الوقفُ على القرآن

د. عبد الحكيم الأنيس

د. عبد الحكيم الأنيس

(ألقيت هذه المحاضرة في مؤتمر"أثر الوقف الإسلامي في النهضة العلمية" في جامعة الشارقة 9-10/5/2011م)

ذهبَ المال، وبقيت الأعمال شواهدَ خالدة على أناسٍ أنعم الله عليهم بالتوفيق, فاستعملهم في طاعته, واختارهم أمناء على وحيه, وجعلهم مِن أسباب حفظه.

نَعَم إنّهم أناس أثبتوا أنهم أهلُ الله إذ كانوا أهلاً للقرآن

ألم يَبذلوا له أموالَهم والمالُ شقيقُ الروح؟

ألم يَعملوا على حفظ مبانيه ونشر معانيه بكل ما أتوا مِن قوة مادية ومعنوية؟ بلى

وتعالوا نطل إطلالةً عاجلةً مِن إحدى نوافذ الوقف على تاريخ مشرق, وصفحات تتلألأ, وساعاتٍ سما فيها الإنسانُ على كل ما في الدنيا فخرج عن ماله لله، فدانتْ لذكره الدنيا ما بقيت.

لقد أيقنتْ الأمة أنَّ مجد الدنيا وعز الآخرة في القرآن وعملتْ بهذا اليقين.

وعلمتْ أن سعادة الدنيا ونجاة الآخرة في هذا القرآن وعملتْ بهذا العلم.

وتحت هذين الشعارين: "حفظ المباني ونشر المعاني" بُذلت أموال، ونَهضت أعمالٌ تستعصي على الإحصاء.

وهذه المساجد الكبرى فاسألوها.

وهذه دُور القرآن الخاصة فاستنطقوها.

وهذه المدارس العلمية العامة التي كان فيها قاعات للقرآن فاستشهدوها.

وهذه تُرَبُ الراحلين الكبار فاستفهموها.

ولأبدأ من بلدي (حلب) فهذا مسجدها الأموي كان يُقرَّر مِن وقفه أرزاق لإقراء القرآن من علمائها, أو من الوافدين، والأسماءُ كثيرة كثيرة، ويكفي أنْ نتخيل عالماً من إشبيلية يعلِّم القرآن في حلب، ويتقاضى راتباً مِن وقف جامعها.

وهذه دار القرآن الرشائية - وهي أقدمُ دار للقرآن في دمشق- أنشأها الإمامُ الذي انتهت إليه الرئاسة في قراءة عبد الله بن عامر: أبو الحسن رشأ بن نظيف في حدود الأربع مئة. وهي واحدة من مئات الدور التي تفتَّحت زهوراً تجلو الحزن في حدائق عالم الإسلام.

وقد أصبح هذا لدى الأمة شغلاً شاغلاً, فهذا ابنُ الجزري يُنشئ داراً للقرآن في دمشق, ثم يَكتب اللهُ أنْ يعيش في شيراز فينشئ داراً للقرآن هناك، ثم يُدفن فيها، فسلام الله على ذلك الدمشقي الشيرازي !

أمّا المدارسُ العامة فحسبنا أن نتوقف عند المدارس الثماني التي أنشأها الوزيرُ الكبيرُ العالمُ العادلُ نظامُ الملك وعُرفت بالنظاميات في عددٍ من البلاد, منها المدرسة النظامية في (بغداد), وهي وقفٌ على الشافعية أصلاً وفرعاً, وشرَط كذلك أن يكون فيها مقرئٌ يقرئ القرآن.

ومن أجمل مدارس الدنيا المستنصرية على ضفاف دجلة التي كان فيها دارٌ للقرآن تعلِّم ثلاثين يتيماً كتابَ ربهم.

ثم نعرِّج على الفاضلية التي أنشأها القاضي الفاضل في (القاهرة) ووقفها على الشافعية والمالكية, وجعل فيها قاعة لإقراء القرآن, أقرأ فيها الإمامُ الأجلُّ الشاطبي.

وللتُرب بوابةِ العالم الآخر حديثٌ طويل, فقد شهدتْ تلك الترَبُ أصواتَ القراء معلِّمين ومتعلّمين قروناً طويلاً, وكأنَّ المسلمَ يريد ألا ينفك عن كتاب الله في دنياه وأخراه، بعد أنْ آمن أنه النور والهداية والعروة الوثقى.

وربما أتاكم حديثُ الوزير أبي عبد الله محمد بن محمد بن علي المصري المعروف بالصاحب تاج الدين ابن حَنا, فقد كان في تربته التي دُفن فيها مكتب للأيتام يتعلمون فيه القرآن.

قال الصفدي: ومن أحسن حركةٍ اعتمدها ما حكاه لي القاضي شهابُ الدين ابن فضل الله قال: اجتزتُ بتربته فرأيتُ في داخلها مكتباً للأيتام وهم يكتبون القرآن في ألواحهم, فإذا أرادوا مسحها غسلوا الألواح وسكبوا ذلك على قبره.

فسألتُ عن ذلك فقيل لي: هكذا شَرَط في هذا الوقف. وهذا قصدٌ حسن وعقيدة صحيحة.

