القولُ الأمتَع في حديث: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ)

د. عبد المجيد البيانوني

القولُ الأمتَع في حديث: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ)

نظرات نفسيّة، وتأملات اجتماعيّة، وتوجيهات تربويّة

د. عبد المجيد البيانوني

الحمد لله ربِّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على نبيِّنا مُحمّد، سيّد الأوّلين والآخرين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد ؛ فإنّ الحديث النبويّ الشريف وحيٌ من وحي الله، يخرج من مشكاة الحقّ والهدى: (وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى) النجم، ولقد أوتي المصطفى صلى الله عليه وسلم الحكمة وفصل الخطاب، وخُصّ بجوامع الكلم، ومنتهى الحكم، فكان كلامه القول الفصل في كل أمر أو نهي، فلا يحاط بدقائق قوله ومعانيه، ولا يبلغ الفصحاء والبلغاء، وأهل العقول والحجا أغوار ما فيه، فهو لا يزال يَهَبُ الأيام من معين الحقّ فيضاً بعد فيض، ليكون هداية الخلق إلى الحقّ، وحجّة الله على الخلق، حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.

ومن هذه الأحاديث الشريفة الجَامعة، التي حوت عجائب الحكم البالغة، وأصول القيم الرفيعة، والأسرار النفسيّة والاجتماعيّة البديعة: قولُ المصطفى صلى الله عليه وسلم: (تُنْكَحُ المَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ).

 

وأحبّ في هذه العجالة الموجزة أن أقف على بعض أسرار الموازنة التي يعقدها هذا الحديث الصحيح بين طلب ذات الدين، الذي يحثّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويوصي بالحظوة به، وبين طلب ذات الجمال، وما يتصل به من المعاني الأخرى أو يشبهه. فأقول وبالله التوفيق:

1 ـ وقفة مع معاني الحَديث عند شُرّاحه:قال الإمام ابن حجر: " وَالحَسَب فِي الأَصْل الشَّرَف بِالآبَاءِ وَبِالأَقَارِبِ، مَأْخُوذ مِنْ الحِسَاب، لأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا تَفَاخَرُوا عَدُّوا مَنَاقِبهمْ وَمَآثِر آبَائِهِمْ وَقَوْمهمْ وَحَسَبُوهَا فَيُحْكَم لِمَنْ زَادَ عَدَده عَلَى غَيْره. وَقِيلَ الْمُرَاد بِالحَسَبِ هُنَا الْفِعَال الحَسَنَة. وَيُؤْخَذ مِنْهُ أَنَّ الشَّرِيف النَّسِيب يُسْتَحَبّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّج نَسِيبَة إِلاّ إِنْ تَعَارَضَ نَسِيبَة غَيْر دَيِّنَة وَغَيْر نَسِيبَة دَيِّنَة فَتُقَدَّم ذَات الدِّين، وَهَكَذَا فِي كُلّ الصِّفَات .

 

قَوْله: (وَجَمَالهَا) يُؤْخَذ مِنْهُ اِسْتِحْبَاب تَزَوُّج الجَمِيلَة إِلاَّ إِنْ تُعَارِض الجَمِيلَةُ غَيْر الدَيِّنَة وَغَيْرُ الجَمِيلَة الدِّينَةَ، نَعَمْ لَوْ تَسَاوَتَا فِي الدِّين فَالجَمِيلَة أَوْلَى، وَيَلْتَحِقُ بِالحَسَنَةِ الذَّات الحَسَنَة الصِّفَات، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُون خَفِيفَة الصَّدَاق..

قَوْله: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّين) فِي حَدِيث جَابِر: (فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّين)، وَالمَعْنَى أَنَّ اللاَّئِق بِذِي الدِّين وَالمُرُوءَة أَنْ يَكُون الدِّين مَطْمَح نَظَرِهِ فِي كُلّ شَيْء، لا سِيَّمَا فِيمَا تَطُول صُحْبَته، فَأَمَرَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِتَحْصِيلِ صَاحِبَة الدِّين، الَّذِي هُوَ غَايَة الْبُغْيَة.

وَقَدْ وَقَعَ فِي حَدِيث عَبْد الله بْن عَمْرو عِنْد اِبْن مَاجَهْ رَفَعَهُ: (لا تَزَوَّجُوا النِّسَاء لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنهنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ ـ أَيْ يُهْلِكهُنَّ ـ وَلا تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالهنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّين، وَلأَمَة سَوْدَاء ذَات دِين أَفْضَل).

قَوْله: (تَرِبَتْ يَدَاك): أَيْ لَصِقَتَا بِالتُّرَابِ، وَهِيَ كِنَايَة عَنْ الْفَقْر، وَهُوَ خَبَر بِمَعْنَى الدُّعَاء، لَكِنْ لا يُرَاد بِهِ حَقِيقَته، وَبِهَذَا جَزَمَ صَاحِب " الْعُمْدَة "، زَادَ غَيْره أَنَّ صُدُور ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي حَقّ مُسْلِم لا يُسْتَجَاب لِشَرْطِهِ ذَلِكَ عَلَى رَبّه، وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِير شَرْط، أَيْ: وَقَعَ لَك ذَلِكَ إِنْ لَمْ تَفْعَل، وَرَجَّحَهُ اِبْن الْعَرَبِيّ.

قَالَ الْقُرْطُبِيّ: " مَعْنَى الحَدِيث أَنَّ هَذِهِ الخِصَال الأَرْبَع هِيَ الَّتِي يُرْغَب فِي نِكَاح المَرْأَة لأَجْلِهَا، فَهُوَ خَبَر عَمَّا فِي الْوُجُود مِنْ ذَلِكَ، لا أَنَّهُ وَقَعَ الأَمْر بِذَلِكَ، بَلْ ظَاهِره إِبَاحَة النِّكَاح لِقَصْدِ كُلّ مِنْ ذَلِكَ، لَكِنَّ قَصْدَ الدِّين أَوْلَى، قَالَ: وَلا يُظَنّ مِنْ هَذَا الحَدِيث أَنَّ هَذِهِ الأَرْبَع تُؤْخَذ مِنْهَا الْكَفَاءَة أَيْ تَنْحَصِر فِيهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَد فِيمَا عَلِمْت، وَإِنْ كَانُوا اِخْتَلَفُوا فِي الْكَفَاءَة مَا هِيَ " .

وقال الإمام النووي: " الصَّحِيح فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيث أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِمَا يَفْعَلهُ النَّاس فِي الْعَادَة، فَإِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ هَذِهِ الخِصَال الأَرْبَع، وَآخِرهَا عِنْدهمْ ذَات الدِّين، فَاظْفَرْ أَنْتَ أَيّهَا المُسْتَرْشِد بِذَاتِ الدِّين ".

" وَفِي هَذَا الحَدِيث الحَثّ عَلَى مُصَاحَبَة أَهْل الدِّين فِي كُلّ شَيْء، لأَنَّ صَاحِبهمْ يَسْتَفِيد مِنْ أَخِلاقهمْ وَبَرَكَتهمْ، وَحُسْن طَرَائِقهمْ، وَيَأْمَن المَفْسَدَة مِنْ جِهَتهمْ ".

2 ـ إلى مَن يَتَوَجّهُ هذا الحديث: ولعلّ بعض الناس يظنّ أنّ هذا الحديث موجّه إلى طالبي الزواج من الشباب فحسب، ولكنّه في حقيقته ومراميه موجّه إلى فئات المجتمع كافّة، بما يناسب موقع كلّ فئة ومسئوليّتها:

ـ فهو موجّه إلى الشباب ليُحسنوا النظر، ويُحكموا الموازين في أنفسهم، وفي اختيار شريكة حياتهم، فلا يؤخّروا ما حقّه التقديم، ولا يغفلوا ما حقّه الاهتمام والتعظيم، ولا يغترّوا بمظاهر خادعة، ليس وراءها ما يسعد وينجد..

ـ وهو موجّه إلى كلّ فتاة، هي محطّ أنظار الخاطبين والخاطبات، لتعْرف ما يطلبه الجنس الآخر فيها، وما تملكه من مواهب، وما ينبغي عليها أن تملك، وتتحقّق به من مزايا وصفات..

ـ وهو موجّه إلى أولياء أمور المسلمين، ليضعُوا بناء الأسرةِ موضعها في سلّم الأولويّات من خطط التنمية البشريّة، لخدمة الإنسان ذكراً كان أو أنثى، وليقفوا من الأعراف الطاغية، والعادات الجائرة موقف التقويم الجادّ، فلا يتركوها تعيث فساداً في حياة الناس وعلاقاتهم، إذ إنّ بناء الأسرةِ على الأسس الصحيحة أصل التنمية البشريّة القويمة.

ـ وهو موجّه إلى أولياء أمور النساء بوجه خاصّ، كيلا تذهب بهم رياح الأعراف والتقاليد عن الموازين القسط، ولا تشتطّ بهم الأعراض عن الجواهر، ويخدعوا عن الحقائق بالمظاهر.

والمجتمع أيّ مجتمع لا يخرج في جملته عن هذه الفئات.

ولاشكّ أنّ معرفة المقصود بخطاب التكليف لها أهمّيّة كبيرة في تحديد المسئوليّة وطبيعتها وآثارها، فليس هذا الحديث إذن موجّهاً إلى فئة الشباب من كلا الجنسين فحسب..

3 ـ يجمع هذا الحديث بين عالم القيم وعالم الأشياء، ويتحدّث عنهما، ويوازن بينهما: وإذ كان الإنسان مخلوقاً من روح وجسد، فكذلك هذه الحياة يتوزعها عالمان: عالم القيم، وعالم الأشياء ؛ فعالم القيم يعود إلى عالم الروح وطبيعتها وأشواقها، وعالم الأشياء يعود إلى عالم الجسد وطبيعته ومتطلّباته.

وطبيعة عالم الأشياء تفرض عليه أن يكون من الوسائل، ممّا يجعله وسيلة لعالم القيم، يُتّخَذُ لبلوغها، ويُبذَل لأجلها، وهو عالم متطوّر متجدّد، متغيّر النوع والملامح بين جيل وجيل، ومجتمع وآخر.

وأمّا عالم القيم فهو عالم المبادئ والمقاصد، فهو على وجه العموم عالم الاستقرار والثبات والرسوخ.

وما أكثر الناس الذين يقفون أمام عالم الثبات والرسوخ عاجزين عن الالتزام به، والثبات عليه، ويفتنون بعالم الأشياء، فلا يفكّرون إلاّ به، ولا يزالون يلهثون وراء مظاهره ومتغيّراته، ويكونون من عبيده وأسراه.. فهو مطمح أبصارهم، وغاية أمنياتهم.!

وما أحوجنا إلى فقه الوسائل وفقه المقاصد، ودقّة التمييز بينهما، لتستبين معانيَها، وتُوضّح حدودَها ومعالمها. وكيلا تلتبس عَلينا بعض الأنواع ببعضها الآخر، وليُوضَع كلّ قصد وعمل في موقعه الصحيح، وسيلةً كان أم مقصداً..

وإنّ من أهمّ ما يستفاد من التمييز بين هذين العالمين:

ـ أنّ صورة الجمال الظاهرَة لا يدَ للإنسان في صُنعها، ولا قدرةَ له على تَغييرها وتبديلها، وربّما كان له قدرَة محدودة على تحسينها وتجميلها..

فهل من العقل وَحُسنِ التدبير لمصلحتك ـ أيّتها الفتاة ـ ألاّ تقفي إلاّ عندَها، ولا تفكّري إلاّ بِها.؟! وتسوء نظرتك إلى نفسك وإلى الحياة كلّها، أن كان حظّك من الجمال الظاهر ضعيفاً محدوداً.؟!

وهل من العقل والحكمة ـ أيّها الرجل ـ وَحُسنِ التدبير لأمرك ألاّ يهمّك في المرأة إلا هذا الأمر، الذي لا يكشف لك عن معدن الجنس الآخر وقيمته، بل يقدّم لك بهرجاً وزيفاً، وتغفل من رغباتك ما هو أهمّ وأعلى، وأولى بالاعتبار وأجدى.؟!

ـ وأنّ جمالَ القيم وسموّها لا حدّ لهُ ولا غاية، ولا أمد له ولا نهاية، أفما يحسن بكلا الجنسين إذن أن يوجِّه كُلّ عنايته إلى الاهتمام بجوانبه التي لا يحيط بها أحد، ولا ينقطع عن بحبوحَة ساحَاتها المدد، وهيَ تزداد مع الأيّام وتنمو، بينمَا تتناقص الأخرى وتضعف، وتسير في طريقها نحو التلاشي والزوال.. كما تذبلُ الوردة المتفتّحة التي تَخلب الأنظار، بعد أيّامٍ معدودة.. وتفقد أريجها المتضوّع، ثمّ تَكون هشيماً يابساً، ليس له من الوردة إلاّ اسمها ورسمها..

ـ إنّ عالم الأشياء إن لم يهيمن عليه عالم القيم ويقده كان أشبهَ بالمالِ في يد السفيه، أو السلاح في يد المجنون.

4 ـ تأرجح الإنسان ـ ذكراً كان أو أنثى ـ بين عالم القيم وعالم الأشياء:

 

والإنسان تبعاً لذلك يتنازعه عالم الأشياء، وعالم القيم، عالم الدنيا، وعالم الآخرة ؛ فإمّا أن يغلبه هذا، أو يغلبه ذاك، وهو في صراع دائم، ومكابدة دائبة، حتّى يستقر أمره على أحد الاتّجاهين، فينحياز إليه، ويسير في سبيله، أو يبقى في تجاذبٍ مدى حياته، وصراع في كلّ مواقفه وحركاته، فأولى له ثمّ أولى، فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة.؟!

ولو نظرنا إلى العلاقة بين هذين العالمين من الوجهات النفسيّة والاجتماعيّة والواقعيّة لرأينا أنّ ميزان عالم القيم عندما يثقل يخفّ في مقابله ميزان عالم الأشياء، وعندما يثقل ميزان عالم الأشياء في اعتبارات الناس يكون ميزان قيمهم طائشَ الكِفةِ مختلَّ الكيانِ، ولا تخرج عن هذه المعادلة إلاّ نوادر الأحوال والظروف التي لا يقاس عليها، والإسلام يطلب منا الموازنة الصحيحة بين العالمين، التي تعطي كلّ ذي حقّ حقّه، وتقوم على المبدأ القرآنيّ: { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين }[القصص].

