إنه ينادينا (4)

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

للمعركة مع العدو إعدادان لا بدّ منهما :

إعداد معنويّ: وهو الإعداد النفسي الأهم – فكم من جيش لديه عتاد كثير وأسلحة قاطعة لم يستفد منها شيئاً لأن الروح القتالية فيه ضعيفة ، وكم من مقاتلين تحلّوا بالمعنوية العالية كانوا أقل عدداً وعدة  من عدوهم اقتحموا معاقلهم فأزالوهم عنها أوْ قضَوا عليهم ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله .) .

وإعداد مادي : لا بدّ منه ،يرهب العدوّ الذي يحسب للعدد والعدّة الحسابَ ويخاف منه، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لمن توكل على الله وضيّع ناقته حين تركها دون عقال ( اعقلها وتوكّلْ).

إن للإعداد المعنوي في سورة الأنفال خمسة أمور لا بد للنصر منها:

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً :

فَاثْبُتُوا

وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)

وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ

وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ

وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)

فالثبات : عنوان الإقدام  والإصرار على الوصول إلى الهدف ، إن عدوّك يقارعك ويصاولك ويعمل جادّاً على قهرك ودحرك ، والثبات شجاعة وصمود وكسرٌ لمعنويات العدوّ وتيئيس له ، فإن فعلت ذلك وغالبتَه ضعفت حِدّتُه أولاً ثم بدأ ينهار، فعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله فإن صخبوا وصاحوا فعليكم بالصمت "

وعن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو حتى إذا مالت الشمس قام فيهم فقال " يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال " اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " إن التوجه إلى الله  تعالى في كل الأحوال وخاصة في ميدان المعركة دليل على أن المسلم يعتقد أن النصر من عند الله ، وأن اللجوء إليه والتذلل له سبحانه رجاءٌ وأمل يستجلب النصر ، فبيده سبحانه مقاليد الأمور .

وذكْرُ الله تعالى يرفع المعنويات ويدفعك إلى حصن حصين وملاذ أمين، والتكبير والتهليل والتسبيح شعار المؤمن ، رُوي عن زيد بن أرقم مرفوعاً " إن الله يحب الصمت عند ثلاث عند تلاوة القرآن وعند الزحف وعند الجنازة " الصمتَ إلا عن ذكر الله تعالى والدعاء إليه أن يكون معك وينصرك على عدوّه وعدوّك . يؤكد هذا الحديث المرفوع " إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجزٌ قرنه" لا يشغله المقارعة والحرب عن ذكر الله . روى ابن كثير عن عطاء قوله (قال وجب الإنصاتُ وذكر الله عند الزحف) فاجتمع الثبات والذكرُ عند قتال الأعداء والمبارزة ، فلا فرار ولا جُبن بل استعانة بالله وتوكل عليه ولجوء إلى قوته سبحانه.فالفلاحُ والنجاحُ والغلبة بذلك حصراً " لعلكم تُفلِحونَ" .

وذكر الله يستدعي طاعته وطاعة رسوله ، فإنك لا تذكر في ميدان المعركة إلا من تحبه وترجو نواله ،

                             فيا رب اكشف البلوى وسلّمْ=== فمنك النصر والنهج القويمُ

                             وأنت الغايةُ القصوى إلهي === ومن قصد الكريمَ فلا يريمُ

        والحب عنوان الطاعة ، وبالطاعة تبرهن على صدق الحب والتوجه، وهي – الطاعةُ-  في وقت السلم عون على نيل النصر في زمن الحرب والشدّة .

