حقيقة السبح أو التسبيح في دين الإسلام

يختزل كثير من الناس دلالة السبح أو التسبيح في الإسلام في  حركتين : حركة لسان مصحوبة بحركة بنان تداعب خرزات  منظومة في خيط تسمى السبحة ـ بضم السين وتسكين الباء ـ أو المسبحة ، والحقيقة أن دلالة السبح والتسبيح أكبر وأوسع  من ذلك بكثير . وقبل الخوض في هذا الدلالة لا بد من وقفة لغوية  مع معنى لفظة سبح وسبّح ذات الصلة بالسبح والتسبيح،  حيث يقال في اللسان العربي المبين سبح الرجل وسبّح إذا قال سبحان الله  وهو تنزيهه وتقديسه وتمجيده والثناء عليه بما هو أهل له . وقد يتعجب الإنسان من فعل الله عز وجل معظما له ،فيكون بذلك مسبحا أيضا . وتلتقي دلالة التسبيح مع دلالة الذكر التي تعني التمجيد والتقديس والتنزيه  والثناء والحمد أيضا ، لهذا كل مسبح ذاكر والعكس يصح أيضا .  ولقد سمى الله عز وجل كلامه ذكرا ، وهو عند التأمل كلام متضمن لتمجيده وتقديسه وتنزيهه وحمده والثناء عليه ، ومتضمن للتعجب من قدرته وعظمته . وحقيقة السبح والتسبيح في دين الإسلام هي أن تكون مخلوقات الله عز وجل مطيعة له وفق الهيئات والأحوال التي خلقها عليها جل شأنه غير مخالفة لها . والله عز وجل يذكر في كتابه الكريم مخلوقات تمارس السبح والتسبيح ومن ذلك قوله عز وجل : (( تسبح له السماوات السبع و الأرض ومن فيهن  وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم )) وقوله أيضا : (( ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون )) . وتفيد الآيتان معا أن السبح والتسبيح دأب كل المخلوقات على اختلاف أنواعها ، وأن لها سبحها وتسبيحها الخاص بها الذي تلقته  وتعلمته من خالقها ، وأن الإنسان لا يفقه تسبيح  المخلوقات الأخرى . ولقد عقب الله عز وجل في الآية الثانية بقوله : (( والله عليم بما يفعلون )) وهو تعقيب على صلاة وتسبيح من في السماوات والأرض . وأفعال المخلوقات تشمل كل ما يصدر عنها من حركات وسكنات و أفعال وأقوال إذا كانت من المخلوقات الناطقة . وعند التأمل نجد أن دلالة السبح والتسبيح هي أن تلتزم المخلوقات على اختلاف أنواعها، وتظل على الهيئات والأحوال التي خلقها الله عز وجل عليها لا تحيد ولا تخرج عنها ، ولا تخالفها . و بهذا المعنى تكون كل المخلوقات  مسبحة ما لم تخالف هيئاتها وأحوالها التي خلقها الله عز وجل عليها . ومما يؤكد ذلك قول الله تعالى وهو يتحدث عن ملائكته الكرام صلواته وسلامه عليهم : (( ومن عنده  لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون )) وقوله أيضا : (( عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )) والآيتان معا تبينان كيفية سبح وتسبيح الملائكة الكرام ،وهي عدم الاستكبار عن عبادة وطاعة خالقهم جل وعلا وباستمرار عليها وعلى الدوام ،وعدم معصيته وفعل ما يؤمرون به ، وهذا يعني أنهم لا يخرجون عن الهيئات والأحوال التي خلقهم عليها الله عز وجل ،وهذه هي حقيقة سبحهم وتسبيحهم . ومعلوم أن الملائكة الكرام يوكل إليهم الله عز وجل أفعالا يقومون بها ، وقيامهم بها عبارة عن سبح وتسبيح ، الشيء الذي يعني أن دلالة السبح والتسبيح لا تنحصر في ما دأب الناس على فهمه من السبح والتسبيح الذي يكون باللسان والبنان فقط، بل دلالته أوسع من ذلك حيث تشمل الأفعال أيضا . ولا توجد حالة تكون فيها المخلوقات خارج إطار السبح والتسبيح إلا إذا خالفت أوامر خالقها كما هو الشأن بالنسبة للثقلين الإنسان والجان وقد خلقهما الله عز وجل لغاية اختبارهما في سبحه وتسبيحه فيما يصدر عنهما من أقوال وأفعال . ومعلوم أن باقي المخلوقات مسبحة لا ينقطع سبحها وتسبيحها باستثناء الثقلين اللذين يكونان في حالة سبح وتسبيح ، وفي حالة انقطاع أو خروج عن  ذلك ، وهي حالة معصية خالقهما سبحانه وتعالى . وكل ما يصدر عن الثقلين من أقوال وأفعال وحركات وسكنات إما أن تكون سبحا وتسبيحا وإما أن تكون تعطيلا وخروجا عن السبح والتسبيح . ومن الناس من يلزم السبح والتسبيح طول حياته وهم رسل وأنبياء الله صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، ويليهم  في ذلك الأمثل فالأمثل . وغالبية الناس لا يتأتى لهم ذلك بحيث يتعطل سبحهم وتسبيحهم ويخرجون منه أوعنه  أثناء خوضهم غمار الحياة . وقد يخطىء الفهم والتقدير أولئك الذين يفسرون قول الله عز وجل : (( ولذكر الله أكبر )) حين يجعلون الذكر وهو السبح