أيها الإنسان .. ما أنت

(يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ،

الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)

الإمام الشهيد حسن البنا

أيها الإنسان .. ما أنت ؟

 أما نحن المؤمنون المصدقون فنقول :

أنت لطيفة ربانية، ونفحة قدسية، وروح من أمر الله، خلقك بيديه، ونفخ فيك من روحه وفضلك على كثير من خلقه، وأسجد لك ملائكته وعلمك الأسماء كلها، وعرض عليك الأمانة فحملتها، وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة، وسخر لك ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وكرمك أعظم تكريم، فخلقك في أحسن تقويم، وأعدك أكمل إعداد، ووهب لك السمع والبصر والفؤاد، وأوضح لك الطريقين وهداك النجدين، ويسر لك السبيل،

فأنت بإذنه وصنعته تغوص في الماء، وتطير في الهواء، وتسابق الكهرباء وتحطم الذرات، وتتجاوز بتفكيرك وتقديرك أقطار السموات، فهل رأيت أجل وأعظم وأكرم ؟

دواؤك فيك وما تبـصـر             وداؤك منك وما تشـعـر

وتزعم أنك جرم صـغير              وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت بعد هذه الحياة القصيرة خالد لا تبيد، تحيى وتنشر، وتبعث وتحشر، وتستأنف حياة الكرامة في دار النعيم والمقامة، إن كنت أدركت سر مهمتك في الوجود، فأخلصت العمل للملك المعبود:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذريات:56-58) .

وما الموت الذي تخشاه إلا نقلة من هذه الحياة إلى تلك الحياة:

(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت:64).

وما هذا الجسم إلا قفص أنت فيه من المسجونين، وثوب تخلعه إلى حين، ثم يعود لك يوم الدين،

ورحم الله العارف إذ يقول:

أنا عصفور وهـذا  قفـص          طرت عنه وبقي مرتهنا

أنا في الصور وهذا  جسدي           كان ثوبي وقميصي زمنا

وأنا الآن أناجـي مـــلأ           وأرى الله جهارا علنــا

لا تظـنوا الموت موتـا إنه          ليس إلا نقلة من ها هنـا

 ويقول الماديون الجدليون:

أنت أيها الإنسان حفنة من تراب، ونطفة من أصلاب، قذفت بك الأرحام، وأفنتك الأيام، وابتلعتك الركام، ثم لا شيء بعد ذلك، من يحيي العظام وهي رميم ؟

كذلك قال قدماؤهم :( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ) (الجاثـية:24).

وهكذا قال محدثوهم : أثر أنت من تفاعل العناصر المادية والتطورات الفيزيولوجية، فالشعور والوجدان، والفكر والإدراك، والعزم والإرادة، كل أولئك من آثار المادة الصماء، وناتج عن اختلاط التراب بالماء، وما الحياة إلا هذه الأيام المعدودات تقضي فيها اللبانات، وتنتهز الفرص للذات.

إنما الدنيا طعام              وشـراب ومنـام

فإذا فاتك هـذا             فعلى الدنيا السلام

تلك يا أخي قضية الحياة إن أمعنت فيها النظر، وأجلت فيها الفكر، ولم تكن من الغافلين المستهترين بوجودهم، المحتقرين لإنسانيتهم، استطعت أن تحدد في الوجود غايتك، وأن تبين وسيلتك.

 وكل الذي أنصح لك به :

أن تخلو لنفسك ساعة من ليل أو نهار، لترى أفضل الرأيين، وأثر الخطتين في حياة الفرد والجماعة، حتى إذا اقتنعت بالرأي الأول، وهو الفطرة، أقبلت على نفسك فاستكملت فضائلها، وسموت بها عن سفاسف الأمور وصغار الغايات، ووصلتها بربها العلي الأعلى، وطهرتها بذكره وطاعته ومراقبته وخشيته، ومن عرف نفسه عرف ربه .

قد رشحوك لأمر لو فطنت له         فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

ولا تستغرب أن يختار بعض الناس الرأي الثاني، فهي الفتنة أو الهداية :

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا  بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (لأعراف:175-176).

ويا أيها الحيارى المتعبون

أيها الحائرون في بيداء الحياة، إلى متى التيه والضلال، وبيدكم المصباح المنير؟ ..

(قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:15-16).

أيها الحيارى المتعبون الذين التبست عليهم المسالك فضلوا السبيل، وتنكبوا الطريق المستقيم، أجيبوا دعاء العليم الخبير: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) (الزمر:53-54)،

وترقبوا بعد ذلك طمأنينة النفس، وحسن الجزاء وراحة الضمير، (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ، أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران:135-136).

أيها الأخ العاني المتعب الرازح تحت أعباء الخطايا والذنوب، إياك أعنى، واليك أوجه القول:

إن باب ربك واسع فسيح غير محجوب، وبكاء العاصين أحب إلى الله من دعاء الطائعين، جلسة من جلسات المناجاة في السحر، وقطرة من دموع الأسف والندم، وكلمة من كلمات الاستغفار والإنابة يمحو الله بها زلتك، ويعلى درجتك، وتكون عنده من المقربين، وكل بنى آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون.

ما أقرب ربك إليك وأنت لا تدرك قربه، وما أحبك إلى مولاك وأنت لا تقدر حبه، ما أعظم رحمته بك وأنت مع ذلك من الغافلين

ألهمنا الله وإياك الرشد وهدانا سواء السبيل ... آمين