"يَتْلُو عَلَيْكمْ آيَاتِنا"

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ

"يَتْلُو عَلَيْكمْ آيَاتِنا"

د. لؤي عبد الباقي

[email protected]

محاضرة اليوم هي تتمة لموضوع المحاضرة السابقة (دعوة إلى القراءة)، التي تحدثت فيها حول المنهج النبوي في القراءة. وكنت قد بينت أسس هذا المنهج من خلال تسليط الضوء على تجربة النبي (صلى الله عليه وسلم) مع التوجيه الإلهي في أول وحي نزل عليه متمثلا في قوله تعالى: "اقرأ"، ومتجسدا في طريقة استجابته (صلى الله عليه وسلم) لهذه الدعوة الربانية إلى القراءة، وقد تجلت معالم المنهج النبوي (في القراءة) في أبعاده الثلاثة الخالية من توجيه أي جهد من قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) نحو تعلم القراءة والكتابة. تلخصت هذه الأبعاد الثلاثة بما يلي: فهم النص-الخطاب؛ فهم النفس؛ وفهم نطاق الخطاب أو الواقع المتعلق بالخطاب..

اليوم أيها الأخوة، ننتقل إلى مفهوم التلاوة، وهو وجه آخر من وجوه البيان الإلهي يتعلق بدور النبي (صلى الله عليه وسلم) كقارئ يتلو القرآن وأمي في نفس الوقت؛ قارئ حكيم وفق مفهوم القراءة بأبعادها الثلاثة أعلاه، وأمي وفق مفهوم القراءة السطحي المنتشر في واقع المسلمين اليوم؛ وهو فك رموز الأحرف المكتوبة دون إعارة انتباه حقيقي لجوهر النص المقروء.

ولكن قبل أن أبدأ دعوني أشير إلى أمر هام كمدخل إلى الموضوع. الكثير منا عندما يقرأ القرآن، أو عندما يستمع في كثير من الأحيان إلى تلاوة القرآن، يذهب بتفكيره إلى عوالم مثالية عليا، روحية سامية، فيسبح بخياله بعيدا عن الواقع الكئيب، يستمتع بجمال القرآن، وبحسن التلاوة وروعة البيان، ينتقل إلى عوالم أخرى نقية زكية، ويتمنى لو أنه لا يعود إلى هذا العالم الملوث الفاسد الذي يعكر العقل والقلب بعد الصفاء.. ولكنه سرعان ما يجد نفسه في غمرة الحياة مرة أخرى يتلطخ في لوثاتها ويخوض في ظلماتها كما لو أن النور القرآني لم يدخل قلبه قط..

لماذا أيها الأخوة؟ ما تفسير هذا التناقض بين المشاعر والواقع؟

التفسير واضح أيها الأخوة، فأحدنا اليوم حتى لو فهم النص عندما يقرأ، فإن فهمه لدوره وعلاقته بالنص تبقى ضبابية وغائمة، ولو فهم نفسه ودوره جهل الواقع الذي يعيش فيه والعالم الذي يتعامل معه عندما يحاول إنزال النص على الواقع. والمشكلة الكبرى التي يولجهها المسلمون اليوم، في أغلب الأحيان، هي في فهم الواقع والعالم وتعقيداته.. نحن نعيش اليوم في واقع بالغ التعقيد، مع ذلك نتعامل معه بسذاجة وثقة عمياء وكأننا نعلم كل دهاليزه ومتاهاته!

أيها الأخوة الأعزاء:

دعوني أضرب لكم مثالا يقرب ما أقوله إلى أفهام الجميع:

لو أن رجلا منكم لديه خارطة تدل على كنز ثمين، وهو يعلم أنه لو وصل إلى هذا الكنز لتحقق له كل ما يصبو إليه من حاجات ورغبات وسعادة ونجاح..

ماذا عليه أن يفعل حتى يصل إلى هذا الكنز؟

ما هي الاحتياجات والوسائل والأدوات التي ستساعده في الوصول إلى هذا الكنز العظيم؟

أولا: لا شك أنه يحتاج إلى أن يعرف كيف يقرأ الخارطة ويفك رموزها. ولكن هل هذا يكفي لينجح في طلبه؟ هل النجاح في القراءة وفك الرموز كافيا للوصول إلى نهاية الطريق؟ بالتأكيد لا.

المرحلة الثانية، والتي لا تقل عن الأولى أهمية، هي أن يتعرف على تضاريس الطريق الذي عليه أن يسلكه.

إذا كان هناك بحر أو نهر عليه أن يجتازه، فالأمر يتطلب وسائل معينة..وإذا كان هناك جبال شاهقة وتلال وعرة وأودية منخفضة، يحتاج إلى وسائل مختلفة..وإذا كان الكنز في مكان ما في وسط صحراء قاحلة أو مدينة كبيرة مأهولة، سيحتاج إلى وسائل مختلفة...

لنفترض أنه أدرك هذين الجانبين واستعد لهما...فهل يكفي للوصول إلى الهدف؟

لا يا أيها الأخوة! هناك شيء آخر!.. إذ عليه أن يحدد موقعه حتى يتمكن من الوصول إلى هدفه وبغيته..

اليوم، في عصرنا هذا، المسلم الذي يقرأ القرآن ويحاول الالتزام بتعاليمه نراه، في غالب الأحيان، كرجل يحمل خارطة لا يعرف أن يحدد مكانه أو يجهل الواقع وتضاريس الطريق...

