مكانة الحياة الدنيا في عقيدة المسلم

نقاط فوق الحروف

مكانة الحياة الدنيا في عقيدة المسلم

محمد السيد

[email protected]

قال تعالى : ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)) الحديد : 20

جدلية الموت والحياةن جدلية لازمت الإنسان منذ وجوده ، فأسكنته دارالحيرة؛ فوجع الموت أذهله عن نظر الهدف من الحياة ، والمواعيد المجهولة أغضت من تطلعه إلى المآلات ، وازدهار الموت في حقول حياته ، حيث يزور الساحات كل يوم أو كل كل حين ، وبذلك يبرهن لهذا الحي أن حياته لا تفارق قدرات يديه المتدثرة بالأجل، الذي لا يتزحزح عن مواعيده قيد أنملة من زمن ، أو كما قال القرآن الكريم ((لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)) الأعراف:34 . وأقول : إن ازدهار الموت هذا لم يردع الناس عن حب الحياة حباً تعلقت به كل أرواحهم وأجسامهم ، حتى وجدت منهم دعاة مضللين ، وهم اليوم يقولون : الحي أفضل من الميت ، والحياة الدنيا هي المبتغى ، ويصمون كل من يحبذ موتاً شريفاً ، مدافعاً عن حياض وطن ، أو واقفاً لغاصب أو لص أوطان وثروات ، أو سالب لأمن الأحياء بأنه عدمي أو صانع موت .

إن كل ذلك التعلق _غير الطبيعي_ بالحياة الدنيا أنشأته أحلام غير مهتدية ، أبحرت في أرواح أولئك المتعلقين تعلقاً لا حدود له بسواعد الدنيا وخواصرها ودمنتها الخضراء ، إنهم أدمنوا العيش ، لعباً ولهواً وتفاخراً وتكاثراً ، حتى حولوا الحياة بهذا المعنى إلى دمية ضخمة تخبئ لهم بظنهم كنوز البقاء والخلود ، فراحوا يتنازعون تلك الدمية ، أيهم يحصل على خزائنها فيفخر بها على الآخرين ، رغم ما يخلفه من دماء وجثث وخراب .

إنهم يحصون الأيام، ويعدّونها بشغف المشتاق إلى استكثارٍ منها ، رغم أنهم لم يعوا من حقيقة هذه الحياة شيئاً مما أعلمنا به الله، إذ قال جل شأنه وتقدست كلماته :  ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)) إلى أن يقول : ((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ))

فهل تعشق الحياة عشق إدمان بلا هداية بعد هذا العلم الذي بينه ربنا لنا ، وفيه بيان ماهية هذه الحياة الدنيا، وأن المستقر الدائم الذي لا مناص من الوفود إليه هو الآخرة التي هي الحيوان ، وهي إما سعادة أبدية ، وإما جحيم أبدي؟! : (( لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ )) الصافات :61 . وهنا يجب أن نفك المرساة ، ونضع المجاديف ونبدأ الرحلة ، بعيداً عن غبش الوهم بالخلود في الحياة أو وهم السعادة ، التي لم يجدها عبد فيها إلا ملوثة بمنغصات لا تبقي ولو على ابتسامة خالدة ، فعلام هذا الضجيج الإعلامي المحموم والمكثف من أجل وضع هذه الحياة في القلب وفي الروح ثم في الجوانج ؛ إذ يدعوننا إليها بدعاوى المتعة حراماً كانت أم حلالاً .. لا يهم ، وبدعاوى الاستزادة من همٍّ يومي ، يقود إلى التسوق ، الذي يروجون له وكأنه عبادة ، فهم يضعون الآمال الوهمية بين يديك، ويغرونك دائماً ولكن بماذا ؟ هل بتهيئة النفس ليوم آت لا بد منه ؛ فكل يوم يمضي من حياتنا يقربنا منه ؟ أم بعلم إنساني وعمل رباني ، يقود الإنسان إلى خدمة أخيه الإنسان ، ثم هو يؤول به إلى موت سعيد ؛ إذ يسوقه إلى آخرة فائزة : ((وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) العنكبوت : 64 ، ألم يتدبروا أمر الله لنا، قائلاً جل من قائل: ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) القصص : 77 ، وكأنهم لم يصلهم إنذار الله جلت عظمته القائل : ((فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) )) النازعات. وكأنهم لم يقرأوا بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي يصف فيه مكانة هذه الدنيا التي تملأ عليهم كل منافذ حياتهم : ( ما مَثَلُ الدنيا في الآخرة إلا مِثْلُ ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع ) رواه مسلم . وكأنهم لم يعلموا ما وصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم الوهن ، الذي هو سبب من أهم أسباب الذل والهوان ، فقد سئل عليه الصلاة والسلام : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : ( حب الدنيا وكراهية الموت ) رواه أبو داود بسند صحيح .

وأخيراً ، يجب أن نقول : إن حب الحياة الدنيا الذي اشتد غزوه للقلوب من قبل وسائل الإعلام العصرية ، وإن ثقافة هذا الحب المضلل لهو سائر بالناس نحو التلف والهلاك ، ونحن إذ نقول ذلك فإننا لا نعني به إهمال هذه الحياة ، وتركها للشر والأشرار ، لا ، أبداً .. إنها دعوة إلى التوازن وفهم أهداف الحياة التي خلقها الله فينا ، حيث أراد لنا أن نحيا من أجل الآخرة ، وأن نستعمر الدنيا والأرض من أجل بث الخير والصلاح فيهما ، فهي دار اختبار ومرور إلى الحياة التي هي الحياة الحقة ، فلنملأها بما يضمن لنا حياة أخروية أبدية سعيدة ، وليكن من ثقافتنا ما رواه الدليمي : ( لا تسبوا الدنيا، فلنعم المطية للمؤمن! عليها يبلغ الخير، وعليها ينجو من الشر ) . وكذلك ليكن من ثقافتنا أننا نردد مع الشهاب ما رواه ( أصلحوا دنياكم واعملوا لآخرتكم ) ، ومن ثقافتنا أيضاً الحديث الصحيح الذي رواه أحمد : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرأ منا شربة ماء ) .