 

إن صدق التوجه إلى الله يجعلك تحب إخوانك ، فتعاملهم برفق ويسر ، فتعفو عن زلاتهم ، وتصوّب أخطاءَهم وتتناسى هفواتهم، وتقف معهم صفاً واحداً في فعل الخير ودفع الشرّ، لا تستأثر بشيء دونهم ولا تتعالى عليهم ، بل تستشيرهم وتحاورهم وتنزل على رأيهم إن كان صائباً ، فإذا أنتم صف واحد قوي يصعب على الآخرين اختراقه ، ويقف سداً منيعاً أمام أمواج الخلاف والتواءات المشاحنة والبغضاء . والقوة في الوحدة ، والضعف في التفرق. وما نال العدو منّا وما يزال إلا بالأنانية والتنازع وتشتت الغايات وحب الذات.

إن الصبر مفتاح الثبات – أول هذه السمات التي ذكرناها، وقد مدح الله تعالى الصبر في مواطن كثيرة في القرآن الكريم وجعله سبب معيّته، وحضنا عليه ديننا العظيم ، ونبهنا إليه المربي الأول – رسولنا الكريم – صلى الله عليه وسلم. ولا يكون الظفر إلا مع الصبر ، وقد قيل لعنترة ما الذي أخاف منك الأقران ؟ قال : الصبر على مقارعتهم.

وعدوّنا في محنتنا هذه يراهن على طول الزمن وصدع الوهن. والمصابرةُ دليل على الإيمان بقضيتنا ، ولا بد للشهد من إبر النحل .

لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف فأنزل الله " ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط " . إن الأمان ورضا المولى سبحانه في الإخلاص والبعد عن الرياء والمفاخرة والتكبر. ذاك أبو جهل لما قيل له إن العير قد نجت فارجعوا قال (والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر فننحر الجُزُر ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا تزال تهابنا أبداً) فإذا بهم يردون  الحِمام ويغيبون في قليب بدر أذلاء أشقياء في عذاب لا ينفك عنهم فجازاهم عليه شر الجزاء، وكانوا عبرة لمن تحدثه نفسه بالكبر والتعاظم على الحق ومجافاته.

أما الإعدادُ المادّيّ فنراه واضحاً وضوح الشمس في قوله تعالى " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)

فلا بدّ من الإعداد المادي للمعركة :

( قدر المستطاع) والاستطاعة أن يبذل المرء جهده ولو كان هذا الجهد قليلاً وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عقبة بن عامر " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي " رواه مسلم: إن الدربة على السلاح وصنعه والاعتناء به وتطويره وتقوية الجسم على تحمّل المشقة  هو الإعداد ،

وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الخيل ثلاثة : ففرس للرحمن وفرس للشيطان وفرس للإنسان فأما فرس الرحمن فالذي يربط في سبيل الله فعلفه وروثه وبوله - وذكر ما شاء الله - وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليها ،وأما فرس الإنسان فالفرس يربطها الإنسان يلتمس بطنها فهي له ستر من الفقر " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ،الأجر والمغنم "

إن القوة والإعداد يرفع معنويات المجاهدين ، ويخيف أعداءهم ، ولن يحسب العدو لنا حساباً ولن يخاف منا ويرتدع عن الإساءة إلينا إلا إذا رأى منا قوة وعلم أن مكره عائد عليه وعلى مَن يؤيده ويشد عضده ، ويعجبني قولُ عنترة ( أشد على الضعيف الجبان فأضربه الضربة ينخلع لها قلب القوي ، فألتفت إليه فأقتله) ، إن القوة ترهب العدوّ الظاهر والعدوّ المداجي سواء بسواء.

أما قوله تعالى " وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون " فهو الثواب الكامل الذي لا ينقص بل يُضاعف أضعافاً كثيرة لما للجهاد من ثواب عظيم ، ألم يقل الله تعالى في كثرة الثواب " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ".

كرامة أمتنا في جهادها بالنفس والمال ، وثورتنا تطلب منا البرهان والدليل على صدق توجهنا فيها ،وشعبنا اليوم على المحك ، والنصر غال لا بد من دفع ثمنه لنكون أهله وصانعيه ، ولنلقى من ربنا الخير والفضل العميم .

إنه ينادينا .... فهل سمعنا؟