تعالوا معي الآن نبحر في بعض آيات الذكر الحكيم، التي تسير بنا ضمن سياق هذا المفهوم الذي نتحدث عنه.

يقول المولى عز وجل في سورة البقرة: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴿١٥١﴾.

ويتكرر هذا التعبير أيضا بشكل مشابه في سورة آل عمران: ﴿آية ١٦٤﴾ وسورة الجمعة: ﴿آية ٢﴾.

كما ذكرنا آنفا، الرسول (صلى الله عليه وسلم)، لم يتعلم القراءة، حتى بعد بدء النبوة ونزول (اقرأ). إذن لو وقفنا هنا على مفهوم التلاوة، تتبادر الأسئلة التالية:

كيف كان النبي (صلى الله عليه وسلم) يتلو الآيات ويزكي أصحابه؟

وكيف كان يعلم الكتاب والحكمة؟ وما الفرق بين الكتاب والحكمة؟

 لا شك أن مفهوم التلاوة يفيد معنى القراءة. ولكن مفهوم القراءة أشمل من حيث المدلول الشكلي، فأنت عندما تقرأ، فربما تكون قراءتك صامتة في نفسك، أو بصوت مرتفع على السواء، أما بالنسبة للتلاوة، فلا بد أن تكون بصوت مسموع، وخاصة عندما تكون التلاوة على الغير، كما في الآية (يَتْلُو عَلَيْكُمْ). هذا من حيث الشكل، أما من حيث الجوهر والمضمون، فإن التلاوة لا شك أنها تتفق من القراءة في المعنى بحيث تشمل أيضا الأبعاد الثلاثة المتعلقة بمفهوم "اقرأ".

يبين الإمام ابن كثير في تفسيره الشهير معنى التلاوة كالتالي (بعد الإيجاز الشديد):

(اﺧﺘﻠ أهل اﻟﺘﺄويل ﻓﻲ ﺗﺄويل ﻗله ﻋ وﺟ: {يتلونه ﺗﻼوته}... ﻋ اﺑ ﻋﺒﺎس: يتبعونه ﺣ اﺗﺒﺎعه...وﻋ اﺑ ﻋﺒﺎس [أيضا]: يحلون ﺣﻼله ويحرﻣن ﺣامه وﻻ يحرﻓن... وعن ﻋﺒ ﷲ ﺑ ﻣﺴﻌد: واﻟي ﻧﻔﺴﻲ بيده إن ﺣ ﺗﻼوته أن يحل ﺣﻼله ويحرم ﺣامه، ويقرأه ﻛﻤﺎ أﻧله اﷲ، وﻻ يحرف اﻟﻜﻠاضعه، وﻻ يتأول منه شيئا على غير تأويله...).

لو تأملنا في جميع هذه التفسيرات، هل يمكن أن تكون التلاوة بدون فهم؟

فالتلاوة الحق إذن، والرسول (صلى الله عليه وسلم) قد تلاه حق تلاوته بلا أدنى شك، لا يمكن أن تكون بلا فهم واضح وإدراك عميق لأبعاد التص الذي يتلى ولأهدافه وما يترتب عليه من أحكام والتزامات. وبدون هذا المفهوم لا يمكن أن تتحقق التزكية، ولا يمكن أن يحقق تعليم الكتاب أهدافه (ويعلمكم الكتاب والحكمة)، ولا يمكن أيضا أن يبلغ التعليم درجة الحكمة، وهي التطبيق العملي أو إنزال النص على الواقع على أفضل وجه ممكن.

أيها الأخوة:

كما أن القراءة أصبحت في عصرنا هذا سطحية لا تتجاوز الألسنة لتبلغ الأفهام، فإن التلاوة أيضا أصبحت لا تتجاوز الآذان لتبلغ العقول والألباب.لذلك فعندما نجد الهوة هائلة بين تعاليم القرآن وسلوكيات المسلمين فإن ذلك له أسبابه الموضوعية، فمعظم المسلمين اليوم لا يقرؤون القرآن ولا يستمعون إلى تلاوته بشكل منتظم، والقلة الذين يقرؤون ويستمعون، معظمهم لا يتدبرون ولا يفهمون، والقلة الذين يفهمون معظمهم لا يطبقون بشكل صحيح، إما لجهلهم بدورهم الحقيقي أو لجهلهم بالواقع.

نريد أن نتعلم القرآن وفق هذا المنهج الرباني النبوي الحكيم-المحكم، كما تعلم جيل الصحابة (رضوان الله عليهم) القرآنَ، الذين نجحوا في تحويل تعاليمه إلى واقع محسوس وملموس..

نريد أن نحيي القرآن في واقعنا وفي حياتنا، كما هو حي في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا

نريد أن ننهض بواقعنا عبر القرآن..لا أن نهرب من واقعنا إلى القرآن..

نريد أن نجسد نبض القرآن في سلوكياتنا وعلاقاتنا كما هو ينبض في قلوبنا، حتى تسير حياتنا كلها على نبض هذا الإيقاع الرباني وأنوار هديه.

*هذه المحاضرة ألقيت باللغة الانكليزية في المسجد الرئيسي لمنطقة كامبل تاون (منتو) في سدني، وذلك يوم الجمعة 19/04/2013.

*الدكتور لؤي عبد الباقي مدير معهد الحكمة للدراسات العربية والإسلامية