ورد الأميرة

رقية القضاة

واستيقظت الأميرة على صوت آذان الفجر الندي ،وامتلأ قلبها حسرة وندما ،وقد فاتها وردها اليومي ساعة السحر ،وهي ساعة اعتادت فيها على ذكر الله والتهجد وقراءة القرآن،وعبثا حاول زوجها الامير أن يواسيها فقد ظلت متكدرة القلب يومها ذاك ،فيأمر الزوج بأن تدق الطبول في ارجاء القلعة في السحر كل يوم ،لكي يستيقظ كل من لديه ورد يومي يخشى فواته والحرمان من أجره

كانت تلك الزوجة هي {عصمة الدين خاتون } إبنة أمير دمشق {معين الدين انر }وزوجة نور الدين زنكي القائد الذي  لمّ شمل الأمة في وقت بلغت شرذمتها الاوج ،واحتلت اطرافها ،وقبلتها الأولى بيت المقدس،واستطاع أن يجمع الإمارات المتناحرة بالتعاون مع والد زوجته الصالحة والتي كانت هي السبب في توحيد دمشق وحلب ،فقد حاول أبوها ان يعقد صلحا مع الفرنجة ،بقصد حماية دمشق من الاحتلال ،ونسي أن الصليبيين أهل غدر ومكر ،وظنّ ان نور الدين زنكي طامع في دمشق لأجل الملك والسلطان ،ولم يكن يدري ان الامير الصالح مشغول القلب والعقل بما هو اكبر من الكرسي والصولجان ،فبلاد المسلمين ضعيفة وامراؤها يتناحرون فيما بينهم ،ومنهم من يصالح الفرنجة دون وازع من دين او ضمير،وبيت المقدس في يد الافرنج ،الذين جعلواالمسجد الاقصى اصطبلا لخيولهم ،وقد استهانوا بالامة جميعها ،لما هي فيه من الضعف والشرذمة والهوان

وفي قصر معين الدين أنر ،أميرة صالحة تقية ،وزهرة عفيفة نديّة ،قلبها معلّق بالقرآن ،ووقتها بين الفقه والأدب والعبادة ،وليلها قليل النوم كثير الذكر والقيام ،كانت تلك الاميرة هي عصمة خاتون ،الإبنة التي آلمها أن يسعى والدها لمصالحة الفرنجة ،بل والتحالف معهم ،وعاتبته وحاولت منع هذا الحلف الذليل ،ولكنه مضى في عزمه ذاك ،ولم يكن ما يفعله{ أنر }عن قلة دين ولا جهل بل عرف الامير بالصلاح والعدل ،ولكنه في حالة ضعف وخديعة من الشيطان ،يحاول القيام بما لم يعرضه على إيمانه وتقواه،فتقف البنت البارة بابيها موقف الناصح الامين ،ولما لم تجد لديه استجابة ،كتبت الى الامير نور الدين تحذره من الخطر الذي سيحيق بالامة دون أن تذكر اسمها ،وتعلمه ان أمير دمشق لا يعتقد أن هذا الامر سيكون له مردود سيء  على الدين والامة

ويتحرى نور الدين الأمر ويعرف هوية كاتبة الرسالة ،فيتصرف بحكمة وتعقل ،ويزور معين الدين أنر وتنتهي زيارته بتحالف قوي ومصاهرة كريمة ،وترتحل عصمة الدين خاتون مع نور الدين زنكي إلى حلب وقد اطمان قلبها على والدها وامتها ويجد فيها الأمير القائد عقلا ورايا سديدا وحكمة مشفوعة بحسن الخلق وصدق اليقين ومتين الدين ،وتبقى الخاتون مستشارة لزوجها المجاهد يحترم رأيها كما يحترم رأي إخوته من القادة المجاهدين ومنهم صلاح الدين الايوبي  حتى توفاه الله ،وتولى الامارة من بعده ولده الصالح اسماعيل الذي اشتهر بالورع والتقوى ،وتوفي ولم يتم العشرين من عمره

بقيت عصمة خاتون وحيدة ،ولكنها قوية صابرة تنفق مالها يمينا وشمالا في ما يرضي ربها ،ما بين رباط لفقراء المسلمين ووقف على تلاميذ المذهب الحنفي ،ونفقة على زوايا وحلقات العلم ،ويعرف لها فضلها قائد الامة المجاهد صلاح الدين الايوبي فيخطبها من أخيها ويتزوجها ،ويستشيرها في كثير من المواقف فلا يرى او يسمع الا ما يرفعها في نظره فيعلو قدرها لديه ،وقد أدرك عظم غيرتها على دينها ورغبتها في تحرير بيت المقدس وانفاقها مالها على هذه الغاية

ومضى القائد العظيم يسعى الى غايته النبيله ،وتحرير الاقصى حلمه ورضى الله مبتغاه ،وتنتقل عصمة الدين خاتون الى جوار ربها راضية مرضية ،ويكتم المقربون من صلاح الدين خبر وفاتها عنه ثلاث شهور لعلمهم بمنزلتها لديه ،خشية ان يضعفه حزنه على فراقها ، فالناس في المشاعر الإنسانية سواء مهما اختلفت مواقعهم ،فالعين تدمع والقلب يحزن ،ولكن الرضا لا يدركه إلا المحتسبون

لقد قدّمت المراة المسلمة نماذج لا حصر لها من  التميز، في كل موقع ومجال مما يشعرنا بالفخر اننا خلقنا نساء مسلمات