البنيان المرصوص

البنيان المرصوص

د. فوّاز القاسم / سوريا

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4)

)) الصف 4

عتاب من الله للمؤمنين الذين يقولون ما لا يفعلون ، واستنكار الله ، بل مقته لهذا الفعل ( والمقت أشد أنواع الكره والبغض ) .

وهذا غاية التفظيع والتقريع ، وهو موقف ينخلع له قلب المؤمن الصادق ، ويرتجف له ضميره الحيّ .

وفي مقابل مقت الله ، هناك حبّ الله للذين يقاتلون في سبيله متّحدين متراصّين ...

 ( إنه قتال الجماعة ، الموحّدة ، المتعاونة ، المتآزرة ، المتراصّة ، صفّاً ، كأنه بنيان مرصوص )

إن القرآن العظيم أيها الأحباب نزل ليبني أمة ، والأمة أول وظيفة لها في هذا الوجود هي : أن تقوم على أمانة دين الله في الأرض , ومنهجه في الحياة , ونظامه في الناس .

ولا يتصور الإسلام قائما إلا في محيط جماعة منظمة ذات ارتباط , وذات نظام , وذات هدف جماعي منوط في الوقت ذاته بكل فرد فيها ...

وننظر في هذه الآيات الثلاث فنرى امتزاج الخلق الفردي ، بالحاجة الجماعية , في ظل العقيدة الدينية , وطبيعتها التي تقتضي تحقيقها في الحياة البشرية في صورة نظام يقوم عليه من يحرسه ويتولاه .

إن الآيتين الأوليين تتضمنان العقاب من الله سبحانه والاستنكار لأن يقول الذين آمنوا ما لا يفعلون . .

وهما بهذا ترسمان الجانب الأصيل في شخصية المسلم . . الصدق . . والاستقامة . وأن يكون باطنه كظاهره , وأن يطابق فعله قوله . . إطلاقا . . وفي حدود أبعد مدى من موضوع القتال الذي يجيء في الآية الثالثة .

أما الآية الثالثة فهي ترسم للمجاهدين أفضل صيغة يحبها الله لجهادهم ، وهي الوحدة الجهاديّة ...

ونقف بإعجاب أمام هذا التعبير المدهش ، الذي يعبّر عن الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا عليها : ( صفا كأنهم بنيان مرصوص). .

فهو تكليف فردي في ذاته , ولكنه فردي في صورة جماعية . في جماعة ذات نظام . ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية , ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة ; فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا . صفا سوياً منتظما , وصفا متينا راسخا ..

وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم , وتوضح لهم معالم الطريق , وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: ( صفا كأنهم بنيان مرصوص). .

بنيان تتعاون لبناته وتتضامن وتتماسك , وتؤدي كل لبنة دورها , وتسد ثغرتها , لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها . تقدمت أو تأخرت سواء . وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء . .

إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام . التعبير المصور لطبيعة الجماعة , ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة . ارتباط الشعور , وارتباط الحركة  داخل النظام المرسوم , المتجه إلى هدف مرسوم .