وأصلحوا ذات بينكم

( وأصلحوا ذات بينكم )

شريف قاسم

[email protected]

تفتقد معظم المجتمعات العالمية إلى هذه الفضيلة التي أمرنا بها المولى تبارك وتعالى  ، وحثَّ على تفعيلها ، وأثاب مَن يقوم بها ابتغاء وجهه عزَّ وجلَّ ، ألا وهي إصلاح ذات البين ،  وذلك لانتشار أسباب الشقاق والتباغض بين الناس ، ولانتشار الأخلاق الفاسدة في هذا العصر المادي ، وانحسار أطياب المودة والإخاء إلى حدٍّ كبير  ، والإصلاح عمل من الأعمال الإنسانية النبيلة ، فهو يحمل صفة الصفاء و سمة الأخوة التي يتميز بها الإنسان ،  يقول تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) الملك / 2 . وهذا العمل الراقي ذو قدرة فائقة على التأثير ، ولا تجافيه الفطرة السليمة ، ولا تنأى عنه العقول الحكيمة ، فله أسلوبه الخاص ووسائله المتقنة ، وهو العلاج للمشاكل ، وفيه الوقاية من تفكك المجتمع ، بإذن الله تعالى . والإصلاح فيه نوع من أنواع الشفاعة الحسنة : (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ) 85/ النساء ، والإصلاح بين الناس لاشك بأنه نوع من أنواع التعاون على عمل البِر ، وقد قال الله تعالى : ( و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان ) 2 / المائدة  ، وفيه كذلك دفع الظلم عن الناس ، وفي الحديث الشريف عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يسلمه، ومن كان فى حاجة أخيه كان الله فى حاجته، و من فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، و من ستر مسلم ستره الله يوم القيامة )  رواه البخاري ومسلم .

فإصلاح ذات البين خدمة جليلة ،  وباب للمودة والتواصل بين الأرحام والأصدقاء ، وسائر الناس في المجتمع ،  وهو شعار المصلحين ، وهدف العلماء الذين يدعون إلى التآخي والتواد ، على أسس من القواعد الشرعية الكريمة ، وعلى ماتعارف عليه أهل الفضل ، لتغطية أكبر  مساحة ممكنة ، وإصلاح ذات البين من متطلبات المجتمع الصالح الذي يسعى المصلحون على تنوع مواقعهم الاجتماعية إلى تنويره وتوعيته ، وتقويم سيرة أبنائه .

وهذا جانب شرعي إسلامي يحث على إيجاد الوسائل التي تبعث المودة والتآخي بين الناس ، ويبعث السجايا الحميدة والمفاهيم السامية التي جاءت بها شريعتنا الإسلامية الغراء ، متمثلة بالإصلاح المحمود بين الناس في معانيه ومراميه وفي مصطلحاته . قال الله تعالى مبينا عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في هذا الشأن : ( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ) .

 والإصلاح يتناول الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والفكرية والثقافية ، ويدخل إلى محيط الأسرة ، وإلى السوق ، وإلى المصنع والمؤسسة ... وغيرها من مواقع وجود الناس في أعمالهم وملتقياتهم .  وينكر الإسلام على الذين يدَّعون الإصلاح أو يتصدون لحمل رايته على غير هدى من الله ، وعلى غير قيم إسلامية ، فقال تعالى : (  وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) ، كما ينهى الإسلام الذين يشيعون الفتن ويختلقون المشاكل في السر و العلن ، لأنه عمل مشين : ( لاَخيرَ في كثير من نَجواهُم إلاَّ من أمَـرَ بصدقة أو معرُوف أو إصلاح بين الناس ) ، ولعله تحذير من الله سبحانه لأهل الفتن في عدم الأخذ بأسباب الإصلاح الحقيقية : ( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ) .