والتسبيح ذكر اللسان المصحوب بحركة البنان . والذكر المقصود في قوله تعالى ـ والله أعلم  ـ هو التزام الإنسان بالهيئة  والحالة التي خلقه الله تعالى عليها في  كل أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته . وقد يظن البعض  أن المنزوي في زاوية من الزوايا يذكر الله عز وجل ويسبحه بلسانه وبنانه المحرك لمسبحته هو المسبح الحقيقي  ، وأن الناس وهم منهمكون في ممارسة حياتهم، وهم يخوضون غمارها لا علاقة لهم بالسبح والتسبيح ، والحقيقة خلاف ذلك لأن المسلم العامل والفلاح والتاجر والموظف والجندي والمعلم والكناس ... وغيرهم يكونون مسبحين وهم يقومون بأعمالهم بل يفوق تسبيحهم تسبيح مسبح اللسان والبنان لأن الله عز وجل تعبد الإنسان بأقوال وأفعال ، ولا توجد لحظة يكون فيها الإنسان خارج عبادة وطاعة الخالق سبحانه . وإذا تعطلت عبادة الأفعال تعطلت بذلك عبادة الأقوال بل لا قيمة لمسبح باللسان وهو يعطل تسبيح الفعال . ولو التزم جميع الناس سبح وتسبيح اللسان والبنان  فقط لتعطلت الحياة ، وتعطلت الغاية من اختبارهم وابتلائهم فيها . ولن ينفع سبح وتسبيح اللسان والبنان من يعطل سبح وتسبيح الأفعال . ومن الأمثال السائرة قولهم : " لسان يسبح ويد تذبح " وفي هذا المثل ما ينكر معارضة سبح وتسبيح اللسان لسبح وتسبيح الأفعال . وقد يكون المسبح باللسان والبنان في حال تسبيحه معطلا لواجب أوجبه الله عز وجل من خلال تعطيل عمل يعود عليه وعلى غيره بالنفع ، وهو بذلك ينقض سبحه وتسبيحه باللسان بل يقيم الحجة على نفسه أمام خالقه بأنه ينقض سبحه وتسبيحه  .  ومعلوم أن السبح والتسبيح كلما تطلب جهدا أكبر كان أفضل عند الله عز وجل ، لهذا لا يعدل  تحريك اللسان والبنان أثناء السبح والتسبيح  تحريك الجوارح بالسعي والعمل والكد . وإن سبح وتسبيح الإنسان بمعول أو غيره أفضل من سبحه وتسبيحه بلسانه وحركة بنانه بالمسبحة. إن عامل البناء على سبيل المثال لا الحصر وهو يحفر الأرض ويكسر الحجارة ، ويحملها على كتفه أو يرفعها بحبال ... إلى غير ذلك مما تتطلبه مهمة البناء يكون في قمة السبح والتسبيح ، ولا يمكن أن يعدل سبحه وتسبيحه مسبح اللسان والبنان خارج الأوقات المخصصة لذلك كما يعتقد البعض ، فيعظمون هذا الأخير ويغرهم لباسه النظيف وطيبه ولحيته وسمته  ، ولا يبالون بسبح وتسبيح الأول لاتساخ لباسه وعرقه وهيئته ، وهو أجدى وأنفع . وما قيمة سبح وتسبيح مسبح اللسان والبنان وعامل الزبالة  على سبيل المثال لا الحصر أيضا يسبح بتخليصه من زبالته ؟ ويجب ألا يفهم من هذا الكلام أنه استنقاص من شأن سبح وتسبيح اللسان بل هو مما تعبدنا به الله عز وجل حين نصلي وعقب الصلوات ،وحين  ندعوه ، وحين نقرأ القرآن الكريم، وكل ذلك من سبح وتسبيح اللسان .  وقد يجمع الإنسان المسلم بين سبح وتسبيح الأعمال وسبح وتسبيح اللسان تماما كما يفعل حين يسبح لسانه ويحرك بنانه مسبحته .  وإذا جمع المسبح بين السبحين والتسبيحين يكون ذلك من كمال وتمام السبح والتسبيح . ولا يجب أن يفهم أيضا أن القصد هو تفضيل سبح وتسبيح الأعمال على سبح وتسبيح اللسان خصوصا في الأوقات التي أمر بها الله عز وجل به كأوقات الصلوات كما يظن بعض الباعة على سبيل المثال الذين   يقفون عند بوابات المساجد لا يؤدون سبح وتسبيح الصلوات بذريعة قيامهم بسبح وتسبيح البيع، هذا إذا كان بيعا مشروعا لا يلابسه ما ينقض  مشروعيته . ولا يجب أن يتذرع غيرهم بالانشغال عن سبح وتسبيح اللسان بسبح وتسبيح مختلف الأعمال إلا ما سمح به الشرع، وكان درءا للمفاسد أو ضروريا لصيانة حياة الغير ، أوالمحافظة على أمنهم وما شابه ذلك مما يحدد الشرع مشروعيته . وفي الأخير لا بد من التنبيه إلى أن السبح والتسبيح  بالمعنى الذي ذكرناه يؤجر عليه المسبح كما أنه يحاسب على تعطيله والإخلال به . وقد يكون الفعل الواحد سبحا وتسبيحا بالنسبة للبعض وتعطيلا للسبح والتسبيح بالنسبة للبعض الآخر كما هو الشأن بالنسبة للوطء الذي أحله الله عز وجل في النكاح وحرمه في السفاح مع أنه فعل واحد. ولقد استغرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤجر الإنسان على وطء النكاح، فنبههم عليه الصلاة والسلام إلى أجر هذا الوطء الذي يقابله عقاب وطء السفاح. وخلاصة القول أن الإنسان يكون مسبحا في كل أحواله ما لم يخالف ما تعبده به خالقه جل جلاله .   

وسوم: العدد 720