وإذا كانت الموازنة الصحيحة بين عالم القيم وعالم الأشياء، والانحياز إلى عالم القيم، يدلّ على كمال عقل الإنسان ومبلغ رشده ؛ فإنّ لنا أن نلحظ: أنّ الأصل في الرجل أن ينحاز إلى عالم القيم، فيعيش لها، ويجتهد في نصرتها، ويضحّي في سبيلها، وهذا من بعض الحكم الإلهيّة في تحريم الحلي عليه والزينة والتشبّه بالنساء.

كما أنّ المرأة تميل بفطرتها إلى عالم الأشياء، فتُعنى بها، وتحرص عليها، وتعجب ببهارجها، وتتطلّبها وتتطلّع إليها، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين} [الزُّخرُف]

. وقد عبر الشاعر عن شيء من هذه الطبيعة أو الخليقة بقَوله:

إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُه*** فليسَ له في وُدِّهِنَّ نَصِيبُ

وليس إلحاقنا للمرأة بالميل إلى عالم الأشياء وإيثاره نوعاً من التحكّم لا مبرّر له، وإنّما هو نظر فطريّ أغلبيّ، تحكم به سنن الفطرة، ويؤيّده الواقع، ولا ينكره إلاّ ذو نظر قاصر، ولا يكابر فيه إلاّ ذو هوىً متعصّب..

وهذا الحديث يشير إلى هذا الواقع، واقع نظرة الناس وتعاملهم، كما الإشارة إلى ذلك، وليس المطلوب رفض هذا الواقع وإلغاءه، وإنّما التسامي فيه، ووضع الأمور مواضعها، ليكون الإنسان والواقع محكومَين بعالم القيم، تابعين لها.. ولاشكّ أنّ مراعاة الواقع وتقديره مطلب شرعيّ مؤكّد، على ألا يخلّ بما هو أجلّ وأعظم، وأولى وأرجح..

من حكمة الله تعالى في ميل الرجل إلى عالم القيم، وميلِ المرأة إلى عالم الأشياء: وهذا التوزع بين الرجل والمرأة، هو من بديع فطرة الله تعالى في خلقه، التي قدرها بحكمته تقديراً، ليعمر هذا الكون، ولتكتمل سنة الله في الابتلاء، ويؤهّل كلّ مخلوق لأداء وظيفته في هذه الحياة، فتأخذ الدنيا حظّها من الفتنة والابتلاء، فيبتلى الإنسان بها ذكراً كان أو أنثى، كلّ بحسب موقعه واهتمامه، حتّى يرث الله الأرض ومن عليها.

ولا يعني ذلك، أن أحد الجنسين إذا انحاز إلى عالم، أو غلب عليه أن يُلغَى العالم الآخر من كيانه وحياته، وأن يكون بعيداً عنه كلّ البعد، ولكنّنا نتحدث عن حالة الترجيح والإيثار، والانحياز والانسياق بنسب متفاوتة راجحة أو مرجوحة، وراء هذا العالم أو ذاك، وعن واقع الصراع الذي يعيشه الأفراد والمجتمعات في التجاذب بين هذين العالمين، والميل إلى أحدهما، والدوران في فلكه، وحمل لواء نصرته والدفاع عنه.

5 ـ ولعل قائلاً يقول: ومن أين لك هذا التقسيم والتفصيل، وتوزيع الميول والاتّجاهات.؟ وما دليلك عليه ؟

أفما يكفيه دليلاً أن يرى فطرة الله في خلقه أنّ الأنثى هي محلّ الزينة وموضع النظر والفتنة، ومتغنّى الشعراء، ومدار فنّ الأدباء، ومهوى أفئدة الرجال.؟ وأنّ قصد الزينة في حياتها، وحبّها والتعلّق بها، مما تنشأ عليه، ويملأ عِطفيها.؟ ويزداد تعلّقها به على تقدّم الأيام بها في الأعمّ الأغلب، وقد قال الحقّ تبارك وتعالى:{أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين}[الزُّخرُف].

وقال سبحانه: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب(13)قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد } [آل عمران].

ويعلّق سيّد قطب رحمه الله على هاتين الآيتين، فيقارب المعنى الذي نحن فيه بقوله: " وفي مجال التربية للجماعة المسلمة يكشف لها عن البواعث الفطرية الخفية التي من عندها يبدأ الانحراف، إذا لم تضبط باليقظة الدائمة، وإذا لم تتطلع النفس إلى آفاق أعلى، وإذا لم تتعلق بما عند الله، وهو خير وأزكى

إنّ الاستغراق في شهوات الدنيا، ورغائب النفوس، ودوافع الميول الفطرية هو الذي يشغل القلب عن التبصر والاعتبار، ويدفع بالناس إلى الغرق في لجة اللذائذ القريبة المحسوسة، ويحجب عنهم ما هو أرفع وأعلى، ويغلظ الحسّ، فيحرمه متعة التطلع إلى ما وراء اللذة القريبة، ومتعة الاهتمامات الكبيرة اللائقة بدور الإنسان العظيم في هذه الأرض، واللائقة كذلك بمخلوق يستخلفه الله في هذا الملك العريض.

ولمّا كانت هذه الرغائب والدوافع مع هذا طبيعية وفطرية، ومكلّفة من قبل البارئ جلّ وعلا أن تؤدي للبشرية دوراً أساسيّاً في حفظ الحياة وامتدادها، فإن الإسلام لا يشير بكبتها وقتلها، ولكن إلى ضبطها وتنظيمها، وتخفيف حدّتها واندفاعها، وإلى أن يكون الإنسان مالكاً لها متصرفاً فيها، لا أن تكون مالكة له متصرفة فيه، وإلى تقوية روح التسامي فيه، والتطلع إلى ما هو أعلى.

ومن ثمّ يعرض النصّ القرآنيّ الذي يتولّى هذا التوجيه التربويّ.. هذه الرغائب والدوافع، ويعرض إلى جوارها على امتداد البصر ألواناً من لذائذ الحسّ والنفس في العالم الآخر، ينالها من يضبطون أنفسهم في هذه الحياة الدنيا عن الاستغراق في لذائذها المحبّبة، ويحتفظون بإنسانيّتهم الرفيعة.

وفي آية واحدة يجمع السياق القرآنيّ أحبّ شهوات الأرض إلى نفس الإنسان: النساء والبنين والأموال المكدسة والخيل والأرض المخصبة والأنعام.. وهي خلاصة للرغائب الأرضية ؛ إمّا بذاتها، وإمّا بما تستطيع أن توفّره لأصحابها من لذائذ أخرى.. وفي الآية التالية يعرض لذائذ أخرى في العالم الآخر: جنّات تجري من تحتها الأنهار، وأزواج مطهّرة، وفوقها رضوان من الله.. وذلك كلّه لمن يمدّ ببصره إلى أبعد من لذائذ الأرض، ويصل قلبه بالله على النحو الذي تعرضه هاتان الآيتان ".

والعجب بعد ذلك كلّ العجب من مؤمن يرى زينة الدنيا الظاهرة، ويعلم أنّها محدودة زائلة، معلولة منغّصة، ويؤمن بنعيم الآخرة، ويعلم أنّه باق لا يزول، دائم لا يفنى، لا غمّ فيه ولا كدر.. ثمّ يتعلّق قلبه بالدنيا ويؤثرها، ويغفل عن الآخرة، ولا يستعدّ لها، ولا يجتهد في طلبها.؟!

وقدعبّر الشاعر عمر بن أبي ربيعة عن هذا اختلاف الاهتمامات بين الرجال والنساء، وتوزّع الأدوار بينهما بقوله:

كُتبَ القتلُ والقِتَالُ عَلينا***وعَلى الغانِيَاتِ جَرُّ الذيُولِ

وإذا كان هذا الحديث يذكر أربع خصال قد تُطلَبُ إحداها في المرأة، بحكم دوافع الرجال ورغباتهم، فإنّ التأمل في هذه الخصال يردّها إلى التقسيم الذي ذكرناه، لأنّ الحسب والمال هما من نوع عالم الأشياء، وهما ملحقان بالجمالِ، وتبع له.

وجمال المرأة من جهةٍ أخرى يعود إلى ذاتها وفطرتها، بخلاف الحسب والمال فإنّهما يفدان إليها، ويأتيانها من أسرتها أو البيئة المحيطة بها، فلا يد لها فيه ولا اختيار، ولا أثر لها في اصطناعه ولا اقتدار. وأمّا الدين فهو الذي يمثّل عالمَ القيم الثابتة الراسخة بأجلى صورها، وأجمل معانيها، وأرقى اعتباراتها.

6 ـ مثلٌ بليغ من بيت النبوّة: ولنا من واقع السيرة النبويّة وسيرة أمّهات المؤمنين في بيت النبوّة درس بليغ، مليء بالعبر والعظات ؛ فعندما لجّت تلك الدوافع بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، نتيحة ضيق النفس بشدّة العيش، والنظر في حياة مثيلاتهنّ، وما يتمتّعن به من نعمة ورخاء، وهنّ زوجات سيّد الخلق والرسل يعانين من شدّة العيش وشظفه، فاجتمعن على النبي صلى الله عليه وسلم، يطلبن زيادة النفقة، وأن يوسّع عليهنّ فيما أباح الله له، وتكرّر منهنّ الطلب، ولم يَكُنّ في ذلك متخلّياتٍ عن قيم الدين ومبادئه وآدابه.. وإنّما هي الرغْبة بعالم الأشياء، والمَيل إلى شيء من المباح، والحرص على الأخذ منه بحظٍّ، دونَ التخلّي عن عالم القيم، وماله من منزلة الصدارة في حياتهنّ.. فلمّا فعلن ذلك، وآذين مشاعر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإلحاحهنّ هجرهنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم شهراً، إذ إنّ حال البيت النبويّ من جهة يأبى أن يكون لعالم القيم ما ينازعه وينافسه.. كما أنّ استجابة النبيّ صلى الله عليه وسلم لطلبهنّ ـ لو كانت ـ ربّما أدّت مع الأيّام إلى التمادي في الحرص على التوسّع والازدياد من بسطة العيش وعالم الأشياء، حتّى يكون ذلك على حساب تألّقهنّ في عالم القيم والسمو فيه، فتبهت صورة الأسوة العظمى في تصوّر الأمّة عن حياتهنّ، وعن بيت النبوّة، وكلّ ما يتّصل به.. فإن لم تكن حياتهنّ هي الأسوة الحسنة لنساء الأمّة من بعدهنّ، في الصبر على شظف العيش، والتقلّل من الدنيا، فحياة مَن مِن النساء تكون كذلك.؟! ثمّ تنزلت آيات كريمات، بصورة حازمة صارمة، تخيرهنّ بين مثل هذه الحياة المثاليّة الكريمة في ظلّ النبوة، وإيثار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والدار الآخرة، وبين إيثار الدنيا وزهرتها، ولا يكون لهنّ ذلك إلاّ بفراق النبيّ صلى الله عليه وسلم، والخروج من هذا الظلّ الكريم، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً(28) وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب] فاخترن جميعاً بإيمانهنّ وعظيم يقينهنّ: اللهَ ورسولَه صلى الله عليه وسلم والدارَ الآخرةَ، وكان لهذه الحادثة دلالات عميقة، في التعريف بنفوس النساء، والأسلوب الأمثل في التعامل معهن، وما ينبغي من الحكمة والحزم أحياناً في سياستهن وحسن رعايتهن.

7 ـ وتقودنا هذه الواقعة إلى السؤال عن موقف الإسلام من هذا التباين والصراع، والتنازع والاختلاف بين عالم القيم، وعالم الأشياء.؟ وأين يريد لنا أن نكون من هذين الاتجاهين، وكيف نختاربينهما.؟ وهل يسعنا أن نجمع بينهما.؟!

فأقول: إنّنا نعلم أوّلاً أنّ الإسلام يحلّ لنا التمتّع بالطيّبات، ولا يرضى لنا تحريمها على أنفسنا، وهو دين المثاليّة الواقعيّة، الإيجابيّة البنّاءة، لم يهمل عالم الأشياء، ولم يتنكر لها، ولكنّه في الوقت نفسه لم يسمح لها أن تتمادى على عالم القيم أو تطغى، بل جعلها محكومة بعالم القيم مقودة له، وهل الحياة كلّها في مفهوم الإسلام إلاّ القيم تُستخدَم الأشياء وسائل لإقامتها وتحقيقها، وتسخيرها لإسعاد الإنسان بها.؟

ومن هنا فإنّ الانحياز لعالم الأشياء كما هي، تفكيراً واهتماماً وتحكيماً، يجعلها تطوّع القيم الصالحة، وتحرّفها لتخدمها، وتسخّرها لتبرّر اتّجاهها، كما يتيح لها أن تفرض القيم الفاسدة المُفسدة، الهابطة المُنحطّة، التافهة العابثة، على حياة الإنسان وسلوكه، ممّا يحجّم عالم القيم السامية في الإنسان، ويقتله أو يكبته، أو يجعله مظهراً لا قيمة له، وصورةً لا حقيقة لها.

وإن من واقعيّة الإسلام وإيجابيّته، واعتداله واتّزانه أنّه لم يرفض " عالم الأشياء " ولم يحاربه، وإنّما قدره بحدود تحمي القيم وتصونها، ولا تفرط بحقائقها ومثلها، ففرض فيما نحن فيه من هذا الباب ـ على سبيل المثال ـ تقديم المهر للمرأة، الذي يُعَدُّ رمزاً لتكريمها، وحفظ حقوقها، وتقدير الزوج لعالمها الذي تنتمي إليه بفطرتها، وتحرص على إعطائه حقّه من العناية والاهتمام، وجعل الإسلام للمهر حدّاً أدنى، ولم يجعل له حداً أعلى، ليكون بذلُ الزوج المقتدر للمرأة تعبيراً عن رغبته الصادقة بها، وإعلاءً لقيمة الزهد بعالم الأشياء في سبيل القيم التي يسعى الرجل لإقامتها وتحصينها، وإثباتاً عمليّاً أنّ " عالم الأشياء " تبع لعالم القيم وخادم لها.

8 ـ خطر تمادي المرأة في عَالم الأَشياء، وقصورها عن عالم القيم: ولكي تستقيم الحياة الإنسانيّة بين الجنسين لابدّ أن يكون عالم القيم هو الذي يحكم تصوّراتهما واهتماماتهما، وأن يكون عالم الأشياء تبعاً له، ومحكوماً به، وإذا لم يكن للمرأة حظّها المعقول المقبول، الراجح الثابت من عالم القيم، فإنّها لا تزال تتمادى بها الأيام في عالم الأشياء إيثاراً لها، وتعلّقاً بها، وسعياً لجمعها والتفاخر بها.. كما أن الرجل إذا كان ميّالاً للعالم الأليق به فإنّه لا يزال يزداد على الأيام رغبة بقيمه، وتعلّقاً بها، وحرصاً على الاستزادة منها، فمن هنا تبدأ شقّة الخلاف بين الزوجين، وتظهر زاوية البعد، وتتّسع المفارقة بينهما، وهي التي تشكو كثير من الأسر من آثارها، وقد بدأت أيامها الأولى بودّ ووئام، وتفاهم وتحابّ، ثمّ وهت العلاقة بين الزوجين مع مرور الأيام، حتّى آل الأمر إلى عقليتين متباينتين مختلفتين، تبحث كلّ منهما عن ذاتها في عالم بعيد عن عالم الأول واهتماماته واتّجاهه، ويعيش كلٌّ من الطرفين في فلكه الخاصّ، بعيداً عن الطرف الآخر وفلكه، ويؤثر كثير من الأزواج الصمت كلّما دخل بيته ويعتصم به.. لأنّه لا يرى جدوى من الكلام مع الطرف الآخر، وهو يراه يعيش في عالم غير عالمه، ومفاهيم واهتمامات تختلف كلّيّاً عن مفاهيمه واهتماماته، ولا يزال اختلاف الرؤى والمواقف يتمادى بكلا الطرفين، حتّى يئول الأمر بهم أخيراً إلى الفراق وانفصام عرا الزوجية، أو ما يسمّيه بعضهم بالطلاق العاطفيّ..

ويعجز عن اكتشاف أسباب هذه الظاهرة وتحليلها أكثرُ من كان على معرفة بهذه الأسرة، أو اتّصالٍ بها.. وربما يعزو بعض الناس ذلك إلى العين، أو الحسد، أو السحر، أو الاتّهام بسوء الخلق.. والقضيّة هكذا بدأت..

وإذا تسامى الطرفان إلى آفاق عالم القيم، والثقت رؤاهما على مبادئه وحقائقه، أو اجتمعا واصطلحا على الرضا بعالم الأشياء، وقنعا بها، وكانت الإمكانات المادّيّة تسعفهما في تحقيق ذلك لم تقم هذه المشكلة بهذه الصورة، وربّما مضى بهما ركب الحياة آمناً، ولكنّهما يسفّان بذلك إلى ما لا يحقّق بهما الحياة الإسلاميّة المنشودة..

ومن هنا فإنّ من مقتضى مسئوليّة الرجل عَن أسرته، وحقّ القوامة الذي وضعه الله في يده، وأوجبه عليه، أن يعتني بوجهتي المرأة النفسيّة والفكريّة، وتطلّعاتها السلوكيّة، ويغذّي في نفسها عالم القيم، ويرفع همّتها إلى آفاقه، ويرقى بها، ويتعهّدها بالموعظة الحسنة بين الحين والآخر، لتبقى وجهتها في الحياة واضحة القصد والهدف، وتكون على بصيرة من أمرها في كلّ خطوة من خطوات حياتها.. وهذا أمر يغفل عنه كثير من الرجال، ويُغفلونه، وهو بالغ الأهميّة والضرورة، كيلا تنزل المرأة عن الحدّ الأدنى في عالم القيم، فتهي علاقتها بها، وتستمرّ في ضعفها وفتورها، وتتحوّل من إرادة الآخرة، إلى إرادة الدنيا وإيثارها، وتستمرأ الالتصاق بعالم الأشياء، والتعلّق بها، وجمعها وتكديسها.

9 ـ أنواع الدوافع المذْكورة في هذا الحدِيث: ثمّ إنّ الدوافع المذْكورة في هذا الحدِيث هي تعبيرٌ نبويٌّ دقيق عَن أنواعٍ من الدوافع لا عن أفراد منها، وهذه الأنواع يمكنُ النظرُ إليهَا من زوايا متعدّدة:

أ ـ فهي من زاوية: منها ما يدخُلُ تحتَ إرادة الإنسان واختياره، ومنها ما لا يدخُلُ تحتَ إرادة الإنسان واختياره.

ب ـ وهي من زاوية أخرى: منها ما يكون من عَالم القِيَم، ومنها ما يكون من عالم الأشياء، أو يتبع لها.. فما يكونُ من عَالم القِيَم: هوَ الدين، والحسب، والجمال الباطن، وهو جمَال الروح والنفس، وجمال الخلق والمعانيّ الإنسانيّة الفطريّة، وهو الجمَال الحقيقيّ، الذي يرقى ويبقى، وإليه الإشارة في الحديث الشريف: (انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا).

وحديث: (الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ).

وأمّا ما يكونُ من عالم الأشياء، فهو المال بأنواعه، وجمال الصورة الظاهرة، مجرّداً عن جمال الخلق، والمعاني الإنسانيّة الكريمة.

ج ـ وهي من زاوية ثالثة: منها الأصيل الثابتُ، وهو ما يكون من قيم الحقّ والخير، وهو ما لا غنى للإنسان عنه بحال من الأحوال، ومنهَا النسبيّ المتغيّر، وهو ما يكون منْ عالم الأشياء، وقيم الباطل والشرّ، أو ما يشبهُ ذلكَ من سفساف الأمور، وقد يغني بعض ذلكَ عن بعض..

وإنّ أكثرَ الرجال إلاّ من شذّ وَانحرف، وفسدت فطرته، وغلبته شهواته، واتّبع هواه، وانساق وراء نزوة الشباب وطيشه ـ أكثر الرجال لا يتطلّبون في المرأة لتكون شريكة حياتهم جمال الصورة الظاهرة فحسب.. وإنّما يريدون جمال الصورة دالاًّ على جمال الروح الباطنة، التي تشرق على الظاهر، فتعطيه روعة الحسن الباهر، لا صورته التي تخدَعُ بها الأصباغُ والألوان.. بل قد رأينا كثيراً من غير المتديّنين يطلب في المرأة، التي يريدها شريكة حياته أن تكون متديّنة عفيفة، مصونة صالحة..

وأمّا منْ يرجّح جمال الظاهر فحسب فهو مختلّ الموازين، أحوج ما يكون إلى تَصحيح نظرته إلى الحياة الدنيا وعلاقتِه بها، وكثيراً ما يصطدم بالواقع، وتربّيهِ مدرسة الحياة، وتلقّنه درساً لن ينساه.. لأنّها قائمة على سنن ثابتة لا تتغيّر، ولا تحابي أحداً..

10 ـ ويشير هذا الحديث إلى قضيّة الكفاءة في الزواج، ويمكن أن يعدّ أصلاً لمن اعتبرها، مراعاة للواقع النفسيّ والاجتماعيّ الذي يحكم الناس، مع حثّ الإسلام على تسامي الإنسان عن ذلك، إعلاءللكفاءة في الدين، والتميّز بقيمه، ولكنّ الإسلام بواقعيّته التشريعيّة لا يفرض المثاليّة فرْضاً، وإنّما يحثّ عليها، ويُنهِضُ الهمم إليها، ويراعي مشاعر الناس بما لا يتعارض مع مبادئه وقيمه، ويسمو بهم إلى آفاقه الكريمة باليسر والرفق، لا بالشدّة والعنف.

