من ربطها بالشرع، فليلزم حده وقدره، وليفسح المجال أمام المؤهلين من الأكفاء القادرين، وقديما قالوا : رحم الله امرأ عرف حده فوقف عنده، وهو نفسه مفهوم الوسع : "لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا .... ﴿٢٨٦﴾" – البقرة، فمن كلف نفسه ما لاتطيق من عمل، فتسبب للأمة بالأذى والضرر، فَضَلَّ وأضَلَّ، فلا يلومن إلا نفسه في الدنيا والآخرة.

53-                     قيادة الأمة ليست بحال من الأحوال للسيوف والمدافع، بل هي للمؤهلين سياسيا بمعونة العلماء والخبراء وأهل الإختصاص، فلم يُوَلِّ المسلمون خالدا وسعدا بل وَلَّوا عمرا وعثمان رضي الله عنهم أجمعين.

54-                     السيف مكانه مواجهة العدو وحماية الأمة والدفاع عنها، لا إدارة الدولة وقيادتها، فالسيف تابع للدولة وليست الدولة تابعة للسيف، وحين تتبع الدولة السيف فقد خسرنا الدولة والسيف معا، ومن شاء فليتعلم من ملكة سبأ وجيشها.

55-                     يبدأ الإنحراف صغيرا جدا تسهل إزالته، فإن سكت عليه كبر واستفحل واستحالت معالجته، وكلف الأمة سيلا من الدماء وفيضا من الشهداء.

56-                     كلمات قليلة بثها ابن سبأ اللعين في آذان مستمعيه، لا زلنا ندفع ثمنها حتى يومنا هذا.

57-                     سياسة فرض الأمر الواقع لا تجدي نفعا، فقد احتل المجرمون المدينة المنورة، وقتلوا الخليفة عثمان رضي الله عنه، ووضعوا السيوف على رقاب الصحابة، لكن عقاب الله عز وجل نالهم في الدنيا قبل الآخرة، فقتلوا فردا فردا جزاء استحلالهم للحرمات، واستمرت دولة الإسلام رغم أنوفهم، بهدي سيد الأمة الحسن بن علي وحصافة معاوية رضي الله عنهما، فاعتبروا ياأولي الأبصار.

58-                     هذا إعذار أمام الله عز وجل، بتبليغ كلمة الحق، لأولئك الذين يَتَغَابُون ويكذبون، ويحسبون أنهم مهتدون، وهم الجاهلون المفسدون المفضوحون.

59-                     قد نكون قصدنا فئة معينة ومجموعة محددة في بلاد الشام، لكثرة ما استمرأت الغش والخداع، والخروج على نصوص الشريعة ومقاصدها، والتعدي على الدماء والحرمات المصانة، ثم الكذب والمراوغة واللف والدوران، لتختم ذلك كله بالسفاهة في النقاش، وقلة الأدب مع الناصحين، والتطاول على كل من صدع بكلمة الحق.

60-                     لكن الكلام بمجمله نافع لكل من قرأه بقلب مفتوح، وعين فاهمة بصيرة، فلربما كشف له بعض ما خفي عليه، فالمجاهدون كلهم أحبتنا وإخوتنا، نحبهم ونجلهم ونغار عليهم ولا نرضى لهم الزلل بحال.

والله من وراء القصد ... وهو الهادي إلى سواء السبيل

وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون