إنه يجيب المضطر إذا دعاه

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

كم هم الذين ينطبق عليهم قوله تعالى في سورة الذاريات " كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، وبالأسحار هم يستغفرون (17-18)"؟ ولاأدّعي أنني منهم ، فقيام الليل شرف عظيم لا يناله إلا أولو العزمات . وأنّى لضعيف الهمّمة –أمثالي-  أن يكون في عِدادهم ؟ وقد تعوّدنا الأكل الكثيرالذي يستدعي النوم الثقيل . وتعوّدنا السهر الطويل بفائدة وغير فائدة ، ثم ننام حين ننام كما يستلقي القتيل دون حراك ، فإذا ما أُذّن للفجر قام  متكاسلاً كمن يحمل الجبال الرواسي على عاتقه . يصلي الفجر متثاقلاً – إن صلاه – لا يدري ما صلّى ،ثم يسرع متمّماً نوماً ثقيلاً عميقاً ...

ويعيش أحدنا همّه بطنه وفرجه ومظهره الخارجي متناسياً ما يحيطه من مصائب وويلات تكاثرت علينا تذكرنا بما قاله المتنبي محاطباً الحمّى :

أبنت الدهر ؛ عندي كل بنت      فكيف وصلتِ أنتِ من الزحام ؟

أو كما قال خِراشٌ :

تكاثرت الظباء على خراش      فما يدري خراش ما يصيدُ

فإذا نظر أحدنا إلى بلاد المسلمين شرقاً وغرباً وجدها ترزح تحت نير الأعداء عسكرةً أو اقتصاداً أو سياسة أو جهالة أو فكراً وولاءً أو تحتها كلها أو بعضها ، ولا أحاشي بلداً من بلداننا ، فنحن -والحمد لله الذي لا يُحمد على مكروه سواه – غارقون حتى الثمالة في التبعية للغرب أو الشرق ، قد أدمنّا على أن نكون في ذيل قائمة الشعوب ، لا نرضى عن هذه الحالة بديلاً .

والقليل منا يودّ أن يكون حراً سيداً في نفسه وحياته وبلده . ولا أصدّق أننا مغلوبون على أمرنا ، لأن الشعوب الحية تدفع ثمن الحرية ما غلا وحلا ، وتذوق العلقم لتستقي بعده الشهد ، وتبذل الغالي للوصول إلى العزة والكرامة ، فماذا فعلنا في سبيل هدفنا هذا غير الاستسلام للعدو الخارجي والعدو الداخلي على حد سواء؟! فالثاني ظل للأول ، وامتداد له وصنيعة من صنائعه .

ورحم الله الشاعر الشابيّ إذ قال :

إذا الشعب يوماً أراد الحياة      فلا بد أن يستجيب القدر

وما قال الشاعرما قال إلا حين فهم قوله تعالى :" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ، وقد غيّرنا ما بأنفسنا من السيادة والكرامة والعلم إلى العبودية والضَّعة والجهل ، فاستحققنا ما ننعم فيه من الدونيّة والتبعية والانهزامية !!

ما علينا ؛؛ فقد أكثرنا من جلد الذات – كما يقول بعضهم ممن لا تستهويه هذه المعاني ولا يود التحرك نحو الأفضل – فلنلتفت إن شئنا – ويجب أن نشاء – إلى اللجوء إلى من يأحذ بأيدينا إلى ما نريد ونهوى ، إلى مصدر القوة والعظمة ، إلى من كان معنا حين كنا معه نلتمس العون والسداد فنحن في أزمة ، بل أزَمات تأحذنا يميناً وشمالاً وتحتُ وفوقُ ، بل إلى تحتُ فقط ، وإلى الأعماق السحيقة ، فلا بد من البحث عن محرج مما نتخبط فيه من أمواج عاتية وعواصف مدمّرة ، ولنتلمس بقوة حبل النجاة ، فلا نجاة إلا به "  أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ أَإِلَٰهٌ مَعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) " سورة النمل.

إن الله تعالى ينبه أنه هو المدعو عند الشدائد المرجو عند النوازل . ألم يخبرنا سبحانه قائلاً  : " وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه " وقال أيضاً : " ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون " هذا ما يقوله ههنا " أمن يجيب المضطر إذا دعاه "  فلا يلجأ المضطر إلا إليه ولا يكشف عنه الضرّسواه .

يروي الإمام أحمد رحمه الله أن رجلاً قال قلت يا رسول الله إلام تدعو ؟ قال " أدعو إلى الله وحده الذي إن مسّك ضر فدعوته كشف عنك ، والذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك  ، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك " قال قلت أوصني قال " لا تسبن أحدا ولا تزهدن في المعروف ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة " وفي رواية أن الإمام أحمد ذكر اسم الصحابي جابر بن سليم الهجيمي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة وقد وقع هدبها على قدميه فقلت أيكم محمد رسول الله ؟ فأومأ بيده إلى نفسه فقلت يا رسول الله أنا من أهل البادية وفيهم جفاؤهم فأوصني قال " لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعليه وزره وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة ولا تسبن أحدا " قال فما سببت بعده أحدا ولا شاة ولا بعيرا

 وعن عبيد الله بن أبي صالح قال : دخل علي طاوس يعودني فقلت له ادع الله لي يا أبا عبد الرحمن . فقال ادع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه . وقال وهب بن منبه قرأت في الكتاب الأول أن الله تعالى يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات بمن فيهن والأرض بمن فيهن فإني أجعل له من بين ذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أخسف به من تحت قدميه الأرض فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه.

 وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقي الصوفي قال هذا الرجل كنت أكاري (حمال)على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني فركب معي ذات مرة رجل فمررنا على بعض الطريق عن طريق غير مسلوكة فقال لي خذ في هذه فإنها أقرب . فقلت :لا خيرة لي فيها . فقال بل هي أقرب . فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق ، وفيه قتلى كثيرة . فقال لي : امسك رأس البغل حتى أنزل . فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه ، وسل سكينا معه وقصدني . ففررت من بين يديه وتبعني . فناشدته الله ، وقلت خذ البغل بما عليه . فقال هو لي ، وإنما أريد قتلك . فخوفته الله والعقوبة . فلم يقبل ، فاستسلمت بين يديه وقلت إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين. فقال عجل . فقمت أصلي فأرتج علي القرآن فلم يحضرني منه حرف واحد ، فبقيت واقفا متحيرا وهو يقول : هيه افرغ . فأجرى الله على لساني قوله تعالى : " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء " فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة ، فرمى بها الرجل فما أخطأت فؤاده ، فخر صريعا . فتعلقت بالفارس وقلت بالله من أنت ؟ فقال أنا رسول الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء . قال فأخذت البغل والحمل ورجعت سالما .

فإذا أجاب الله دعاء المسلم المضطر ونحن في ضنك واضطرار ، وأخلص في الدعاء وتوجه بكليته إلى مولاه كشف عنه السوء ، ثم زاده خيراً على خير ، وسوّده على من كان عليه سيداً . ورفع درجته بين الناس . والأمة التي تلجأ إلى الله يكشف عنها السوء ، ويرفعها بين الأمم ، فهو تعالى الرافع والخافض ، ألم يقل تعالى  : " إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين " وهو سبحانه من يقول :" وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات " إنه سبحانه يقول في هذه الآية  " ويجعلكم خلفاء الأرض " .

فالأمر واضح لذي عينين وذي قلب سليم ، فلماذا يتنكب المسلمون الطريق القويم ويميلون عن الصراط المستقبم ؟! والحل لكل المعضلات والمشاكل معروف ، أخذ به أسلافنا فكانوا سادة الدنيا وملوكها ؟!