11 ـ والسؤال المهمّ الذي يتَبادر إلى الأذهَان: لماذا حَثَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على مطلبِ الدينِ، وأكّد عليه من بين سائر المطالب.؟

إنّ مطلبَ الجمَال مطلبٌ فطريّ لا ينكر، ومطلبَ الحسب مطلبٌ اجتماعيّ، لا خلاف في أهمّيّته، ومطلبَ المال مطلبٌ فطريّ وشخصيّ، لا يمارى في أهمّيّته وأثره، وأمّا مطلبُ الدين فَهو مطلبٌ شرعيّ جَامع، يغني عمّا سواه، ولا غناء عنه بما سواه.. وكان هذا المعنى كافياً في ترْجيحِ مطلبِ الدين على ما سواه.. فكيف إذا اجتمع مع ذلك حقائق أخرى جعلت الموازنة بين هذه المطالب من أصلها جائرة مختلّة، لا تقف في وجه مطلب الدين ولا تدانيه.؟! وأهمّ هذه الحقائق:

ـ أنّ مطلبَ الدين مقصود لذاته، وهو مطلق غير محدود، بخلاف المطالب الأخرى، فهي وسائل لا مقاصد، وهي خادمة لا سيّدة، محدودة غير مطلقة.

ـ أنّ مطلبَ الدين خيرٌ محض، بخلاف المطالب الأخرى، فهي لا توصف بذلك، لأنّها وسائل وأدوات، يمكن أن تستخدم في الخير أو الشرّ.

ـ أنّ مطلبَ الدين يحقّق للإنسان سعادة الدنيا والآخرة، وهو من علامات سعادة العبد، وحسن عاقبته بإذن الله، ولا يتحقّق ذلك في المطالب الأخرى، إلاّ إذا سخّرت لسعادة الآخرة.

ـ أنّ مطلبَ الدين في مقدور الإنسان ذكراً كان أو أنثى أن يتحقّق به، ويرقى في مدارجه، بخلاف المطالب الأخرى.

ـ أنّ الوقوفَ مع مطلبِ الدين وقوف مع القيم الثابتة الراسخة، الباقيةِ النافعة، الموصولة بالله تعالى، فهي تمنح الإنسان السكينة والرضا والطمأنينة، بخلاف المطالب الأخرى التي هي من أعراض الدنيا الفانية، وليس وراءها إلا متاعب الدنيا وأكدارها، يقول الله تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}[الكهف:46] الكهف.

ويجمع ذلك كلّه قول الله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين}[القصص:77]

11 ـ ولك بعد ذلك أيّها العاقل أن توازن بين العالمين، ثمّ تختار، ولك الخيار فيما تختار، ولكنّك تكشف باختيارك عن ذاتك، وتعلن للملأ عن حقيقةِ انتمائك، فحذار أن تخدع نفسك، أو تغالط الآخرين ؛ إنّ لك أن تختار بين مطلب الجمال الحسّيّ فحسب، الذي هو من " عالم الأشياء " أو مطلب الدين الذي هو من " عالم القيم "، وعليك أن تدرك مغزى اختيارك، وآثار انتمائك لأحد العالمين والتحاقك به.

ـ وإذا كان حبّ الجمال مطلباً فطريّاً، وعطاءاً وهبيّاً، فإنّ حقيقته أن يكون جمال القيم والمعاني، لا جمال الصورة الظاهرة، أو الزينة الفاخرة، وإلى ذلك أشار الشاعر عمرو بن معد يكرب بقوله:

ليس الجمال بمئزر ***فاعلم وإن ردّيت بردا

إنّ الجمال معادن ***ومناقب أورثن مجدا

ومن ثمّ فإنّ للجمال صورة حسّيّة ظاهرة، وحقيقة معنويّة باطنة، هي بمثابة روحه وحقيقته، لها القيمة الكبرى، وعليها في حقيقة الأمر المعوّل.

12 ـ حبّ الجمال الظاهر فطرةٌ وابْتلاء: وإذا كان من فطرة الإنسان حبّ الجمال، والإعجاب به، فإنّ ذلك لا يعني أنّ هذا الأمر هو الكمال المطلوب في الإنسان، بل إنّ هذه الفطرة هي نوع من الابتلاء، بل هي من أشدّه، فلابدّ من تقويمها وتهذيبها، بأحكام الشرع وآدابه، وأهمّ ما يطلب في تقويمها أن تكون محكومةً بعالم القيم وتابعةً له، وذلك بالموازنة بين صورة الجمال وحقيقته، وبين مطلبِ الجمالِ ومطلب القيم، وترجيح ما فيه كمال الإنسان ورفعته، على ما فيه رغبته ومتعته.

وأنا لا أقلّل في هذا البحث من قيمة الجمال الظاهر، ولا أنكر فطرة الإنسان ذكراً كان أو أنثى على حبّه والافتتان به، وإيثاره على ما يضادّه.. ولكنّني أريد أن يكون مرجوحاً أمام جمال أعلى منه وأجلّ.. إنّه جمال القيم، التي يحتاج أكثر الناس إلى أن ينتبهوا إليه، ويذكّروا به.. لأنّه جمال معنويّ، لا يحسّ به إلاّ من عاشه، وذاق لذّته..

ـ أثر البحث عن الجمال الظاهر فحسب: وإنك عندما تطلب المرأة لا تطلبها إلاّ لجمالها الظاهر، فإنّ ذلك يعني أنّك لم تر فيها، ولا في أهلها سوى " عالم الأشياء "، ولم تطلب منهم سوى ذلك، وعندئذ ستراهم ينظرون إليك، ويقومونك بميزان التفاخر بهذا العالم، والتنافس في حيازته، والتباهي بإيثاره وتقديمه، وعدم التقدير لعالم القيم ومثله، مهما كنت حريصاً عليها ومعتزّاً بها، وسيطالبونك تبعاً لذلك بما يرهقك من عالم الأشياء، وكأنّ لسان حالهم يقول لك: " إذا كنت حقّاً ممن يعتزّ بعالم القيم، وينتسب إليها، فلماذا جئت إلى عالمنا، ورغبت فيما عندنا.؟ فابذل لنا من تكاليف عالمنا ما يرضينا.. ".

وسترى نفسك تبعاً لذلك، غارقاً في عالم من التنازع في طلب الأشياء، والحرص عليها، والشحّ بها، والاختلاف معها، ومع أهلها فيها، فأنّى لك بعد ذلك أن تنجو أنت وقيمك من صخب هذا الواقع وسهامه.؟!

13 ـجمال الظاهر نسبيّ، فأيّ نوع وقدر من الجمال تريد.؟! فمن نعم الله على الإنسان أنّ الجمال في الإنسان نسبيّ، تتفاوت أذواق الناس فيه، ولا تتّفقُ على درجاته وموازينه، وقد يصل اختلافهم فيه إلى درجة التناقض والتباين بين أقصى الدرجات وأدناها، واعتبَاره مَسألة شخصيّة بحتة، ممّا يرجّح جمال الروح عليه، وتأثير فيه، كما يؤكّد على أهمّية جمال الباطن، وانعكاسه على الظاهر..

14 ـ الجمال الفطريّ والجمال الإضافيّ: والجمال في الإنسان، وفي المرأة على وجه الخصوص نوعان:

ـ جمال فطريّ ظاهر، يتبادر التفكير فيه إلى أذهان الناس كلّما ذكر.

ـ وجمال إضافيّ، لا ينتبه إليه أكثر الناس، ولا يفكّرون فيه.

