مرافقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة

د. عبد الرحمن الحطيبات

مرافقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

في الجنة

د. عبد الرحمن الحطيبات

مشرف اللغة العربية

مدارس الجامعة الملك فهد للبترول –  الظهران

[email protected]

 الحمد لله الذي جعل جنات الفردوس لعباده المؤمنين نزلا، ونوَّع لهم الأعمال الصالحة ليتخذوا منها إلى تلك الجنات سبلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي شمــَّر لِلَّحَاقِ بالرفيق الأعلى والوصول إلى جنات المأوى ولم يتخذ سواها شغلا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تتابع القطر والندى وسلم تسليما. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل - وهو الذي لا ينطق عن الهوى-: "كُلُّ أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى"، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: "مَن أطاعَني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى".

 خلق الله الجنة وجعلها درجات، وجعل بين الدرجة والتي تليها كما بين السماء والأرض, فعن ‏ ‏عبادة بن الصامت ‏ أن رسول الله ‏‏ -صلى الله عليه وسلم- ‏قال: "‏الْجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ -وَقَالَ عَفَّانُ: كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ- وَالْفِرْدَوْسُ أَعْلَاهَا دَرَجَةً، وَمِنْهَا تَخْرُجُ الْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ، وَالْعَرْشُ مِنْ فَوْقِهَا، وَ"إِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ" رواه أحمد. وفي الحديث الذي رواه أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ، وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ، أَتَتْ النَّبِيَّ فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ؟ وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ، إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى". وعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدريَّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب؛ لتفاضل ما بينهم"، قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟! قال: "بلى، والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" رواه البخاري.

 إن الفردوس هو أعلى درجات الجنة، وهو تحت عرش الرحمن -عز وجل-، ومنه تخرج أنهار الجنة الأربعة، وأعلى مقام هو مقام الوسيلة، وهو مقام لا ينبغي إلا لعبد من عباد الله؛ ثم تليها غرفُ أهلِ عليين، وهي قصور متعددة الأدوار، من الدر والجوهر، تجري من تحتها الأنهار، وهي منازل أصحاب الهمم العالية من الشهداء والصابرين من أهل البلاء والأسقام، والمتحابين في الله. ثم باقي أهلِ الدرجات، وأدناهم منزلةً مَن كان مُلْكُه مثلَ عَشَرَة أمثالِ أغنى ملوك الدنيا.

 وسأضرب لكم مثلين لأصحاب تلك الهمم العالية التي لا ترضى بالدون ولا ترضى إلا أن تكون مع رسول الله رفقاء له في الجنة : المثل الأول: الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، روى أن رسول الله دخل الْمَسْجِدَ وَهُوَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وهو يُصَلِّي، وَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ النِّسَاءَ، فَانْتَهَى إِلَى رَأْسِ الْمِائَةِ، فَجَعَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَدْعُو وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "اسْأَلْ تُعْطَهْ! اسْأَلْ تُعْطَهْ!"، ثُمَّ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ"، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ لِيُبَشِّرَهُ وَقَالَ لَهُ: مَا سَأَلْتَ اللَّهَ الْبَارِحَةَ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لَا يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ.

والمثل الثاني: الصحابي الجليل ربيعة بن كعب الأسلمي، وكان ربيعة من فقراء الصحابة، و من أهل الصُّفَّة، وكان ربيعة ملازمًا لخدمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يبيت عند باب بيته لأداء خدمته، فيأتيه بما يطلب من ماءٍ للوضوء وغير ذلك، وبقي على هذه الحالة حتى انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى. أراد النبي يومًا أن يكرمه بما يفرحه ويخفف عنه فقره، فقال لربيعة: "سَلْ"، أي: اطلب ما تحتاجه وتتمناه نفسك، ولعل أول ما يتمناه الفقير المعدم أن يرزق مالًا يتمتع به، أو بيتًا يسكنه، وهو مطلب لا عيب فيه بالنسبة لفقير محتاج، لكنَّ ربيعةَ كانت همته أعلى من ذلك كله، قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، فقَالَ النبي: "أَوَ غَيْرَ ذَلِك؟"، قال ربيعة: هُوَ ذَاكَ. فقَالَ له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُود". أسأل الله -جل وعلا- أن يرزقنا إيمانا صادقا يباشر قلوبنا لا يرتد، وعملا صالحا خالصًا لا يُرد، ونعيما حلالًا لا ينفد، ومرافقة نبينا في أعلى جنة الخلد.

وكَثْرَةِ السُّجُود لله رب العالمين بأداء الصلوات المكتوبة من الأعمال الجليلة التي تكون سببا لدخول الجنة بعد رحمة الله تعالى، وبها تُنال مرافقة الأنبياء والصالحين وأفضلهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم ومن تلك الأعمال, والإكثار من النوافل, كما بين ذلك النبي لربيعة بن كعب الأسلمي، وعن مَعْدَان بْن أَبي طَلْحَةَ الْيَعْمرِي قَالَ: لَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْخِلُنِي اللَّهُ بِهِ الْجَنَّةَ. أَوْ قَالَ: قُلْتُ: بِأَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: سَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: "عَلَيْكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ لِلَّهِ؛ فَإِنَّكَ لاَ تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلاَّ رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْكَ بِهَا خَطِيئَةً".

 ومن أسباب دخول الجنة ومرافقة الأنبياء طاعة الله تعالى، والكف عن محارمه، قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَبَى"، قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: "مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى" رواه أحمد.

ومنها: حسن الخلق، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون"، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون؛ فما المتفيهقون؟ قال: "المتكبرون" رواه الترمذي.

وسئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: "تقوى الله، وحُسن الخلق".

ومما يعين على دخول الجنة محبةُ الله -عز وجل-، ومحبةُ رسوله -صلى الله عليه وسلم-، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟" قَالَ: حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: "فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِي: "فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ"، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ.

 وعلامة صدق المحبة لله -عز وجل- وللنبي -صلى الله عليه وسلم- طاعةُ الله وطاعةُ رسوله واتباعه؛ ولهذا رتب على اتباعِه وطاعتِه مرافقتَه في الجنة، قال الله -عز وجل-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) [النساء:69]، قال ابن كثير: "أي: من عمل بما أمره الله به ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله -عز وجل- يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء، ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين، وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم".

عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة ) الترمذي )
عباد الله: ومن الأعمال الجليلة التي تقرب من رسول الله في الجنة: كفالة اليتيم، ففي صحيح البخاري من حديث سَهْل بْن سَعْدٍ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا"، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئا. قال ابن بطال: "حقٌ على كل مسلم يسمع هذا الحديث أن يرغب في العمل به؛ ليكون في الجنة رفيقًا للنبي ولجماعة النبيين والمرسلين، ولا منزلة عند الله في الآخرة أفضل من مرافقة الأنبياء".

ومن الأعمال الجليلة رعاية البنات، والقيام عليهن، ففي صحيح مسلم، من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ [وَضمَّ أَصَابِعَهُ]".

تلك بعض الأعمال الجليلة التي يتحقق بها القرب من النبي في الجنة، كما أن هناك أعمالًا أخرى عديدة يحصل بها دخول الجنة، وأعمالًا أخرى يكفر الله بها الذنوب، وهذا من سعة فضل الله ورحمته بعباده.

فالمؤمن الذي حقق الإيمان، وأدى الواجبات، واجتنب الكبائر، وعمل بما تيسر له من هذه الأعمال، يُرْجَى له أن يكون مرافقًا للنبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنة.

نسأل الله الهداية والتوفيق والسداد والإعانة، إنه جواد كريم.