وما أندى أَنْ يبلَّ الماءُ المعطَّرُ بورد القرآن ثرى الإنسان !

وإذا جئنا إلى الوقف على نشر معاني القرآن رأينا له صوراً رائعة، ومشاهد معجبة, تحملنا على أنْ نعتزَّ بها، وتحفزنا على الاقتداء بأصحابها.

يقفُ الواقفون اليوم على ما يُسمَّى كراسي علمية في الجامعات, والواقع أنَّ هذه فكرةٌ إسلاميةٌ قديمةٌ. فهذا السلطان المنصور قلاوون الصالحي يُنشئ درساً للتفسير في قبته, وكان من ثمار هذا الوقف ظهورُ تفسيرٍ كبيرٍ أصبح من المراجع المهمة, ذلك هو (البحر المحيط) لأبي حيان الأندلسي, وقد تحدَّث أبو حيان عن هذا في صدر تفسيره المذكور فقال:

"مازال يختلجُ في ذكري, ويعتلجُ في فكري, أني إذا بلغتُ الأمدَ الذي يتغضَّنُ فيه الأديم, ويتنغصُ برؤيتي النديم, وهو العقد الذي يحلُّ عرى الشباب, المقولُ فيه: إذا بَلَغَ الرجلُ الستينَ فإياه وإيا الشواب, ألوذُ بجناب الرحمن, وأقتصرُ على النظر في تفسير القرآن , فأتاح اللهُ لي ذلك قبل بلوغ ذلك العَقْد, وبلّغني ما كنتُ أروم من ذلك القصد, وذلك بانتصابي مدرِّساً في علم التفسير في قبة السلطان المنصور قدَّس الله مرقده, وبلَّ بمزن الرحمة معهده, وذلك في دولة ولده السلطان القاهر, الملك الناصر, وكان ذلك في أواخر سنة عشر وسبع مئة, وهي أوائل سنة سبع وخمسين من عمري, فعكفتُ على تصنيف هذا الكتاب, وانتخاب الصفو واللباب, أُجيل الفكرَ فيما وَضَعَ الناسُ في تصانيفهم, وأُنعمُ النظر فيما اقترحوه من تآليفهم, فألخصُ مطولها, وأحلُّ مشكلَها, وأقيَد مطلَقها, وأفتحُ مغلَقها, وأجمع مبدَّدَها, وأخلِّص مُنْقَدَها..."

وممن وَلِي كرسيَ التفسير في هذه القبة الحافظُ ابنُ حجر العسقلاني.

وقبل مدةٍ نزلتُ القاهرة ودخلتُ هذه القبة التي ما تزال شاخصة تشمخ بالأبهة والجلال والعظمة والسمو، ووقفتُ خاشعاً أحاول أنْ أسمع صوت أبي حيان وابن حجر وغيرهما من العلماء وهم يمتعون آذان الدنيا بصوت الحق والهدى والجمال.

وفي عاصمةٍ أخرى من عالم الإسلام كان ابنُ كثير يُلقي من على كرسي التفسير في الجامع الأموي بدمشق تفسيرَه الخالد.

ومن يزر (اسطنبول) فلا ينس أن يزور أيا صوفيا ويستّذكر المجلسَ الحافلَ الذي ختم فيه العلامة النكساري تفسيرَ القرآن وقال: أيها الناس إني سألتُ الله تعالى أنْ يمهلني إلى ختم تفسير القرآن العظيم, ولعل الله تعالى يختمني عقيب ذلك. فدعا الله سبحانه وتعالى بالختم على الخير والإيمان فأمّن الناسُ لدعائه, ثم أتى بيته ومرض وتوفي.

وكان ممن حضر درسه في أيا صوفيا: السلطان بايزيد خان, حضر لاستماع تفسيره.

ومِنْ نشر معاني القرآن وقفُ تفاسيره, وهذا بابٌ واسع نرى من خلاله جهوداً جبارة في تداول الكتب، والحرص عليها، وتعميم الانتفاع بها، وسرعة سفرها من المشرق إلى المغرب، والمغرب إلى المشرق.

ولا يفوتني أخيراً أَنْ أُشير إلى وقف المصحف ذاتِهِ, وهذا كثيرٌ لا يأتي على جمعه الجامعون, ولكن مِن صوره العظيمة أنْ يقومَ سلطانٌ بكتابة المصحف بخطه، ويقفه على المساجد الكبرى, كما فعل السلطان علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق المريني ملك المغرب إذ كتب مصحفاً في ثلاثين جزءاً ووقفه على المسجد الأقصى.

وكما فعل أورنك زيب عالم كير ملك الهند إِذ كتب مصحفاً ووقفه على المسجد النبوي.

تصعبُ الإفاضة في رصد المشروعات التي تمَّت في الوقف على القرآن وهي مشروعات كبرى، ينافس فيها اللاحقُ السابقَ، بحيث اشتعلتْ بلاد الإسلام بالعلم والتعليم, وكان كلما وُقف درهمٌ ارتفعتْ راية، وبُلِّغتْ آية، وكُتبتْ صفحة جديدة في كتاب الحضارة.

أوصي بتعميم الوقف على الكراسي القرآنية في الجوامع، كما في الجامعات.