بين سفيان الثوري وهارون الرشيد

بين سفيان الثوري وهارون الرشيد

كمال الزين

لما ولي الخلافة هارون الرشيد زاره العلماء إلا سفيان الثوري فإنه لم يأته وكان بينهما صحبة، فشق عليه ذلك فكتب إليه الرشيد كتاباً يقول فيه:

"بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى أخيه في الله سفيان بن سعيد الثوري أما بعد،

يا أخي فقد علمت أن الله آخى بين المؤمنين وقد آخيتك في الله مؤاخاة لم أصرح فيها حبلك ولم أقطع منها ودك. وإني منطو لك على أفضل المحبة وأتم الإرادة ولولا هذه القلادة التي قلّدنيها الله تعالى لأتيتك ولو حبواً لما أجد في قلبي من المحبة، وإنه لم يبق أحد من إخواني وإخوانك إلا زارني وهنأني بما صرت إليه، وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم المواهب السنية، ما فرحت به نفسي وقرت به عيني، وقد استبطأتك، وقد كتبت كتاباً مني إليك أعلمك بالشوق الشديد إليك، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل زيارة المؤمن ومواصلته فإذا ورد عليك هذا فالعجل العجل".

ثم أعطى الكتاب لعبّاد الطالقاني وأمره بإيصاله إليه وأن يحصي عليه سمعه وقلبه، دقيق أمره وجليله ليخبره به.

قال عباد: فانطلقت إلى الكوفة فوجدت سفيان في مسجده فلما رآني على بعد قام وقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير، قال: فنزلت عن فرسي بباب المسجد، فقام يصلّي ولم يكن وقت صلاة، فدخلت وسلمت، فما رفع أحد من جلسائه رأسه إليّ، قال: فبقيت واقفاً وما منهم أحد يعرض عليّ بالجلوس وقد علّتني من هيبتهم الرعدة، فرميت الكتاب إليه، فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد عنه كأنه حية عرضت له في محرابه فركع وسجد ثم سلم وأدخل يده في كمه وأخذه وقلّبه بيده ورماه إلى من كان خلفه وقال ليقرأه بعضكم فإني أستغفر الله أن أمسّ شيئاً مسه ظالم بيده، قال عباد: فمدّ بعضهم يده إليه، وهو يرتعد كأنه حية تنهشه، ثم قرأه فجعل سفيان يبتسم تبسّم المعجب، فلما فرغ من قراءته قال: أقلبوه واكتبوا للظالم على ظهره، قيل له: يا أبا عبد الله إنه الخليفة فلو كتب إليه في بياض نقي لكان أحسن، قال: اكتبوا للظالم في ظهر كتابه فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به، ولا يبقى شيء مسه ظالم بيده عندنا فيفسد علينا ديننا. فقيل له: ما نكتب إليه؟ قال: اكتبوا له:

"بسم الله الرحمن الرحيم. من العبد الميت سفيان إلى العبد المغرور بالآمال هارون الذي سلب حلاوة الإيمان ولذة قراءة القرآن.. أما بعد..

فإني كتبت إليك أعلمك أني قد صرمت حبلك، وقطعت ودّك، وإنك قد جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته بغير حكمة ولم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إليّ تشهدني على نفسك. أما أنا فإني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة غداً بين يدي الله الحكم العدل.

يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلّفة قلوبهم، العاملون عليها في أرض الله والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟

أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم؟

أم رضي بفعل الأيتام والأرامل؟

أم رضي بذلك خلق من رعيتك؟

فشد يا هارون مئزرك وأعدّ للمسألة جواباً وللبلاء جلباباً. إعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل، فاتق الله في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد، ولذة قراءة القرآن ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً.

يا هارون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسلبت ستوراً دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة على بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون، ويشربون الخمر ويحدّون الشارب، ويزنون ويحدّون الزاني، ويسرقون ويقطعون السارق، ويقتلون ويقتلون القاتل، ألا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكموا بها على الناس، كيف بك يا هارون غداً، إذا نادى المنادي من قبل الله: أحشروا الظلمة وأعوانهم فتقدمت بين يدي الله ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون من حولك وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار، وكأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك، بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيتك، واحفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته، واعلم أن الأمر لم يصر إليك إلا وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحداً بعد واحد، فمنهم من تزود زاداً نفعه، ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإياك أن تكتب إلي بعد هذا فإني لا أجيبك والسلام".

فلما تلقى هارون الرشيد كتاب سفيان الثوري، قال له جلساؤه: يا أمير المؤمنين قد تجرأ عليك سفيان؟ فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيّقت عليه بالسجن فجعلته عبرة لغيره.

قال هارون: "أتركوا سفيان وشأنه يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه والشقي والله حقاً من جالستموه، إن سفيان أمة وحده".

ولم يزل كتاب سفيان عند الرشيد يقرؤه بعد كل صلاة ويبكي حتى توفي رحمه الله تعالى.