( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين )

من المعلوم أن الله عز وجل كرّم الإنسان ، ومن تكريمه له  أنه جعله عبده ، ولم يرض له العبودية لغيره مصداقا لقوله تعالى : (( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم )) . وحقيقة عبودية الإنسان لخالقه عز وجل هي طاعته أو عبادته، وهي انصياع لأوامره، وانتهاء عن نواهيه ، وبذلك يتم شكر نعمه  التي لا يحصيها عد ، وغير ذلك يكون كفرا بها .

وعبادة الله عز وجل إنما هي في جوهرها شكر لنعمه لأنه الخالق المنعم الوحيد ، ويكون ذلك بالتصرف فيها وبصرفها فيما يرضيه و يرضاه  للخلق . ولا يخلو كافر بنعمه  من أن يكون أحد اثنين:  إما  مقر بأنها منه سبحانه وتعالى مع تعمد جحودها أو يكون ممن ينسبها  لغيره عن قصد أو عن جهل . ولقد عبر الله تعالى عن استغنائه عنهما معا  ولم يرض لهما ذلك ، بينما يرضى للشاكرين شكرهم .

والعبد العابد والمطيع ربه ،هو الشاكر له المتصرف في نعمه فيما يرضيه ، ويرضاه له . وقد يحرص على حسن الطاعة والعبادة بشكر نعم المنعم جل وعلا، لكنه قد لا تسلم طاعته وعبادته وشكره من شوائب  تشوبها، لهذا دعاه ربه إلى الإخلاص في ذلك ،فقال مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله كل المؤمنين بل كل الناس إلى قيام الساعة باعتبار الرسالة العالمية الخاتمة التي خصهم بها جميعا : (( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى هو منزل الكتاب المنزه عن الباطل ، وفي ذلك رد على من كانوا ينكرون نزوله  من عنده سبحانه وتعالى ، وينسبونه لرسول الله عليه الصلاة والسلام ، وفي نسبته إليه ما يوحي بادعائهم اعتراء الباطل له . وتشير الآية الكريمة أيضا إلى أن ما يترتب عن نزول الكتاب بالحق من عند الله عز وجل هو لزوم عبادته بشرط الإخلاص فيها .

 والإخلاص من فعل خلص ، يخلص الشيء إذا صفا مما يشوبه بمغاير له ،  ويمحض لذلك ، كما يعني الإخلاص أيضا التفرد والإفراد ، ومن ذلك تسمية سورة الإخلاص كذلك  لما فيها من تخصيص الله عز وجل بالتوحيد ، وإفراده بالألوهية والربوبية .

والأمر الإلهي في هذه الآية الكريم ،هو إخلاص العبودية والطاعة لله تعالى دون مخالطتها بالعبودية لغيره أو بتعبير آخر شكر نعمه ونسبتها إليه ، مع التصرف فيها وفق إرادته ،ووفق مرضاته دون جحودها أو نسبتها لغيره .

ولما كان الدين هو المعاملة ، فإن ذلك يعني أن هذه المعاملة لها وجهان : معاملة المخلوق للخالق سبحانه وتعالى ، وتتمثل في عبادته، وطاعته، وشكر نعمه ، ومعاملته للمخلوق مثله وفق ما شرعه  له .

ومعلوم أن تحقق الإخلاص في العبادة ،ليس بالأمر الهين اليسير كما يظن كثير من الناس  نظرا لما قد يعتريها من شوائب ، ذلك أن الكثير تشوب عبادتهم حظوظ  دنيوية بحيث يجعلون مع الله تعالى بقصد أو عن جهل شركاء فيما أنعم به عليهم ، وهو ما ينتفي به الإخلاص في شكرها ، ومن ثم الإخلاص في العبودية والعبادة والطاعة  .

ومعلوم أيضا أن كل من أساء التصرف في نعم المنعم جل جلاله كما يريد منه ذلك، فإنه ليس بشاكر، ولا هو مطيع ،ولا هو عابد على الوجه الصحيح  ولو ادعى ذلك بلسانه ،لأن البرهان على إخلاص الشكر والطاعة والعبادة  إنما هو التصرف في النعم وفق إرادة الله عز وجل ومشيئته .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بضرورة إخلاص دينهم لله تعالى ، وذلك بتجنب كل ما من شأنه أن يشوب إخلاصهم سواء تنبهوا إلى تلك الشوائب أم غفلوا عنها . ومن أمثلة ضياع الإخلاص بالنسبة لبعض الناس على سبيل المثال لا الحصر أنهم يدعون شكر المنعم سبحانه وتعالى من خلال إقامة  ولائم ، أو ما يسمونه " وعدات " ، خصوصا في من مثل هذا الوقت من كل عام ،ويذبحون فيها  ذبائح عند أضرحة أموات أو في محيطها ، فيتحول شكرهم من شكر المنعم الحق إلى شكر من لا يد لها فيها، ولا قدرة له عليها  وما ينبغي له ذلك وما يستطيع . وقد يستمطر بهؤلاء  ، وما هم بمنزلين ماء من سماء ،ولا هم منبعونه من أرض أو مجرونه فيها . وهذا من فساد إخلاص العبادة والعبودية  والطاعة لله تعالى ، وقد يحدث ذلك عند البعض جهلا بما يعتريها من شوائب قد يزينها لهم غيرهم ، فيعتبرونه  من شكر نعم الله تعالى ، وما ذلك بشكر لأن فيه إشراك غير المنعم بالمنعم سبحانه وتعالى .