إنَّ دعاة الإصلاح وفقهم الله هم أولئك الذين بارك الله فيهم ، وفي مساعيهم الخيِّرة  ، من علماء الشريعة الإسلامية   ، و من أهل الحكمة والخبرة والتجارب ، ومن الوجهاء والمكانة الاجتماعية ،  أو من أهل المال الذي يُبذل في حالات الإصلاح لوجه الله تعالى ، وقد تكون عملية الإصلاح باجتماع هؤلاء وهؤلاء ، حيث الأحكام الشرعية والحكمة والخبرة وطيب العرض ورقته وتأثيره ، فللمزايا الحسنة لدى المصلحين لها أثر بالغ في نفوس المتخاصمين ، فالحكم العدل بين الناس يجب أن يتمتع بصفات عالية من الصبر وحفظ أسرار الناس والعدل وعدم الاستعجال في إطلاق الأحكام ، لأن مثل هذه الصفات تجعل المصلح منصفا ومحبوبا بين الناس ، فيرتضون أقواله وأحكامه . ورسالة الإصلاح تتجلى في قول الله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )  ، فلقد حثَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على عمليات الإصلاح بين المسلمين ، وعدَّ ذلك نوعا من العبادة التي يثيب الله عليها ، قال صلى الله عليه وسلم : (( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين ) رواه الترمذي . ومن هنا جاءت أهمية إزالة أسباب الخصومات والمشاكل ، بالوقوف عند حدود الشرع الحنيف ، وعدم التعدي على الناس في أي أمر  من أمور حياتهم . ولقد نهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن كل الصفات الذميمة التي تجلب الخصومة والبغضاء والحقد بين الناس ، قال صلى الله عليه وسلم : (كُلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ: كلَّ يومٍ تَطْلُعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَعْدِلُ بَيْنَ اثنين، ويُعِينُ الرَّجُلَ في دابَّتِهِ، ويَحْمِلُهُ عَلَيها، ويَرْفَعُ لهُ عَلَيها مَتَاعَهُ، ويُمِيطُ الأذى عَنِ الطَّرِيق صَدَقَةٌ ) رواه البخاري ومسلم . وأكَّدَ على ذلك في أحاديث كثيرة لأهمية الجانب الأخلاقي في هذا المجال : (لا تحاسدوا ولا تنافسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام ) مسند أبي يعلى . كما تتمثل الرؤية في الإصلاح في إنهاء الخصومة بين الناس ، وإنهاء النزاع بطريقة ودية من غير اللجوء إلى المحاكم .

وهذه الرؤية الحكيمة السامية هي من خصائص الشريعة الإسلامية في مرونتها واستيعابها لكل أوجه الحقوق والواجبات والمواثيق الإنسانية ، فلا تمييز بين الناس المتخاصمين لأي سبب من الأسباب ، فالناس متساوون أمام القضاء العادل ، وأمام لجنان الإصلاح ، ولا مجال للتحيز  ، فلا بد من الفصل في النزاع بالحكمة والعدل  ، استنادا إلى القرائن والأدلة وعدالة الشهود وسماع أقوال المتخاصمين ، والاطلاع على مالديهم من وثائق وأدلة ، حتى يأتي الحكم عادلا : ( اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) .

فزوال الخصومات لابد له من قلبٍ صافٍ يبتغي الحق ، ومن عقل حكيم منصف وإيمان به يردع صاحبه عن ظلم الآخرين ، فبهذه المعالم الثلاثة يُقام العدل ويرضى الجميع ، ويزهق الشر وما فيه من صفات مذمومة ، وما أجمل قول الله تعالى في هذا السياق الأخلاقي النبيل : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) 125 ــ 128 / سورة النحل . ولقد نهى الله سبحانه وتعالى عن التناجي بالإثم والعدوان والمعاصي رغبة في تنقية القلوب وتزكية النفوس ، لينحسر الشر وتختفي آثار الأحقاد والبغضاء : ( وَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى ) 9 / المجادلة .

لقد وضع أهل الإصلاح للإصلاح آليات ، وأساليب تعمل على تقريب القلوب ، من إعداد المكان اللازم  ، ومن تهيئة وسائل  ومستلزمات الإصلاح التي لاتخفى على أحد ، وحضور  القائمين على عمليات الإصلاح  من العلماء والمفكرين ، ومَن لديهم اختصاص وقدرة وتجربة في هذا المجال من الأعيان ورؤساء العشائر وأهل الفضل الذين يشهد لهم الناس بمكانتهم ومحبتهم . والإصلاح هو نوع من أنواع الشفاعة ــ كما ذكرنا ــ لدفع الضرر والحيف عن الناس ، ولجلب المنافع المتنوعة لهم ، من نيل حقوقهم وإشاعة المحبة بينهم ، ودفع الضرر عنهم ، وحيث يسود التسامح بين الناس ، بفضل مايحصل من شفاعات بين المتخاصمين . وفي الأثر عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : (  اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء ) .