فالجمال الفطريّ ما كان في خلقة المرأة وصورتها، والجمال الإضافيّ ما كان بالنظر إلى مكانتها الأسريّة والاجتماعيّة، وعلاقتها بمن حولها، وعلاقة من حولها بها، وموقعها في أسرتها، ومكانتها بين ذوي رحمها ؛ فهي ـ كما لا يخفى ـ بنت في أسرة، لها فيها موقعها ومنزلتها، وزوجة لرجل له مركزه الاجتماعيّ وقدره، وأمّ لأولاد لهم منازلهم ومراتبهم الاجتماعيّة، أو سيكون ‍لهم ذلك، وجدّة لأحفاد، لهم مكانتهم الأسريّة والاجتماعيّة، وأخت لرجال ونساء كذلك، وهي عمّة وخَالة، وابنة أخٍ وابنة أخت.. وهي في كل ذلك أيضاً لها في نفسها موقعها المتميز، وجمالها الخاصّ الذي يغطّي على جمال الظاهر، ويضفي عليه فوق جاذبيته ومعانيه منزلة رفيعةً، ومعاني واسعة.

15 ـ جمالُ المرأَةِ في العَلاقَاتِ الأسَريّةِ، التي تُحِيْطُ بهَا وتبْنيهَا: فالبنت جميلة محبوبة في نظر أسرتها، على الرغم ممّا يخيّم على فكر كثير من الناس من كراهة للبنت، ورغبة في الذكر وإيثارٍ له، ولكنّ الواقع خلاف ذلك في حياة أكثر الناس، والزوجة جميلة مُؤثَرة في نظر زوجها، والأمّ جميلة محبوبة في نظر بنيها وبناتها، والأخت جميلة مكرمة في نظر إخوتها وأخواتها، وذوي قرابتها ورحمها، والجدّة موقّرة محترمة في نظر حفدتها.. ومن هذه القرابة القريبة سيكون للأولاد: الأجداد والجدّات، والأخوال والخالات، ووشائج الرحم المصونة في دين الله، والتي هي شجنة من الرحمن سبحانه.

ولا أدلّ على هذا الجمال الإضافيّ من أنّنا نرى الرجل ذا المكانة الاجتماعيّة المرموقة، عندما تتوفّى أمّه أو جدّته، أو بنته أو زوجته يتوافد إليه مئات من الناس أو ألوف، يشاركون في الصلاة عليها، وتشييعها، والتعزية بها.. أفليس هذا من جمال المعاني التي تضاف إلى المرأة، فترفع منزلتها، وتعلي مكانتها، وأكثر هؤلاء لا يعرفون صورتها الظاهرة، وربّما كانت مقلّة من جمال الظاهر..

ولا أدلّ أيضاً على هذا الجمال الإضافيّ من أنّك ترى الجدّة العجوز الهرمة التي لم يبق لها شيء من مسحة الجمال الظاهر تراها معظّمة مبجّلة من أولادها وأحفادها، كلّ يكرمها بما استطاع، ويخدمها بما يقدر.. فهي بينهم قائدة آمرة، سيّدة مطاعة، ملكة بغير تاج، ولا رتب على أكتافها، ولا سلطة بين يديها..

فإذا وضعت في اعتبارك هذا المفهوم الواسع للجمال الحقيقيّ، أدركت مدى الخطأ الفادح، الذي يرتكبه من يقف عند جمال الظاهر، ويغفل عن المعاني الكامنة للجمال، التي ينبغي أن يبحث عنها في محيط المرأة القريب، وعلاقتها المتشابكة بقرابتها وذوي رحمها، وما ستكون عليه في مستقبل أيّامها..

وللعامّة في هذا المقام كلمات جميلة مُؤثّرة، كثيرة معبرة، يحسن أن يتفرغ لجمعها، وبيان معناها، وإصلاح مَا اعوجّ من مفاهيمها بعضُ الباحثين، ليكون من عمله بحث اجتماعيّ تُراثيّ مفيد، ومن هذه الكلمات: " إنّ البنتَ إن لم تُسعِدها خدودُها أسعدها جُدُودُها "، ويريدون: أجدادها، فهي كلمة تُشير في معناها القريب إلى الحسب والنسب، وتُشير في معناها العميق إلى جمَال العلاقات التي تُنشِئها المرأة وتبنيها، وتحفّ بها وتعليها، وكم من رجال خطبوا المرأة لاعتبارات معنويّة لا تمتّ إلى جمال الظاهر بصلة، ولم يقيموا أيّ اعتبار لجمال الظاهر، الذي لا يقتصر عليه إلاّ قصّار النظر.؟!

وعندما تدخل في اعتبارك المعاني والقيم زيادة على ما سبق، تصبح أمام خِضّم هائل من الحقائق والمعاني التي لا يُعدّ أمامَها جمالُ الصورةِ شيئاً يُذكر، ولا يُعتبر حُسنُ المنظر أمراً ذا خطرٍ..

16 ـ وممّا يحتّم على الرجل والمرأة أن يهتمّا بعالم القيم ويؤثراه، أنّه سرّ سعادة الإنسان، ونجاحه في الحياةواستقراره: وإذا كان الجمال الظاهر عطاءً وهبياً، لايَدَ للمرأة في صنعه وكسبه، وهو أمر نسبيّ، وربما كان كثيرٌ من النساء عُطلاً منه، فإنّ باب الفضل والخير مفتوح بين يدي كلّ امرأة أن تلج أبواب الجمال الحقيقيّ، فتدخل " عالم القيم "، وتتبع أسبابه، وترقى في مدارجه، حتّى تتزيى منه بحلية ترفعها على كثير من بنات جنسها، وتعوّض ما فاتها من جمال الصورة الظاهرة المتميّزة، بما تقدّم من جهد وكسب، تكون به الجديرة بالرفعة، المستأهلة للحمد والثناء، وعَلى الرجل كذلك أنْ يبحث عن المرأة الغنيّة بعالم القيم، ذات الجمال الحقيقيّ، الذي لا تزيده الأيّامُ إلاّ توهّجاً وتألّقاً.

ـ فمن إشارات هذا الحديث ولوازم معناه، أنّ على العاقل ذكراً كان أم أنثى أن يحرص على العمل الطيّب، الذي ينفعه ويرفعه، ويدلّل على طيب عنصره، ونفاسة معدِنه.

ولكنّ الواقع أن غرق المرأة المعاصرة في التطلّع إلى عالم الأشياء، والافتتان بها وإيثارها، جعلها تسلك سبيلاً آخر، إلى إثبات وجودها، وتحقيق ذاتها: إنّه سبيل الوصول إلى المال بسعيها الخاصّ وجهدها، وفي أحوالٍ كثيرة على حساب القيم المطلوبة منها، والتي هي مسئولة عنها ؛ فجنحت إلى طريق التعليم والدراسة، لا حُبّاً بالعلم ورفعته، وحرصاً على تزكية النفس به، وإنّما للحصول على الشهادة، لأنّها سلّم الوصول إلى الوظيفة والمُرتّب، وهي سبب المال الذي يغري الرجال بالإقبال عليها، ويجعلهم يحرصون على الاقتران بها، ولم تدري أنّ ذلك يغري بها أصحاب الطمع والجشع، الذين لا حظّ لهم من الأخلاق والقيم، وإنّما كلّ تفكيرهم أن يجعلوها مطيّة ذلولاً لأهوائهم ونزواتهم، ممّا يجعلها تفقد قيمتها الحقيقيّة، وتبتعد أكثر فأكثر عن " عالم القيم "، وتغرق أكثر فأكثر في عالم الأشياء، واللهاث وراءها.