ومن فساد إخلاص العبادة، والطاعة، والشكر أيضا أن يرجع البعض ما بهم من نعم إلى علم عندهم على الطريقة القارونية ـ نسبة إلى قارون ـ الذي حكى القرآن الكريم قولته : (( قال إنما أوتيته على علم عندي )) ، وهذا أقبح جحود للنعم على الإطلاق، وقد ذمه الله تعالى، وتوعد قائله بعذاب الدارين حيث قال : (( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا )) إلى أن قال سبحانه وتعالى : (( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين )) ، فهذه عقوبة تلحق لا محالة كل من ينسب نعم الله عز وجل عليه لعلمه أو قدرته أو شطارته ، وقد تختلف طرق  وأساليب الخسف مختلفة لكنها كلها عذاب من الله عز وجل يحل بمن ينسبون ما بهم من نعم إلى علم عندهم  .

ومن فساد إخلاص العبادة والطاعة والشكر أن يشكر بعضهم المخلوق على ما ينعم به عليهم المنعم جل في علاه ، ويزعمون أن هذا المخلوق هو ولي نعمهم مع أنه إنما هو مسخر لتمكينهم منها ،وأنها من عند الخالق سبحانه وتعالى لا غير . وقد يبلغ الغرور بالمخلوق الذي تنسب له نعم الخالق أن يعتقد في نفسه بذلك مغالطا نفسه مع أنه إنما سخر ليكون سببا في وصولها إلى من أراد الله عز وجل أن تصله ، وقد يتمادى في غروره ، فيمنها على من أرادها له الخالق ، وهي ليس له ولا منه .

ولذلك على كل من جعله الله عز وجل سببا في إيصال نعمه إلى غيره أن يذكّر هذا الغير بخالقه المنعم الواجب شكره، وحمده، والثناء عليه ، وأن يتبرأ من نسبة الإنعام إليه كي تبرأ ذمته عند ربه جل وعلا . وقد يقول قائل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا يشكر الله من لا يشكر الناس " أو كما قال عليه الصلاة والسلام  ، وهذا لا يتعارض مع ما نحن بصدد بيانه، ذلك أن شكر من كان سببا في وصول نعم الله عز وجل ،لا يعني بحال من الأحوال أنه شريك لله تعالى في فضل الإنعام بل يشكر شكر من جعله الله تعالى سببا في حصوله ، ووصوله إلى المنعم عليهم به  ، وقد يكافأ كما أوصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو يدعى له ، وهو ملزم بإخلاص الشكر لله، وبالقول الحمد لله المنعم الذي سخر لي من مكنني من نعمه ، و هو سبحانه من جعل الناس يتخذ بعضهم بعضا سخريا .

ومن فساد إخلاص العبادة والطاعة وشكر نعم المنعم سبحانه وتعالى أيضا نسبة نعمه إلى الحظ مع الغفلة عن المنعم  عز وجل إما جهلا أو عن قصد وعمد مع أن ما يسمى حظا إنما هو نصيب قد كتبه الله تعالى ، وحدد له موعدا ، وطرقا وأسبابا لحصوله . والقول بالحظ كشريك مع الله تعالى في الإنعام سوء أدب مع الخالق سبحانه وتعالى .

اللهم إنا نبرأ إليك من شوائب تفسد إخلاصنا في عبادتك ، ونعوذ بك أن ننسب نعمك إلى غيرك من خلقه . اللهم إنك قد رضيت لنا الشكر ، وكرهت لنا الكفر ، فاجعلنا من الشاكرين . اللهم وتجاوز عنا كل شائبة شابت إخلاصنا في عبادتك وطاعته وشكر نعمك حصلت منا غفلة أو سهوا أو جهلا ، ونعوذ بك من أن تكون عن قصد وعمد منا  .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 992