قدوة القيادة في الإسلام 28

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة الثامنة والعشرون

د. فوّاز القاسم / سوريا

فهم أصول الصراع مع الأعداء ، والبراعة في تطبيق مبادئ السياسة الشرعية :

إن أعظم القادة في التاريخ ، هم الذين يعرفون كيف يديرون دفة الصراع مع أعدائهم ، فلا يلجؤون إلى القتال أصلاً .!

وإذا اضطروا إليه ، فيعرفون كيف يربحون الحروب ، وينتصرون في المعارك ، بأقل جهود ، وأخف تضحيات ممكنة .

ولا يتأتى ذلك لهم إلا إذا كانوا على درجة عالية من العبقرية ، والذكاء ، والتمرس في أصول القيادة والمسؤولية .

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحداً من أولئك القادة العظماء ، بل هو سيدهم ومعلمهم على الإطلاق .

ولسنا نهدف من هذه الدراسة ، إلى إعطاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، صفات من النبوغ والعبقرية ، فوق ما أعطاه الله من جلال النبوة ، وعصمة الوحي ، معاذ الله ..!!

كما لا نريد أن نحمِّل القادة من بعده ، أكثر مما تطيق عقولهم ، وقدراتهم ، فنلزمهم بالتحليق في ذات الآفاق الشامخة التي كان يحلق فيها هذا القائد العظيم ..!

إنما أردنا أن نذكِّر فقط ببعض الإشراقات القيادية والدعوية ، التي عاشها النبي القائد صلى الله عليه وسلم ، فعلاً وواقعاً ..

لتكون مثابة ونبراساً ومشعلاً ، يقتدي بها ، ويهتدي بنورها ، كل من ابتلاه الله بمسؤولية القيادة والريادة في العمل الإسلامي المعاصر .

فلقد كان صلى الله عليه وسلم ، يضع أروع الخطط والمناهج لدعوته، من خلال فقه حركي واقعي منضبط ، يقدر فيه حاجات الظرف والمرحلة والواقع والإمكانات .

وكان تصرفه في مرحلة الاستضعاف المكية ، هو غير تصرفه في مرحلة التمكين المدنيّة .

ولقد رأيناه في القسم الأول من هذه الدراسة ، كيف كان يرد على كل استفزازات الأعداء ، ووقاحاتهم ، وتفاهاتهم ، في مكة ، بالمزيد من الصبر ، وضبط النفس ، واحتمال الأذى ، بل وحتى ، بالبكاء ، والدموع ، أحياناً .!

ثم يغير منهجه هذا ، عندما يتغير الظرف ، وتتغير المرحلة .

فنراه يدخل مكة فاتحاً ، فيجمع بين عزّة الفاتحين ، وتواضع المؤمنين بشكل مدهش .!

ففي الوقت الذي ينحني فيه تواضعاً لله تعالى ، حتى إن عُثنونه ليكاد يمس واسطة رحله .!

فإنه يأمر بحبس أبي سفيان زعيم الشرك في مضيق الوادي لكي تمر به كتائب الإيمان فتسحق أعصابه ، وتحطم معنوياته ، وتنزع من تفكيره أي أمل في المقاومة والتحدي .!

ويهدر دماء أناس بعينهم ، ويأمر بقتلهم حتى لو وُجدوا معلقين بأستار الكعبة المشرّفة .

ولا يدخل الكعبة المشرَّفة ، حتى يحطم كل ما كان فيها من الأصنام ، ويذل الشرك، وهو الذي طالما طاف حولها ، وصلى فيها ، وهي مليئة بالأوثان قبل ذلك .! 

وعندما يقف ليخاطب المشركين ، تتغير لهجته كذلك .!

فهو اليوم .. ليس ذلك اليتيم المسكين ، الذي يغشى المجالس ، ويتودد إلى الناس ، ويرجوهم أن يقبلوا ما جاءهم به ، فيؤمنوا به ، وينصروه .! إنما هو القائد الفاتح ، الذي يخاطب أعداءه المهزومين فيقول بعزة الفاتحين ، وشموخ المنتصرين :

(( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ،  وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده .. ألا كلُّ مأثرةٍ ، أو دمٍ ، أو مالٍ يدّعى ، فهو تحت قدميَّ هاتين ..!!)) هشام 2 (412) .

ويفرِّق بين أعدائه المحاربين ، والمسالمين .. ويعرف طريقة تفكير كل منهم ، فيتعامل مع المحاربين ، بغير المنهج الذي يتعامل به مع الموادعين والمسالمين .

ويبذل كل ما يستطيع من حنكة لعزل أعدائه وتحجيمهم .!

ويعمل بكل ما أُوتي من عبقرية ، لدق إسفينه بين صفوفهم ، وتفريق جموعهم ، وشرذمتهم .

وبالتالي .. إضعافهم ، وكسب معركة الصراع معهم .!

ولقد استوقفتني بعض اللفتات الرائعة في صلح الحديبية ، فكنت أقف لأجد نفسي أمام قائد عبقري من طراز متميز فعلاً .!

فهو يتمتع بأعلى درجات الكفاية ، والدراية ، والنبوغ ، والعبقرية ..!

