مقام الجهل

ياسر الباز

[email protected]

من المعروف للجميع عالمهم وجاهلهم أن للعلم مقام بل مقامات ، ويسلِّم كل عالم إلى من هو أعلم منه راغبًا أو راغمًا ، وذلك للنور الساطع من شمس علمه ومعرفته. ولكن قد لا يدرك الكثيرون أن أدنى مقام العلم هو أعلى (أو أدنى حسب فهمك) مقامات الجهل ، وهو أن يدرك المرء أنه يجهل أمرًا معينًا وأنه يجب عليه السكوت إذا ما طرح هذا الأمر على مائدة العقل وتناولته ألسن المنطق.

وهذه أول آفات بني قومي بدوائرهم الثلاثة (الإسلامية والعربية والمصرية) ، فلا يعرف أحدهم متى ينطلق ومتى يتوقف ، وكيف يغضب وكيف يتلطف ، وما ذلك إلا لجهله بمقام الجهل الذي يبدأ من الميلاد مصداقًا لقوله تعالى " وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " (النحل-78) ، فالكل مولود ولا يعلم شيئًا ، ثم يستخدم حاستي السمع والبصر وما يشملهما من تلقٍ وقراءة لأهل العلم والمتخصصين ، فإذا تم له ذلك استخدم الفؤاد أي العملية العقلية والتحليلية فيما سمع وقرأ ، وهو في كل هذا يغادر مطار الجهل دونما عودة ، ثم يرقى في مراتب العلم ويسمو في سماء المعرفة ، ويصبح ذا قدرة على رؤية أعمق وبصيرة أصدق ، فإذا أصدر قولًا فعن علم وحكمة وإذا أنشأ فعلًا فعن لين ورحمة.

وهذه الفوضى في مجتمعاتنا بين المتكلمين والكاتبين في أجهزة الإعلام المختلفة وفي سماء الإنترنت الرحب هي داء عضال سوف يؤدي إلى تأجيل الحلول المرجوة لأوطاننا ناهيك عن انحراف هذه الحلول عن مسارها ، وإذا عرفنا أعراض الداء سهل علينا تحديد الدواء.

العَرَض الأول: إن كنت لا تعرف كيف تكتب فلا تكتب ، وإن كنت لا تعرف كيف تتكلم فلا تتكلم ، إذ أن من بديهيات أي عمل يقوم به الإنسان هو أن يعرف كيفية القيام به. وعار على كل متكلم أو كاتب أن يخطئ الخطأ الجلي ، وإن كنا نلتمس العذر لبعضنا البعض في الخطأ الخفي لانفصالنا عن تراثنا الذي يحفظ اللسان ويعلم البيان ، والذي نحتاج إلى بذل الجهد المستمر إلى إحيائه والاتصال به حتى تستقيم ألسنتنا وأقلامنا وعقولنا ، كما يجب أن نستفيد من أفضل ما وصلت إليه العلوم الإنسانية في فنون التأثير والتواصل. وليست هذه دعوة لعدم الكلام والكتابة ، بل لتحصيل العلم والقدرة اللازمين حتى تكون متكلمًا مؤثرًا وكاتبًا معبرًا.

العَرَض الثاني: لن يستطيع واحد من البشر أن يحيط بكل العلوم وخصوصًا في هذا العصر الذي تشعبت فيه الشعب وتفرعت فيه الفروع ، فكيف يطلع علينا في كل يوم وليلة من يتكلم أو يكتب بأخطائه الفادحة الفاضحة ، وهو يتكلم في السياسة والاقتصاد والصحة والزراعة وغيرها من شتى المجالات ، ثم يضع لها الحلول ثم يتهم من يخالفه بأنه من الفلول ، وانظر إلى كم الساعات والأموال التي أهدرت لتقديم البرامج الكلامية أو المقالات الصحفية. والحل يكمن في السكوت وأنا أدعو الجميع إلى السكوت والهدوء ثم يسأل كل واحد نفسه ، ما هو تخصصي (ولا أقصد الشهادة التعليمية) ؟ ما هي قراءاتي في هذا التخصص ؟ ما هي ممارستي وخبرتي في هذا التخصص ؟ وكن أمينًا على نفسك ، حريصًا على فلاح بلدك ، فإذا عرفت الإجابة فقم من فورك واكتب ماشئت وقل ما شئت ، لكن فيما تعلم وتفهم فإذا جاءك سؤال في غير تخصصك فقل بكل علم وحزم : أنا لا أعلم ، والله أعلى وأعلم.

ولعله من المناسب في هذا المقام أن ننصح أهلنا في مصر بتكوين مجموعات عمل تطوعية من المصريين في الداخل والخارج من أهل العلم والخبرة في كل مجال سياسي أو اقتصادي أو صناعي أو زراعي وغير ذلك ، وتتخصص كل مجموعة بدراسة المشاكل وإيجاد الحلول الملائمة وتكوين رؤية مستقبلية لهذا البلد العظيم ، وتكون هذه الدراسات والحلول المختارة والمتفق عليها هي البرامج التنفيذية لأي حكومة مقبلة إن شاء الله.

العَرَض الثالث: ليس كل مخالف لك غبي أو عميل ، وأنا أعني كل قطاعات الشعب المصري بكل تياراته الفكرية والسياسية وكل مواقعه الحكومية أو التطوعية ، لقد خلق الله الناس متفاوتين في العلم والفهم ، واختلاف الرأي القائم على العلم والاحترام يثري ولا يذري وينفع ولا يضر ، ولا يصنع طعام من صنف واحد إلا في النادر بل أطيب الأطعمة ما تعددت مصادره ثم تمازجت عناصره.

تَعَلَّمْ فليسَ المرءُ يُولَدُ عَالمًا .... وليسَ أخو علمٍ كمنْ هو جاهلُ

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية