قدوة القيادة في الإسلام 32

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة الثانية والثلاثون

د. فوّاز القاسم / سوريا

تقديم نفسه الشريفة وآل بيته الأطهار ، في المغرم ، وعفتهم في المغنم 

لقد كان من أهم آيات نبل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن أهم مظاهر قدوته ، أن يقدّم نفسه الشريفة ، وآل بيته الأطهار ، في المغارم ، ويعفّون في المغانم .

فلقد رأينا في القسم الأول من هذه الدراسة ، كيف كان رسول الله   صلى الله عليه وسلم ، قدوة لأصحابه في المحن ، وكيف كان يدرِّب آل بيته الأطهار على ذلك أيضاً ، فقد كلَّف ابن عمه عليّ كرّم الله وجهه ، للمبيت في فراشه ليلة هجرته الشريفة ، في أروع عملية استشهاد فدائية في ذلك العصر، وكذلك هو الحال في المرحلة المدنية...

فأول غزوة في سبيل الله ، قادها النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بنفسه ، وهي غزوة وَدّان ، التي حدثت في صفر ، على رأس اثني عشر شهراً من مقدمه المدينة المنورة .

وأول سريّة في الإسلام ، كلَّف بها رجلاً من آل بيته ، وهو عبيدة بن الحارث ، وفي رواية حمزة بن عبد المطلب ، رضي الله عنهما .

وأول مبارزة في الإسلام ، ندب لها مجموعة من آل بيته الأطهار .

قال ابن اسحاق متحدثاً عن معركة بدر : ثم خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة ، وابنه الوليد بن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، هم : عَوْف ، ومُعَوِّذ ، ابنا الحارث _ وأمهما عفراء _ ورجل آخر ، يقال:  هو عبد الله بن رواحة ، فقالوا : من أنتم ؟

قالوا : رهط من الأنصار . قالوا : ما لنا بكم حاجة ، ثم نادى مناديهم :  يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ؛ وفي رواية ، قالوا لهم : أكفاء كرام ، إنما نريد قومنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا عليّ .

فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم ؟ فلما عرّفوا بأنفسهم ،قالوا : أكفاء كرام . فبارز عبيدةُ ، وكان أسنَّ القوم ، عتبةَ بن ربيعة ،  وبارز حمزةُ ، شيبةَ بن ربيعة ، وبارز عليُّ ، الوليدَ بن عتبة .

فأما حمزةُ فلم يمهل شيبةَ أن قتله ، وأما عليُّ فلم يمهل الوليد أن قتله.

واختلف عبيدةُ وعتبةَ بينهما ضربتين ، كلاهما أثبت صاحبه ، وكرّ حمزةُ وعليُّ بأسيافهما على عتبة فذفَّفا عليه ، واحتملا صاحبهما فحاذاه إلى أصحابه .          هشام 1 ( 625 )

بل يجب أن نعلم أيضاً ، بأن حمزة رضي الله عنه ، هو أول من قاتل في بدر ، حتى قبل أن تنشب المبارزة .!

قال ابن اسحاق متحدثاً عن بدر أيضاً : وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي ، وكان رجلاً شرساً سيء الخُلُق ، فقال : أعاهد الله لأشربنَّ من حوضهم ( يعني المسلمين ) ، أو لأهدمنَّه ، أو لأموتنَّ دونه .!

فلما خرج ، خرج له حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، فلما التقيا ، ضربه حمزة فأطنَّ قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دماً نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد ( زعم ) أن يبرَّ بيمينه ، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض .        هشام 1 ( 625 )

وهكذا بالنسبة لبقية المعارك والمشاهد ، التي وقفنا على بعضها في الصفحات السابقة ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآل بيته الأطهار رضوان الله عليهم ، أكثر الناس حضوراً ، وأعظم الناس تضحية ، وأشد الناس بلاءً ، هذا في المغارم ..

وأما في المغانم ، فلقد كانوا أعفَّ الناس ، وأزهد الناس ، وأكرم الناس . قال ابن اسحاق ، يحدّث عن أموال هوازن وسباياها ، وعطايا المؤلفة قلوبهم ، وإنعام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآل بيته رضوان الله عليهم ، على الناس فيها : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف عن الطائف ، وكان معه من سبي هوازن ، ستة آلاف من الذراري والنساء ، ومن الإبل والشَّاء ، ما لا يُدرى ما عدّته .!

قال : ثم إن وفد هوازن أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أسلموا ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا أصلٌ وعشيرة ، وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك ، فامنن علينا منَّ الله عليك .

قال : وقام رجل من هوازن يُكنّى أبا صُرَدْ ، فقال : يا رسول الله ، إنما في الحظائر عمّاتك وخالاتك وحواضنك اللائي كنَّ يكفلنك ، ولو أنا مَلَحْنا للحارث بن أبي شمر ، أو للنعمان بن المنذر ، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به ، رجونا عطفه وعائدته علينا ، وأنت خير المكفولين .

قال ابن اسحاق : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم ؟ فقالوا : يا رسول الله ، بل تَرُدُّ إلينا نساءنا وأبناءنا ، فهو أحب إلينا ؛ فقال لهم : (( أما ما كان لي ولبني عبد المطّلب ، فهو لكم )) .

وإذا ما صليت الظهر بالناس ، فقوموا فقولوا : إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين ، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا ، فسأعطيكم عند ذلك ، وأسأل لكم .

فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر ، قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

(( أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم )) .

فقال المهاجرون : وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقالت الأنصار مثل ذلك . وبهذا يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته الأطهار ، قد ضربوا أروع الأمثال في العفة والكرم والجود والإحسان ، مما كان له أروع الأثر في نفوس من أسلم من أهل الطائف ، وكذلك في نفوس من بقي منهم على شركه ، الذين لم يتمالكوا أنفسهم أن جاؤوا يعلنون إسلامهم أجمعين .!

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعطي المسلمين من الغنائم والأنفال عطاء من لا يخشى الفقر ، ويكون هو وآل بيته ، أقل الناس وآخرهم أخذاً .

قال ابن اسحاق : ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من رد سبايا حُنَيْن إلى أهلها ، ركب ، وأتبعه الناس يقولون : يا رسول الله ، اقسم علينا فيئنا من الإبل والغنم ، حتى ألجؤوه إلى شجرة ، فاختطفت عنه رداءه ، فقال : أدّوا عليّ ردائي أيها الناس ، فوالله أن لو كان لكم بعدد شجر تهامة نَعَمَاً لقسمته عليكم ، ثم ما ألفيتموني بخيلاً ولا جباناً ولا كذّاباً ، ثم قام إلى جنب بعير ، فأخذ وَبَرَة من سنامه ، فجعلها بين أصبعيه ، ثم رفعها ، ثم قال : (( أيها الناس ، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة ، إلا الخُمُس ، والخُمُس مردود عليكم)).!

ولم يكتف بذلك ، بل حرَّم الصدقة على نفسه الشريفة ، وعلى آل بيته الأطهار رضوان الله عليهم .

فلقد أورد ابن هشام في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن قوله : (( وأن الصدقة لا تحل لمحمد ، ولا لأهل بيته ، إنما هي زكاة يُزكى بها على فقراء المسلمين ، وابن السبيل )). 

هشام 2 ( 590 )

ولقد اقتدى بهذه الأخلاق الربانية ، آل بيته الأطهار رضوان الله عليهم ، فكانوا قدوة للمسلمين في العفة والترفع .

قال ابن هشام : إن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه ، دخل يوم حُنَيْن على امرأته ، فاطمة بنت شيبة بن ربيعة ، وسيفه يقطر دماً ، فقالت : والله إني قد عرفت أنك قد قاتلت ، فماذا أصبت لنا من أموال المشركين !؟ فقال : دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك ، فدفعها إليها، فلما سمع منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ شيئاً فليرده ، حتى الخياط والمخيط ، رجع عقيل إلى زوجته وقال لها : والله ، ما أرى إبرتك إلا قد ذهبت ، فأخذها ، فألقاها في الغنائم .!!! هشام 2 ( 492 )

يا اللــــــــه .! يــا للعظمة ..!! ويــا للروعة ..!!!

عقيل بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يستكثر على نفسه ، ويستكثر على امرأته ، إبرة ، من أموال المسلمين ، وسيفه يقطر من دماء المشركين .!؟

وكذلك فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، فلقد ضربوا في حياتهم أروع الأمثال في العفّة والقدوة .

انظروا مثلاً إلى عملاق الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يتألق في التاريخ .!

