إشراقات من سورة الأنعام 20

إشراقات من سورة الأنعام

(طريق الدعوة إلى الله شاقّة والدعوة تسير بقدر الله)

د. فوّاز القاسم / سوريا

((وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39)

إن طريق الدعوة إلى الله شاقة , محفوفة بالمكاره , ومع أن نصر الله للحق آت لا ريب فيه , إلا أن هذا النصر إنما يأتي في موعده الذي يقدره الله , وفق علمه وحكمته , وهو غيب لا يعلم موعده أحد إلا الله ...

والمشقة في هذا الطريق تنشأ من عاملين أساسيين : من التكذيب والإعراض اللذين تقابَل بهما الدعوة في أول الأمر , والحرب والأذى اللذين يُعلنان على الدعاة . .

ثم من الرغبة البشرية في نفس الداعية في هداية الناس إلى الحق الذي تذوقه , وعرف طعمه , والحماسة للحق والرغبة في استعلانه ! وهذه الرغبة لا تقل مشقة عن التكذيب والإعراض والحرب والأذى . فكلها من دواعي مشقة الطريق !

والتوجيه القرآني في سورة الأنعام يعالج هذه المشقة من جانبيها . . ذلك حين يقرر أن الذين يكذبون بهذا الدين أو يحاربون دعوته , يعلمون علم اليقين أن ما يُدعون إليه هو الحق , وأن الرسول الذي جاء به من عند الله صادق . ولكنهم مع هذا العلم لا يستجيبون , ويستمرون في جحودهم عنادا وإصرارا , لأن لهم هوى في الإعراض والتكذيب ! وأن هذا الحق يحمل معه دليل صدقه , وهو يخاطب الفطرة فتستجيب له , متى كانت هذه الفطرة حية , وأجهزة الاستقبال فيها صالحة : (إنما يستجيب الذين يسمعون). .

فأما الذين يجحدون فإن قلوبهم ميتة ، وهم موتى ، وهم صم وبكم في الظلمات . والرسول صلى الله عليه وسلّم لا يُسمع الموتى ولا يُسمع الصم الدعاء .

والداعية ليس عليه أن يبعث الموتى . فذلك من شأن الله . . هذا كله من جانب . ومن الجانب الآخر , فإن نصر الله آت لا ريب فيه . . كل ما هنالك أنه يجري وفق سنة الله وبقدر الله , وكما أن سنة الله لا تستعجل , وكلماته لا تتبدل , من ناحية مجيء النصر في النهاية , فكذلك هي لا تتبدل ولا تستعجل من ناحية الموعد المرسوم . . والله لا يعجل لأن الأذى والتكذيب يلحق بالدعاة - ولو كانوا هم الرسل - فإن استسلام صاحب الدعوة نفسه لقدر الله بلا عجلة , وصبره على الأذى بلا تململ , ويقينه في العاقبة بلا شك . . كلها مطلوبة من وراء تأجيل النصر إلى موعده المرسوم .

ويحدد هذا التوجيه القرآني دور الرسول في هذا الدين - ودور الدعاة بعده في كل جيل - إنه التبليغ , والمضي في الطريق , والصبر على مشاق الطريق . .

أما هدى الناس أو ضلالهم فهو خارج عن حدود واجبه وطاقته . .

والهدى والضلال إنما يتبعان سنة إلهية لا تتبدل , ولا يغير منها رغبة الرسول في هداية من يحب , كما لا يغير منها ضيقه ببعض من يعاند ويحارب . .

إن شخصه لا اعتبار له في هذه القضية , وحسابه ليس على عدد المهتدين , إنما حسابه على ما أدى وما صبر وما التزم , وما استقام كما أمر . . وأمر الناس بعد ذلك إلى رب الناس . . (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ).

( ولو شاء الله لجمعهم على الهدى ). . ) إنما يستجيب الذين يسمعون )

من هنا لا ينبغي لصاحب الدعوة إلى هذا الدين , أن يستجيب لاقتراحات المقترحين ممن يوجه إليهم الدعوة , في تحوير منهج دعوته عن طبيعته الربانية ; ولا أن يحاول تزيين هذا الدين لهم وفق رغباتهم وأهوائهم وشهواتهم . .

ولقد كان المشركون يطلبون الخوارق من رسول الله صلى الله عليه وسلّم (وقالوا: لولا أنزل عليه ملك !). . (وقالوا: لولا نزل عليه آية من ربه). . (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ). . ( وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا . أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا . أو تسقط السماء - كما زعمت - علينا كسفا , أو تأتي بالله والملائكة قبيلا . أو يكون لك بيت من زخرف , أو ترقى في السماء . ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه !). . وكالذي حكاه عنهم في سورة الفرقان: وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق , لولا أنزل إليه ملك , فيكون معه نذيرا . أو يلقى إليه كنز , أو تكون له جنة يأكل منها ! )) إلخ . .

والتوجيه القرآني المباشر هو نهى رسول الله [ ص ] والمؤمنين أن يرغبوا في إتيانهم بآية - أية آية - مما يطلبون . وقيل للرسول ) ص:(( وإن كان كبر عليك إعراضهم , فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية , ولو شاء الله لجمعهم على الهدى , فلا تكونن من الجاهلين . إنما يستجيب الذين يسمعون , والموتى يبعثهم الله , ثم إليه يرجعون). . وقيل للمؤمنين الذين رغبت نفوسهم في الاستجابة للمشركين في طلبهم آية عندما أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها ! قيل لهم : قل: إنما الآيات عند الله , وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون . ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة , ونذرهم في طغيانهم يعمهون . .

