آيات القرآن.. في مصارع الطغيان

د. أبو بكر الشامي

قال تعالى في كتابه الكريم : بسم الله الرحمن الرحيم

( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم ؛ وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتِحَه لتنوءُ بالعصبة أولي القوة ، إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين . وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك ، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إنَّ الله لا يحب المفسدين . قال : إنما أوتيته على علم عندي ، أولم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشدُّ منه قوّة وأكثر جمعاً ، ولا يُسألُ عن ذنوبهمُ المجرمون  ) 

القصص (78) صدق الله العظيم ..

يذخر القرآن الكريم بالعديد من الآيات البيّنات التي تتحدث عن المصير الثابت للظالمين المتجبّرين بالهلاك المحتوم في الدنيا ، والخزي الدائم يوم القيامة ، جزاءً لما اقترفته أيديهم الآثمة من جور وظلم ، والله لا يحب الظالمين .

وهذه الآيات الكريمة من سورة القصص ، تتكلم عن نموذج فاقع من تلك النماذج الظالمة ، أنعم الله عليه بالنعم الكثيرة ، فجحد أنعم الله ، وبدلاً من أن يستخدم تلك النعم فيما يرضي الله ، ويسعد عباد الله ، استخدمها في الظلم والتعسّف والبطر والرياء ، فضربه الله بقوّته المقتدرة ، وجعله وأمثاله أحاديث للأولين والآخرين ، وعبرة لكل ظالم متكبّر كفّار …

لقد ابتدأت مطالع السورة الكريمة بعرض قصة موسى وفرعون ، حيث عرضت فيها قوة السلطان والحكم ، وكيف باءت بالبوار مع البغي والظلم  والكفران بالله ، والبعد عن هداه .

ثم ثنّت بعرض قصة قارون لتعرض سلطان المال والعلم ، وكيف انتهي بالبوار أيضاً مع البغي والبطر والاستكبار على الخلق وجحود نعمة الخالق .

وفي هذه الآيات الكريمات يقرّر الله تعالى حقيقة القيم ، فيرخص من قيمة المال والزينة إلى جانب قيمة الإيمان والصلاح ؛ داعياً إلى الاعتدال والتوازن في الاستمتاع بطيبات الحياة دون علو في الأرض ولا فساد. 

وهكذا تبدأ القصة فتعين اسم بطلها ( قارون )  وهو يرمز إلى كل باغٍ وجبّار ومتكبّر في أي زمان ومكان ، وتقرّر مسلكه مع قومه وبني جنسه وبني إنسانيّته ، وهو مسلك البغي ( فبغى عليهم )  وتشير إلى سبب هذا البغي وهو الثراء : ( وآتيناه من الكنوز ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة )  ..

ولا يذكر النص القرآني صورة محدّدة لهذا البغي ، ليدعه مجملاً يشمل شتى صور البغي ، فربما بغى عليهم بظلمهم ، واغتصاب السلطة منهم ، وتزوير إرادتهم ، والتلاعب بدستورهم ، واختطافهم لعشرات السنين ، وبيع أرضهم لأعدائهم... !!!

وربما بغى عليهم أيضاً باستعبادهم ، وإذلالهم ، ومصادرة حريّاتهم  ، وسرقة أموالهم ، وتجويعهم ، وتحويل وطنهم إلى مزرعة خاصّة له ولعائلته ... !!!  

وإذا خرجوا إلى الشوارع والساحات يهتفون لحريّتهم المسلوبة ، ويطالبون بكرامتهم المصادرة ، سلّط عليهم عصاباته المجرمة ، وشبّيحته الفاجرة ، لتعمل فيهم قتلاً واعتقالاً واغتصاباً وتشريداً... !!!

ولقد انبرى له من الخيّرين الناصحين من بني جنسه وإنسانيّته من يحاول رده عن هذا البغي ، ورجعه إلى النهج القويم ، الذي يرضاه الله في التصرف بقوته وثرائه ؛ وهو نهج لا يحرم الأثرياء ثراءهم ؛ ولا يحرمهم المتاع المعتدل بما وهبهم الله من مال ؛ ولكنه يفرض عليهم القصد والاعتدال ؛ وقبل ذلك يفرض عليهم مراقبة الله الذي أنعم عليهم ، ومراعاة الآخرة وما فيها من حساب : ( إذ قال له قومه : لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين ، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض ، إن الله لا يحب المفسدين ) ..

لا تفرح   .. فرح الزهو المنبعث من الاعتزاز بالملك والمال ، والاحتفال بالثراء ، والتعلق بالكنوز ، والابتهاج بالملك والاستحواذ على الدنيا .. !!!

لا تفرح ...  فرح البطر الذي ينسي واهب الملك ، والمنعم بالمال ؛ وينسي نعمته ، وما يجب لها من الحمد والشكران . !!!

لا تفرح ... فرح الذي يعميه الملك ، ويشغله المال ، فيتطاول به على العباد والبلاد .

( إن الله لا يحب الفرحين )  .. المأخوذين بالملك والمال ، المتباهين به ، والمتطاولين بسلطانه على الناس . 

( وأحسن كما أحسن الله إليك )  .. فهذا الملك والمال هبة من الله وإحسان ، فليقابل بالإحسان فيه كذلك .

إحسان العدل ، وإحسان التصرف ، والإحسان به إلى الخلق ، وإحسان الشعور بالنعمة ، وإحسان الشكران .