قال أبو عثمان النهدي : كنت مع عتبة بن فرقد حين افتتح أذربيجان،  فصنع سفطين من خبيص (طعام) ، وألبسهما الجلود واللبود ، ثم بعث بهما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع سحيم مولى عتبة .

فلما قدم عليه قال : ما الذي جئت به أذهب أم َورِقْ ؟

وأمر به فكشف عنه ، فذاق الخبيص ، فقال : إنَّ هذا لطيب أُثْرٌ .! أكلُّ المجاهدين أكل منه شبعه .!؟

قال : لا ، يا أمير المؤمنين . إنما هو شيء أخصك به .

فكتب إليه عمر  : ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى عتبة بن فرقد . أما بعد ، فليس من كدّك ، ولا كدّ أمّك ، ولا كدّ أبيك ،

لا نأكل إلا مما يشبع منه المسلمون في رحالهم ). 

(فتوح البلدان ص814 ) (احمد عادل كمال ج/3 ص 256 ) .

ولندع حديث العمالقة الكبار أمثال عمر ، فذاك رجل أدال الدول، وهز التيجان ، ودوّخ التاريخ .! ولنأخذ واحداً من مغموري الصحابة الكرام ، ومن الذين قادوا معارك عسكرية خاسرة ، فقد أورد الطبري 4/66 س ش س عن النضر بن السري الصبي ، أن أبا عبيد بن مسعود الثقفي ، قائد موقعة الجسر ، لما انتصر على الفرس في معركة السقّاطية ، 12 شعبان –13 هـ ، وكانت قبل معركة الجسر،  جاءه مجموعة من دهاقنة السواد ، بآنية فيها أنواع من الأطعمة الفارسية الفاخرة ، فقدموها اليه ، وقالوا :  هذه كرامة أكرمناك بها ، وقِرىً لك . قال : أأكرمتم الجندَ وقريتموهم مثله .؟ قالوا : لم يتيسر ونحن فاعلون .

فرفض أبو عبيد الطعام وقال : لا حاجة لنا فيما لا يسع الجند . بئس المرءُ أبو عبيد  إن صحب قوماً من بلادهم ، اهراقوا دماءهم دونه أولم يهرقوا ، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه .

لا والله لا نأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم ..!

فذهب ألدها قين ، وأعدوا طعاماً لجيش أبي عبيد كله ، وفي اليوم التالي عادوا فقدموا له الطعام ، فلما أراد أن يرفضه قالوا :

كُلْ ، فانه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منـزله بشبعه ، بمثل هذا وأفضل .! فلما تأكد ( القائد) من صحة قولهم .

قال : الآن .. نعم .. وأكل .. رضي الله عنه .

نعم والله … لم يكن يخطر ببال القائد منهم ، أن يؤثر نفسه بشيء دون إخوانه وجنوده ، حتى لو كان هذا الشيء هو الحياة بعينها .! 

قال طارق بن شهاب : كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس ،فلما اشتعل الوجع بالناس وبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه : ( أن سلام عليك ، أما بعد .. فقد عرضت لي حاجة أريد أن أشافهك فيها ، فاذا أتاك كتابي هذا ، فإني أعزم عليك إن أتاك ليلاً ، ألا تصبح حتى تركب ، وإن أتاك نهاراً ، ألا تمسي حتى تركب إلي . فإذا أنت نظرت في كتابي هذا ، ألا تضعه من يدك حتى تقبل ).

فعرف أبو عبيدة ما أراد عمر ، رضي الله عنهما،  فكتب إليه :

يا أمير المؤمنين ، قد عرفت حاجتك إليّ ، وأنك تستبق ما ليس بباق ، وإنّي في جند من المسلمين ، ولا أجد بنفسي رغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم قضاءه ، فحلّلني من عزيمتك يرحمك الله ...

فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى اخضلت لحيته .!

فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أمات أبو عبيدة .!؟

قال : لا … وكأنْ قَدْ .!!!   الكامل 2/558 .

ولقد ضرب أستاذ العسكرية ، وعبقريّ الحروب ، سيف الله ، خالد بن الوليد رضي الله عنه ، أروع الامثلة في القيادة القدوة .

حتى كسب ثقة جنوده ، وأسر أفئدتهم ، فكان يكفي للجيش أن يكون قائده خالد ، حتى يتطوع فيه المسلمون بالآلاف . 