ليعلموا أولا أن الذي ينقص المكذبين ليس هو الآية والدليل على الحق , ولكن الذي ينقصهم أنهم لا يسمعون , وأنهم موتى , وأن الله لم يقسم لهم الهدى - وفق سنة الله في الهدى والضلال كما اسلفنا - ثم ليعلموا كذلك أن هذا الدين يجري وفق سنة لا تتبدل , وأنه أعز من أن يصبح تحت رغبات المقترحين وأهوائهم !

وهذا يقودنا إلى المجال الأشمل لهذا التوجيه القرآني . . إنه ليس خاصا بزمن , ولا محصورا في حادث , ولا مقيدا باقتراح معين . فالزمن يتغير , وأهواء الناس تتمثل في اقتراحات أخرى . وأصحاب الدعوة إلى دين الله ينبغي ألا تستخفهم أهواء البشر إن الرغبة في الاستجابة لمقترحات المقترحين هي التي تقود بعض أصحاب الدعوة الإسلامية اليوم إلى محاولة بلورة العقيدة الإسلامية في صورة ( نظرية إسلامية ) أو ( رؤية إسلامية ) على الورق كالذي يجدونه في النظريات الأرضية الصغيرة , التي يصوغها البشر لفترة من الفترات ; ثم يمضي الزمن فإذا كلها عورات وشطحات ومتناقضات ! . .

وهي التي تقود بعض أصحاب هذه الدعوة إلى محاولة بلورة النظام الإسلامي في صورة مشروع نظام - على الورق - أو صورة تشريعات مفصلة - على الورق أيضا - تواجه ما عليه أهل الجاهلية الحاضرة من أوضاع ، وتنظم لهم هذه الأوضاع ; بينما هم باقون على جاهليتهم يتحاكمون إلى الطاغوت , ولا يحكمون أو يتحاكمون إلى شريعة الله . . وكلها محاولات ذليلة , لا يجوز للمسلم أن يحاولها استجابة لأزياء التفكير البشري المتقلبة , التي لا تثبت على حال . باسم تطور وسائل الدعوة إلى الله !   

وأوضح مثل على ذلك ما يحاول به بعض السوريين اليوم ( ومنهم إسلاميون بطرانون مع الأسف ) من صياغة ( رؤية ) لمستقبل سورية بعد الأسد ، ودماء السوريين وأشلاؤهم منثورة في الشوارع .!!!

وأذل من هذه المحاولة محاولة من يضعون على الإسلام أقنعة أخرى , ويصفونه بصفات من التي تروج عند الناس في فترة من الفترات . . كالاشتراكية . . والديمقراطية . . وما إليها . .

ظانين أنهم إنما يخدمون الإسلام بهذه التقدمة الذليلة ! . .

إن "الاشتراكية " مذهب اجتماعي اقتصادي من صنع البشر ; قابل للصواب والخطأ  وإن "الديمقراطية " نظام للحياة أو للحكم من صنع البشر كذلك , يحمل صنع البشر من القابلية للصواب والخطأ أيضا . .

والإسلام منهج حياة يشمل التصور الاعتقادي , والنظام الاجتماعي الاقتصادي , والنظام التنفيذي والتشكيلي . . وهو من صنع الله المبرأ من النقص والعيب . .

فأين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لمنهج الله - سبحانه - عند البشر بوصفه بصفة من أعمال البشر ? بل أين يقف من الإسلام من يريد أن يستشفع لله - سبحانه - عند العبيد بقول من أقوال هؤلاء العبيد ?! . .

لقد كان كل شرك المشركين في الجاهلية العربية أنهم يستشفعون عند الله ببعض خلقه . . يتخذونهم أولياء: (( والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . .)) فهذا هو الشرك !

فما الوصف الذي يطلق إذن على الذين يستشفعون لله - سبحانه - عند العبيد بمذهب أو منهج من مذاهب العبيد ومناهجهم ?!

إن الإسلام هو الإسلام . والاشتراكية هي الاشتراكية . والديمقراطية هي الديمقراطية . . ذلك منهج الله ولا عنوان له ولا صفة إلا العنوان الذي جعله الله له , والصفة التي وصفه الله بها . . وهذه وتلك من مناهج البشر . ومن تجارب البشر . . وإذا اختاروها فليختاروها على هذا الأساس . . ولا ينبغي لصاحب الدعوة إلى دين الله , أن يستجيب لإغراء الزي الرائج من أزياء الهوى البشري المتقلب . وهو يحسب أنه يحسن إلى دين الله !

إن التوجيه القرآني في سورة الأنعام  وفي غيرها كذلك ، يريد أن يستعلي صاحب الدعوة بدينه ; فلا يستجيب لاقتراحات المقترحين ; ولا يحاول تزيين هذا الدين بغير اسمه وعنوانه ; ولا مخاطبة الناس به بغير منهجه ووسيلته ...

  إن الله غني عن العالمين . ومن لم يستجب لدينه عبودية له , وانسلاخا من العبودية لسواه , فلا حاجة لهذا الدين به , كما أنه لا حاجة لله - سبحانه - بأحد من الطائعين أو العصاة.