( ولا تبغ الفساد في الأرض )  .. الفساد بالبغي والظلم ، والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة الله ومراعاة الآخرة ، والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء ، والفساد بإنفاق المال في ظلم الشعب ، أو إمساكه عن المحتاجين إليه

( إن الله لا يحب المفسدين ) ..

( قال : إنما أوتيته على علم عندي )  ! إنها قولة المغرور المطموس الذي ينسى مصدر النعمة وحكمتها ، عندما يفتنه المال ، ويعميه الثراء ، وتبطره القوّة . 

وهو نموذج مكرر في البشرية ، فكم من المغرورين الجهلة من يظن أن علمه وقوّته هما وحدهما سبب عزّه وغناه ، ومن ثم فهو حرٌّ فيما يفعل ، غير محاسب على ما يفسد بالمال ، ويظلم بالقوّة  ، غير حاسب لله حسابا ، ولا ناظر إلى غضبه ورضاه !

وهكذا فإن ( قارون ) لم يستمع لنداء قومه ، ولم يشعر بنعمة ربه ، ولم يخضع لعرف أو نظام أو قانون ، وأعرض عن هذا كله في استكبار لئيم ، وفي بطر ذميم ، ومن ثم جاءه التهديد قبل تمام الآية ، ردا على قولته الفاجرة المغرورة :

( أو لم يعلم أنَّ الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشدُّ منه قوةً وأكثر جمعا، ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون .!؟ )

ثم يجيء المشهد الثاني حين يخرج قارون بزينته على قومه ، فتطير لها قلوب الضعفاء التافهين ، وتتهاوى لها نفوسهم ، ويتمنون لأنفسهم مثل ما أوتي قارون ، ويحسون أنه أوتي حظا عظيما يشتهيه الغافلون ‍‍. 

في حين يستيقظ الإيمان في قلوب المؤمنين الراسخين ، فيعتزون به على فتنة المال وزينة قارون ، ويذكّرون  المبهورين المأخوذين ، في ثقة وفي يقين :

( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثلما أوتي قارون ، إنه لذو حظ عظيم ) .

( وقال الذين أوتوا العلم : ويلكم .! ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ، ولا يلقاها إلا الصابرون )  .

وهكذا وقفت طائفة منهم أمام فتنة الحياة الدنيا وقفة المأخوذ المبهور المتهاوي المتهافت ...!!!

ووقفت طائفة أخرى تستعلي على هذا كله بقيمة الإيمان ، والرجاء فيما عند الله ، والاعتزاز بثواب الله : ( قال الذين يريدون الحياة الدنيا : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، إنه لذو حظ عظيم )  ..

 وفي كل زمان ومكان ، يستهوي المال والقوّة بعض القلوب ، وتبهر الذين يريدون الحياة الدنيا ، ولا يتطلعون إلى ما هو أعلى وأكرم منها ؛ فلا يسألون بأي ثمن اشترى صاحب الزينة زينته .!؟

ولا بأي الوسائل نال صاحب القوّة قوّته .!؟ 

ومن ثم تتهافت نفوسهم وتتهاوى ، كما يتهافت الذباب على الحلوى ويتهاوى ! يسيل لعابهم على ما في أيدي المحظوظين من متاع ، غير ناظرين إلى الثمن الباهظ الذي أدوه ، ولا إلى الطريق الدنس الذي خاضوه ، ولا إلى الوسيلة الخسيسة التي اتخذوها .

 فأما المتصلون بالله ، فلهم ميزان آخر يقيم الحياة ، وفي نفوسهم قيم أخرى غير قيم المال والزينة والمتاع ، وهم أعلى نفساً ، وأكبر قلباً من أن يتهاووا ويتصاغروا أمام قيم الأرض جميعا ، ولهم من استعلائهم بالله عاصمٌ من التخاذل أمام جاه ( الفراعنة ) و ( والقوارين ) .!!!

وعندما يبلغ الظلم والطغيان مداه ، وتبلغ الفتنة  ذروتها ، وتتهافت أمامها النفوس،  وتقف الدول والجماعات والهيئات والمنظمات الإقليمية والدولية ، عاجزة عن وقف المذبحة ، ولجم الظالم ، ونصرة المظلومين .!!! 

هنا ، تتدخل القدرة الإلهية الجبارة لتضع حداً للفتنة ، وتقرّر النهاية المحتومة للظلم والطغيان ..

( فخسفنا به وبداره الأرض ، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله ، وما كان من المنتصرين )  ..

يا للعبرة الباهرة ، ويا للمعجزة القاهرة ..!

هكذا في جملة قصيرة ، وفي لمحة خاطفة ( فخسفنا به وبدراه الأرض ) !!!

فابتلعته وابتلعت داره ، وهوى في بطن الأرض التي طالما علا فيها وظلم وتجبّر على ظهرها ، وذهب ضعيفا حقيراً عاجزا ...

(فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله) ( لا روسيا ولا إيران ولا حزب الشيطان ولا غيرهم ) ولم ينفعه جاه و لا مال آل مخلوف كله الذي سرقوه من أقوات الشعب المظلوم ...!!!  (وما كان من المنتصرين ) ...!!!

وهوت معه الفتنة الطاغية التي جرفت بعض الناس ؛ وردتهم الضربة القاضية إلى الله ؛ وكشفت عن قلوبهم قناع الغفلة والضلال ( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون : وي ! كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ، لولا أن من الله علينا لخسف بنا ..!!! وي ! كأنه لا يفلح الكافرون )  .. 

وصدق الله العزيز الحكيم القائل : ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ، والعاقبة للمتقين )  ..