ولم يخرج كثير من الرجال عن هذه المعادلة المعْكوسة المنكوسة، فأصبحوا لا يفكّرون في المرأة إلاّ من خلال هذا العالم ومفاهيمه وموازينه، ولا يقوّمونها ويرغبون بها إلاّ على حسب " أشيائه " التي تجمعها، " وأعداده " التي تتمتّع بها، وتلك صورة لعمر الحق من أحطّ ما تنحدر إليه العلاقة بين الرجل والمرأة، ولا يغرّنّك بعد ذلك ما تتزيّى به تلك العلاقة من مجاملة شكليّة ظاهرة، لا تغني عن الحقّ شيئاً، ولا تسعف الأسرة المنكوبة، ولا تنفع المجتمع الغارق في مستنقع اللهاث خلف عالم الأشياء وإسفافه.. ولك أن تتصوّر أيّ جيل تأمله الأمّة يخرج من بين يديها، وهي على هذه الصورة الباهتة، والواقع المسفّ.!

17 ـ وينبغي أن نلحظ باهتمام من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) أنّ المقصود بِذَاتِ الدِّينِ غير ما يفهم الناس من كلمة: " متديّنة "، فالتديّن في مفهوم الناس لا يفهم منه إلاّ صورة جزئيّة من التمسّك ببعض الأعمال والأحكام، وربّما كان الإنسان مقصّراً بما هو أهمّ منها وأرجح، ممّأ يعطي صورة مشوّهة عن الدين والتديّن، وهو وللأسف ما يئنّ منه الواقع ويشتكي على كلّ صعيد.. ولكنّ ذلك لا يبرّر الانصراف عن أصل المبدأ، وهو طلب المرأة ذات الدين.. وطلب الرجل صاحب الدين والخلق.

وأمّا عندما نقول: " فلان ذو دين" فهذا يعني أنّه يأخذ الدين بصورة شموليّة جامعة، بها يستحقّ المدح والثناء.

وقد نصّت آيات بيّنات من كتاب الله تعالى على أهمّ صفات التديّن المطلوب في المرأة المسلمة، منها قوله تعالى:{... فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا}[النساء:34].

وقوله تعالى:{... مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا}[التحريم:5].

وقوله سبحانه:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الأحزاب:35].

فالتديّن المطلوب المحمود في الرجل هو نفسه التديّن المطلوب المحمود في المرأة..

18 ـ وإذا كان خير ما يطلب في المرأة أن تكونَ ذات دينٍ وإيمانٍ، وعملٍ صالحٍ وإحسانٍ.. وإذا كان الزواج جمعاً لقلبين على شمل واحد، وإخلاصاً من الطرفين في إبرام عقد إنسانيّ كريم، تحوطه شريعةُ الله وتباركه، وتَصونه وتَحميه، ويُتوخّى منه إقامة الحياة الإنسانيّة على أقوم صراط، وأهدى سبيل، فإنّ صلاح الدين، هو المَطلب المُشترك والمُشترط، في الطرف الآخر أيضاً وهو الرجل، لقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه: (إِذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ، إِلاّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ)، وفي رواية: " فَأَنْكِحُوهُ ثَلاثَ مَرَّاتٍ "، وذلك في مقابل ما جاء في الحديث الذي نتحدّث عَنه: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ).

ولعلك تلاحظ أخي القارئ الكريم بالمقارنة بين الحديثين أنّ الرجل يختصّ بزيادة تُطلبُ فيه وتُقصدُ، ألا وهي: " الخلق "، لأنّ حُسنَ الخُلُقِ أصلٌ كبيرٌ في استقامة العلاقات الإنسانيّة واستقرارها، ونموّها وازدهارها، إذ هُو ميزان العقل الناضج الراجح، الرشيد الحصيف، ويترتّب عليه: تمييز الباعث في كلّ الأمور، وحسن الاختيار في المواقف، ومعرفة قدر ما يؤخذ أو يترك من عالم الأشياء على أساس من أحكام القيم ومبادئها، ومن ثمّ فإنّه يُعدّ هنا تعبيراً على وجه الخصوص عن " حُسنِ السياسةِ التي يَتمتّعُ بها الرجلُ لعالم الأشياءِ، ورزانتِه في التعامُلِ معَها، وحِكمتِه في تصريفِها ".

والأصل في الرجل أن يمتاز باتّزان العقل، وحسن النظر في الأمور، وصحّة التدبير لها، ولا ننكر أنّ بعض النساء قد يكُنّ على عقل وحسن نظرٍ للأمور يَفُقْنَ به كَثيراً من الرجال، ولكنّ العبرة بالأغلب الأكثر، والأحكام لا تناط بالقليل النادر.

والمرأة التي تفوق الرجال بحقّ بعقلها وحكمتها، لها من ذلك ما يكفل لها التقدّم في ميادين الحياة العمليّة ضمن ضوابط شرع الله وآدابه، ومن كتب لها التقدّم كذلك فلا يقدر أحد أن يفرض عليها التأخر.. ولنا في أمّهات المؤمنين وسيّدات النساء من الصحابة والتابعين حجّة لا يقف أمامها شيء من الجدل العقيم.. فأيّ مشكلة أو عقبة أمام المرأة المسلمة، كما يدّعي الغربان بنو علمان.؟! الذين يتقنون فنّ اصطناع المشكلات، والترويج لها وتسويقها..

19 ـ وواضح من كلّ ما سبق أنّ عَالم الأشياء لا يرفض لذاته: إذ عندما ذكر الحديث بعض مظاهر عَالم الأشياء: من المال والحسب والجمال، ورغبة الناس بها، فقد نصّ على ما هو شائع في الواقع، ولا يعني ذلك الرفض لهذا الواقع وإنكاره من حيث هو، وإنّما ينكر ويرفض عندما يطغى، ليزاحم عالم القِيَم، ويكون في نظر الناس بدلاً عنه، أوأرجح منه، أو يراد له أن يكون كذلك..

20 ـ المؤامرة على المرأة المسلمة: لقد أدرك شياطين الإنس في المرأة طبيعة الميل إلى عالم الأشياء، والولوع بالزينة المتاع فاخترعوا لها " الموضات " وتجديد الأزياء، ومالا يحصى من أبواب الاستهلاك، وأغروها بالولوع بالأسواق.. ممّا جعل أكثر نساء العالم لا يخرجن من دوّامة اللهاث وراء ذلك، حتّى النساء المسلمات وقعن في شَرَك هذه الفتنة، التي لا تقف عند حدّ، ممّا أفسد على المرأة دينها وخلقها، وجعلها ضحيّة، وأداة للإفساد في الوقت نفسه.. فهي كالسكرى، لا تكاد تصحو على نفسها، لترى مواقع أقدامها، وتعرف واجبها في الحياة ومسئوليّتها،وهي يراد لها أن تكون أداة رخيصة تافهة لإفساد الرجل.. وإفساد الأسرة.. وإفساد البنين والبنات.. وإفساد المجتمع كلّه..

فهل للمرأة المسلمة أن تدرك حجم المؤامرة عليها، فتتحرّر من أسر هذا الواقع، وتملك إرادتها، وتذكر وقفتها بين يدي ربّها، فتكون المرأة الصالحة المصلحة، فتقوم بحقّ رسالتها في الحياة، على أحسن الوجوه وأتمّها.؟! فيسعد بها الرجل، وتسعد بها أسرتها، ويسعد بها المجتمع كلّه.؟!

إنّا لنرجو لها ذلك ونتمنّاه، والله وليّ التوفيقِ والسدادِ.