وهو يقرأ خصمه من خلال تصرفاته ومواقفه ، ويرسم على ضوء هذه القراءة خططه وبرامجه ، فتأتي مطابقة للواقع تماماً .!

قال الزهري متحدثاً عن جولات المفاوضات التي جرت بين النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين المشركين ، في الحديبية :

ثم بعثوا إليه مِكْرِز بن حفص بن الأخيف ، أخا بني عامر بن لؤي ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، قال :

(( هذا رجل غادر .! )) ولقد كان فعلاً كما قال .!

قال : ثم بعثوا إليه الحُلَيْس بن علقمة ، وكان يومئذ ، سيد الأحابيش .

فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :

(( إنَّ هذا من قوم يتألَّهون ( أي يتعبدون ، ويعظمون أمر الإله ) فابعثوا الهديَ في وجهه حتى يراه )) .

وفعلاً ، فإن الحُلَيْس لما رأى الهديَ ، وعرف أن المسلمين إنما جاؤوا معظمين لهذا البيت ، ولم يأتوا معتدين أو محاربين ، رجع أدراجه إلى مكة ، وقال مخاطباً قريش :

يا معشر قريش ، والله ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم،

أيصد عن بيت الله من جاء معظماً له .!؟

والذي نفس الحُلَيْس بيده ، لتُخلُنَّ بين محمد ، وبين ما جاء له ، أو لأنفرنَّ بالأحابيش نفرة رجل واحد .!

قال الزهري : ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله ، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم مقبلاً ، قال : (( قد أرادَ القومُ الصلحَ حين بعثوا هذا الرجل .! )) ، وهذا الذي حصل فعلاً ، فلم يرجع الرجل حتى جرى الصلح بينهما .!       هشام2(316)

وعندما يتمعَّنُ المرءُ في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم ، التي كان يخاطب بها مفاوضيه ، يأخذه العجب والدَّهَشُ ، من حكمته وبراعته كل مأخذ .!

ومن هذه النصوص مثلاً ، ما خاطب به بُدَيْل بن ورقاء الخُزاعي :

(( إنَّا لم نجيء لقتال أحدٍ ، ولكننا جئنا معتمرين ، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب ، وأخذت بهم ، فإن شاؤوا ماددتهم مدَّةً ، ويخلُّوا بيني وبين الناس ، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإن هم أبوا ، فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذنَّ الله أمره )) هشام2 (309)

أية روعة ، وأية حنكة ، وأية دراية ، وأية عبقريّة ، تلك التي كان يتمتع بها هذا القائد العظيم ، صلى الله عليه وسلم .!؟

إنه يريد الصلح ، ويخطط له منذ البداية ، ولربما كانت عنده أوامر من الوحي بهذا الشأن ، ولذلك لما بركت ناقته القصواء ، وقال عنها الصحابة الكرام رضوان الله عليهم : بأنها قد خلأت ، قال :

(( ما خلأت ، وما ذلك لها بخُلُقْ ، ولكن حبسها حابس الفيل ، والله،لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة ، يسألونني فيها صلة الرحم،  وتعظيم البيت ، إلا أعطيتهم إياها .!)) هشام 2 (310)

إذاً هو يريد الصلح ، ويخطط له ، بناءً على إشارات تلقَّاها من ربه ، ولكنَّ الذي يريد الصلح في الحروب والمعارك ، لا يهرول إليه ، ولا يتهافت عليه ، لكي لا يطمع به الأعداء ، بل يظهر شيئاً من التجمّل والجلادة والقوّة  .

وهاهو إمام الدعاة ، وقائد المجاهدين ، وقدوة القادة ، يعلّم القادة من بعده أصول المفاوضات ، وفنون الصلح ، فهو  :

1. يظهر نيَّاته السلمية غير العدوانية ، وكأنه يلمّح لقريش بحقيقة ظلمها له ، واعتدائها عليه ، وإخراجه من وطنه ، وصدّها له ولإخوانه عن زيارة هذا البيت المعظَّم (( إنّا لم نأتِ لقتال أحد ، ولكننا جئنا معتمرين )).

2. يعرّض بأعدائه ، ويشعرهم بأنه على علم تام بما وصلت إليه أحوالهم ، من الضعف ، والترهل ، والتشرذم ، بعد ما يزيد على ستة أعوام من الحروب ، لم يحصدوا فيها غير الخيبة والخسران (( وإنَّ قريشاً قد نهكتهم الحرب وأخذت بهم )).

3.  ثم يعرض عليهم الإسلام ، بلهجة المشفق والمتفضل ، ليخرجهم مما هم فيه من وضع مزري (( وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا )).

4. وأخيراً يلوِّح لهم بالصلح من بعيد ، ولكنه الصلح العزيز ، الموشَّح بكل ما أوتي من عنفوان الإيمان ، وقوة العقيدة ، ويوحي لأعدائه بأنه الأمل الأخير لهم ، في اللحظة الأخيرة :(( فإن شاؤوا ماددتهم مدَّةً ، ويخلُّوا بيني وبين الناس )).

أما إذا لم يقبلوا شيئاً من هذه العروض (( فوالذي نفسي بيده ، لأقاتلنَّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي ، أو لينفذنَّ اللهُ أمره)).