( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون)

من المعلوم أن بني آدم ينشدون بطبعهم العزة ، لأن الله تعالى كر|ّمهم وفضّلهم على كثير ممن خلق تفضيلا ،  وهم يلتمسونها حيثما اعتقدوا أو ظنوا وجودها . والعزة عبارة  عن مُلك ، وعلو ، وسمو ، ومنعة ، وأنفة ، وقوة ، وشدة ، وغلبة .ولقد تكرر ذكر العزة في كتاب الله الذي بيّن مصدرها فهي من الله سبحانه وتعالى ، وقد اتصف بها من ضمن ما اتصف به من صفاته المثلى ، فهو العزيز ، ومن عزته تقتبس كل عزة مصداقا لقوله تعالى : (( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعزّ من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير )) ، ففي هذه الآية الكريمة دليل على أن مصدر العزة هو رب العزة جل جلاله ، وأنها عطاء منه ، وأنها نعمة يعطيها من يشاء ، ويمنعها عمن يشاء .

والناس في التماسهم العزة فريقان : فريق يهتدي إليها بتوفيق من الله عز وجل ، وفريق يخبط خبط عشواء في طلبها ، ولا يظفر في نهاية المطاف بشيء منها . ولقد نبه الله تعالى إلى الخطإ في التماسها عند غيره فقال جل شأنه: (( الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا )) ،ففي هذه الآية الكريمة، ما يؤكد أن مصدر العزة،  كل العزة هو الله سبحانه وتعالى ، وأن المؤمنين يلتمسون عزتهم منه ، وأن الكافرين لا عزة لهم ، بله تلتمس عندهم .

ولقد وقع زمن البعثة النبوية، أن فاخر بعض المنافقين بالعزة ، وهددوا المؤمنين  بإذلالهم من خلال إخراجهم من يثرب ، وقد سجل الوحي هذا الحدث ، حيث قال الله تعالى : (( يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون )) ، ففي هذه الآية استهدف المنافق عبد الله بن أبي بن سلول بقوله المحكي عنه المهاجرين ، وعلى رأ سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان يعتقد أنه عزيز بحكم انتمائه إلى يثرب ، وأن من هاجروا إليها ليست لهم عزة . وقد دل لفظ التفضيل " أعز " على أنه كان بغروره، يستعلي على المؤمنين ، ويعتبرهم أذلاء ، ويهدد بإخراجهم من يثرب، فجاءه الرد من عند رب العزة جل جلاله، حيث جعل العزة الحقيقية هي الصادرة عن عزته سبحانه ، وعزة  رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعزة المؤمنين ، واعتبر المنافق ابن سلول،  ومن على شاكلته من المنافقين  جهلة لا يعلمون حقيقة العزة . وقد بين لهم ذلك بالدليل الدامغ والمفحم، حين ذكر سبحانه وتعالى عزته أولا ، وهي عزة لا يمكن أن يجحدها إلا مكابر، ثم أعقبها بذكر عزة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبذكر عزة المؤمنين، بعضها معطوف على بعض، وبلام تفيد التوكيد إفحاما للمنافقين ، وتبكيتا لهم .و العاقل من الناس من يقتنع بهذا المنطق الإلهي، إذ لا يمكن أن يذل من يستجير بعزة الله عز وجل ، والجاهل من يجحد هذا المنطق مكابرة وعنادا .

ولا شك أن المنافق ابن سلول، كان يعتبر العزة  في استقبال  موطنه يثرب للمهاجرين ، وأن حرمانهم من البقاء فيها إذلال لهم ، فجاء الرد الإلهي عليه، بأنه جاهل لا يعرف حقيقة العزة ، وأنه في الحقيقة هو الذليل . وقصة إذلاله معروفة حيث هم المؤمنون بمنعه من دخول يثرب، بل هموا بقتله لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حال دون ذلك، إكراما لولده المؤمن الذي اقترح على رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يهدر دمه، لأنه لا يطيق أن يرى قاتل أبيه ، فكان الموقف الأسمى منه عليه الصلاة والسلام حيث قال له ولعمر بن الخطاب وقد هم هو الآخر بقتله : " دعه ،لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " .

ولما كانت العبرة بعموم لفظ القرآن الكريم ، وهو الرسالة الخاتمة  للعالمين إلى يوم الدين،  لا بخصوص أسباب نزوله ، فإن مثل سبب نزول قوله تعالى (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ))، يشمل حكمها كل المنافقين إلى قيام الساعة ، ذلك أنه لا يخلو زمن منهم ، ولا ينقطع منهم الكيد للمؤمنين ، والتحالف مع الكافرين ضدهم ، ولا تنقطع منهم المفاخرة  عليهم بالعزة ، ووصفهم بالذلة ، والسعي إلى إذلالهم بشتى الطرق والوسائل .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بمصدر العزة الحقيقية، التي لا تلتمس إلا من رب العزة جل جلاله ، ومن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن لزوم جماعة المؤمنين . وكل التماس للعزة في غير ما ذكره الله تعالى، هو جهل بحقيقة العزة كجهل المنافقين الذين ادعوها زمن البعثة النبويةلأنفسهم باطلا ، فأذلهم الله تعالى . وفي هذا الحديث أيضا، تنبيه من ذهاب تفكير المؤمنين إلى التماس العزة عند من نهى الله تعالى ابتغاءها عندهم من الكافرين ، وممن يوالونهم من المنافقين . ويجدر بالمؤمنين ألا ينخدعوا بهؤلاء ، أويحسنون الظن بهم فيما يدعون ويزعمون من نصح يفضي إلى عزة كاذبة  متوهمة ،خصوصا في هذا الظرف بالذات حيث كثر نيل المنافقين من كرام المؤمنين ، ومن عامتهم ، وهم يسخرون منهم ، وينفون عنهم العلم ، ويرون أنهم أفضل  وأعز منهم بما  يقتبسونه من العلمانية الضالة من قيم فاسدة ومنحطة ومتهتكة، تستهدف هوية المؤمنين الدينية ، وهي تريد الإجهاز على عزتهم وكرامتهم من أجل إذلالهم، وقد أراد لهم رب العزة جل جلاله عزة الإيمان ، والاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم من خلال التمسك بهدي كتابه، وبهدي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، وقد أمروا أن يعضوا عليها بالنواجذ .

ولا يغرن أحد من المؤمنين ما يسوقه أذناب العلمانية في بلاد المسلمين من أسباب الذل والهوان ، وقد أعزهم رب العزة جل جلاله بالإسلام وبالإيمان ، ومن التمس العزة في غيرهما أذله سبحانه وتعالى ذلا لا عزة معه  .

اللهم إنا نحمدك على نعمة الإسلام والإيمان ، وقد جعلتنا أعزاء بهما عزة لا ترام، ولا نضام ونحن عليهما حتى نلقاك وأنت راض عنا ، ونحن راضون عنك  . اللهم ألحقنا بمن كتبت لهم عزتك . اللهم عليك بمن يريدون إذلال عبادك المؤمنين ، بتعطيل شرعك ، وألحقهم بمن أذللتهم من المتطاولين على عزتك ، فإنهم لا يعجزونك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . 

وسوم: العدد 1043