ولقد أرعد فرائص أعدائه ، وشلّ تفكيرهم ، وكان يسبقه صيتُه مسيرة شهر.! 

ولم يحضر معركة إلا قابل فيها قائد العدو، فإما قتله ، وإما أسره .!!

ولقد حدثتنا كتب التاريخ عن قادة عمالقة ، تركوا جيوشهم وفروا منه رعباً ، فماتوا في الصحراء من العطش .!! 

يقول هذا العظيم : والله ، ما ليلةٌ تهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا  لها محبّ، بأحب إليّ ، من ليلةٍ شديدة البرد،  أبيتُ فيها والسماءُ تنهلُ عليَّ، على رأس كتيبة من المهاجرين والأنصار ، أُصبِّحُ قوماً أو أُمسِّيهم .!!!

ولما حضرت هذا العظيمَ الوفاةُ ، أسف وبكى أن يموت على فراشه بين أهله وأولاده ونسائه ، بعيداً عن ساحات الوغى ، حيث جنوده وإخوانه ،  فقال قولته المَثَلْ : ( ما في جسمي موضع شبر ، إلا وفيه ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء  .!!!)

ولا أحب أن أغادر هذه الفقرة ، قبل أن أوضّح الحقيقة الهامة التالية عن النظرة المالية للرسول القائد صلى الله عليه وسلم ..

فالرسول صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يعطي الناس الأموال على أساس الحب ، أو القرب ، أو الولاء ، بحيث يعطي أحبابه والموالين له والمقربين إليه ، ويحجب عن الأقل ولاءً ، أو المخالفين لرأيه .!

ولم يكن حتى ، يعطي على أساس الإيمان والتقى والسابقة ، فيعطي الأتقياء والملتزمين ، ويمنع قليلي الإيمان والمستجدين .!

بل العكس  تماماً هو الصحيح .

فلقد كان يؤلف بالمال قلوب الضعفاء ، والطلقاء ، والمهزوزين .

ويكل المؤمنين الراسخين من أحبابه ، وأتباعه ، وأصفيائه ، وآل بيته، رضوان الله عليهم ، إلى إيمانهم ، وعقيدتهم .

قال ابن اسحاق يحدث عن غنائم هوازن :

(( وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤلَّفةَ قلوبهم ، وكانوا أشرافاً من أشراف الناس ، يتألَّفهم ويتألّف بهم قومهم )).

وقال أيضاً : وأعطى عبّاس بن مرداس أباعر فسخطها ، فعاتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنشد الشعر في ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اذهبوا به فاقطعوا لسانه عني ، فأعطوه حتى رضي ، فكان ذلك قطع لسانه )). هشام 2 ( 494)

وقال ابن هشام عن أبي سعيد الخدري قال : لما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطى من تلك العطايا ، في قريش وفي قبائل العرب ، ولم يكن في الأنصار منها شيء ، وجد هذا الحيُّ من الأنصار في أنفسهم ، حتى كثرت منهم القالة ، حتى قال قائلهم : لقد لقي والله رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قومَه .!!

فدخل عليه سعد بن عبادة ، فقال : يا رسول الله ، إن هذا الحيّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ، قسمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء .

قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟ قال : يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي . قال : فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة . قال : فخرج سعد،  فجمع الأنصار في تلك الحظيرة . قال : فجاء رجال من الهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردّهم ، فلما اجتمعوا له ، أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ، ما مقالة بلغتني عنكم ، وجِدَة ، وجدتموها في أنفسكم عليّ ؟ ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم .!؟ قالوا بلى ، الله ورسوله أمنُّ وأفضل . قال : ألا تجيبوني ، يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بما ذا نجيبك يا رسول الله ، لله ولرسوله المن والفضل . قال : أما والله لو شئتم لقلتم ، فلصدَقْتُم ، ولصُدِّقتم : أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك.! أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعةٍ من الدنيا تألفتُ بها قوماً ليسلموا ، ووكلتُكم إلى إسلامكم ، ألا ترضون يا معشر الأنصار  أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم .؟ والذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً ، لسلكت شِعب الأنصار .

اللهم ارحم الأنصار ، وأبناءَ الأنصار ، وأبناءَ أبناءِ الأنصار . 

قال : فبكى القوم حتى اخضلّوا لحاهم ، وقالوا : رضينا برسول الله قسَماً وحظّاً ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرَّقوا. هشام 2 ( 500 )