في جماليات القرآن الكريم .. آفاق أرحب بحذف المعمول (2)

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) - الأعراف – 201

والآية الكريمة أنموذجية في تقديم آفاق مفتوحة، بحذف المعمول. ففي هذه الآية المعجزة الجميلة الدالة القصيرة، نجد أربعة مواضع حُذف فيها المعمول، وفتحت أمام عقولنا الآفاق لنتذكر ونتدبر، ونقرأ ونرتقي كما يقال لقارئ القرآن يوم القيامة..

إن الذين اتقوا...

وتسأل نفسك : ماذا اتقوا؟؟ وتجد المفعول محذوفا، والفعلَ مطلقا مفتوحا على آفاق الدلالة..

ولفظ التقوى بمشتقاته من أكثر الألفاظ دورانا في المعجم القرآني. وقد اعتبر "المتقون" منذ الآيات الأولى في سورة البقرة، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) علما على طبقة من المسلمين أو من المؤمنين، وظلت الإشارة إليهم، أو خطابهم يدور...

وفي الأكثر من السياقات في الكتاب العزيز، قُطع وصف التقوى عن متعلقه، وترك كما هو في هذه الآية مفتوحا، وكان في سياقات دالا وفي سياقات مستشرفا.

في نحو مائتي موضع ورد لفظ التقوى بمشتقاته في الكتاب العزيز، ولذا يمكن أن يعتبر هذا اللفظ بدلالاته الخاصة والعامة، من الألفاظ المفتاحية في الفهم الدلالي لآيات القرآن الكريم. وخلاصة ما يمكن أن نستخلص من معناه أو رسالته، أن المسلم المؤمن إنما يسير في حياته كلها على "حذر" كأنه ماش بأرض الشوك يحذر ما يرى.

وجاء الحديث عن التقوى في القرآن الكريم وصفاً (الْمُتَّقُون) أو (الْمُتَّقِين) وأمراً (اتَّقُوا)، وخبراً (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا..) وفي أكثر السياقات القرآنية كما سبق، قُطع لفظ التقوى بصيغه المتعددة عن متعلقه، فكما يقول المؤمنون ولا يقول في كل موضع "ب" كذا يتحدث عن التقوى ولا يعلقها "على مفعول"

ولكن النص على متعدد في متعلقات الاتقاء، يخبرنا أن الأفق دائما محسوم..

أكثر الحديث عن التقوى يدور حول الذين اتقوا (رَبَّهُمْ) ، وأكثر الأمر بالتقوى ينص (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) ، ولكن هذا لا يمنع أنه في مواضع يقول: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا) (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) ويعدد في متعلق التقوى أكثر في إشارة واضحة إلى تمييز الطيب والخبيث في حياة الناس (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ) من العقائد والشرائع والأخلاق والسلوكيات.

وحين وصف في صدر الآية التي نتحدث عنها في هذا المقام، (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا..).. ترك وصفهم مفتوحا طليقا، تقول : اتقوا ربهم، فنقول نعم. تقول اتقوا السيئات (وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) فنقول نعم. تقول اتقوا ما يكون من حساب وعقاب في اليوم الآخر، فنقول نعم . حذف "المعمول" ليترك لنا أن نحلّق في تصور حال الذين اتقوا طليقة مفتوحة على الجهات الثمانية، ليدعنا نحلق في جميع آفاق التقوى ومجاليها. وكلُّ آفاق التقوى ومعانيها متداخلة متكاملة مترتب بعضها على بعض...

إن الذين اتقوا... وتستشرف آفاق التفسير..

إذا مسهم طائف من الشيطان؟؟

ومرة أخرى بماذا مسهم الطائف أو الطيف الشيطاني على اختلاف القرآت؟؟ حذف المعمول، وترك الأفق مفتوحا..

في موضع آخر يقول القرآن الكريم: "( وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) وفيه أيضا (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) فالمس يكون بشيءـ بنُصب أو عذاب أو بضر، أو بغيرهما .. ولكن المعمول في الآية قد حذف، وترك الأفق مفتوحا مرة أخرى، ولا شيء يحذف في القرآن الكريم "اعتباطا"، كما يدعي في بعض المواقع النحويون..

(مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ) فرماهم بسهم من سهامه الظاهرة أو الخفية، بوسوسة أو بخوف أو بقلق أو بيأس أو بهم أو بغم أو بغضب أو بكلال أو باعتقاد باطل، أو بركون إلى ظالم، أو بتزيين معصية، أو بتزيين قعود عن فعل الخير، أو إشاعة الملل من الطَّرق على باب المكارم...

كل ذلك وأكثر منه مما أعاني وتعاني ونعاني منه، تفتحه لنا الآية في فهم "أفق المس الشيطاني" الذي قد يتلاعب بنا في غفلة أوفي لحظات الضعف، وهل الغفلة ولحظات الضعف إلا ثمرة من ثمرات هذا المس؟!

حذف المعمول ليس اعتباطا اختصارا كما يظن الذين يقيسون البيان الجمالي بالأشبار، بل حذفه ليعيننا أن ندرج مكان المعمول المحذوف صفحات وصفحات مما نجد ونحاذر من أفانين المس الشيطاني الذي يرانا الممسكُ بقياده هو وقبيله من حيث لا نراه..

وهكذا كان الحذف أوسعَ دلالة ، وأرفع أفقا من الإثبات، وهذا هو سر أسرار الإعجاز. أسلوب عجيب معجز إذا أثبت معجز بالحذف إذا حذف. فإذا حذف أضاف وأغنى...

إن الذين اتقوا..

إذا مسهم طائف من الشيطان..

 بكل صنوف المس وأشكاله وألوانه وخدعه وتشكلاته وتهيؤاته وسماديره .. بكلها ببعضها بأحدها..

تذكروا ..

ومرة ثالثة في هذه الآية الكريمة القصيرة..

تسأل: ماذا تذكروا؟؟!!

ويتركها رب العالمين لأهل الذكرى من عباده مفتوحة..

هكذا (تَذَكَّرُوا..)

كل واحد منهم يتذكر ما يذكره بربه بحاله بعهده بمكانه..

تذكرون سيدنا يوسف عليه السلام عندما (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) وكم أفاض المفسرون في الحديث عن تحديد (بُرْهَانَ رَبِّهِ) الذي رأه، والذي هو صورة من هذه الذكرى، البارقة من بوارق الخير، تلمع في عقل الإنسان أو في قلبه أو في نفسه فتعصمه. لكل واحد منا محطة للذكرى، وكأن أحدنا يكاد ينزلق بقشرة الموز وضعها الشيطان تحت قدمه "المس"، ثم فجأة يجد نفسه أمام ما يعتصم به فيستمسك..

لم يحدد لنا مولانا: ماذا تذكروا ؟؟ كذلك تركها مفتوحة وربما شخصية ذاتية، فكما يمتلك كل واحد منا مكامن ضعفه فإنه يمتلك مفاتح عصمته أيضا، يقول المفسرون عن سيدنا يوسف في بعض ما يقولون عن برهان ربه: إنه رأى وجه أبيه يعقوب عليهما السلام، ولعلك ترى وقد يبرق في فضاء أحدنا وقد مسه الشيطان باليأس والكلال وجه إخوة صدق له قضوا ومضوا فيستعصم..

(تَذَكَّرُوا.)...كذا بلا متعلق ولا تابع ، لنتذكر ..

ولتحدث المفاجأة مع إذا الفجائية..

(فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ..)

وتقول العرب أبصرته وبصرت به ويقول القرآن الكريم: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ..)

ولكنه هنا مرة رابعة يضعنا أمام الإبصار بلا متعلق..

(تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ..)

قادرون على الرؤية والفهم والتمييز والتماسك والاعتصام..

وعبر بقوله (مُبْصِرُونَ) عن استكمال حالة الوعي والإدراك والتمييز وامتلاك القدرة على التماسك القويم..

كانت الذكرى في قوله " تذكروا " تعبيرا عن الكابح الذي يعصم من السقوط والانزلاق في فضاء المس بتلافيفه المتعددة..

وكان الإبصار في قوله (مُبْصِرُونَ) تعبيرا عن التسامي عن منزلقات المس والقدرة على الانطلاق في الأفق الرشيد...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1006