قبسات من نور رمضان

يأتي رمضان كل عام فيحمل بين جنباته الطهر والإيمان، والخيرات والبركات، والدروس والعبر.

1- أعظم مزية لهذا الشهر العظيم أنه شهر نزول القرآن الكريم. فحين خصّه الله تعالى بالعبادة العظيمة عبادة الصوم، قال، بما يشير إلى حكمة هذا الاختصاص: }شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه{.

وحين ذكر الليلةَ الأعظم في رمضان، ليلة القدر، ذكر تشريفها بنزول القرآن {إنّا أنزلناه في ليلة القدر}.

ولا عجب فالقرآن ليس كلاماً يقرأ فحسب، بل هو }بيّنات من الهدى والفرقان{، فالهدى كل الهدى فيه: الهدى في العقيدة والتصور، والهدى في شؤون الفرد والمجتمع والدولة والعالم كله... والفرقان بين الحق والباطل، بين النور والظلمات، بين الشرع والهوى.

وفي الشهر الذي نزل فيه القرآن يطيب للمؤمن أن يُقْبل على هذا الكتاب العظيم، أشدّ مما يقبل عليه في أي شهر آخر، يتلوه حق تلاوته، يتدبر آياته، يطهّر قلبه ونفسه بضيائه، يعيد النظر فيما يحمله في نفسه من عقائد وتصورات وقيم وأحكام وأخلاق... فما وجده موافقاً لهذا الكتاب حمد الله عليه، ووطّن نفسه على المزيد من التمسك به، وما وجده على غير هذا صحّحه بما يقتضيه هذا الكتاب.

وقد اختار الله تعالى لنبيّه شهر رمضان من كل سنة ليراجعَ ما كان نزل عليه من القرآن فكان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كل رمضان فيدارسه القرآن (أي يسمعه منه كأنه يتثبّت من حفظه) وفي هذا إشارة قوية إلى أن رمضان موسم للإكثار من تلاوة القرآن الكريم.

وفي صحيح البخاري: "كان جبريل يلقى النبي صلى الله عليه وسلم في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ [حتى ينقضي الشهر] يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن".

ومن الأحاديث النبوية التي تربط بين الصيام والقرآن:

عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة. يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعام والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النوم بالليل فشفِّعني فيه. قال: فيشفَّعان".

2- مما يلفت الانتباه أن صيغة فرضية الصيام كانت بقوله تعالى: }يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام{ الآية 183 من سورة البقرة.

وفي الآية 216 من السورة نفسها: }كُتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم{. وفي هذا التماثل في التعبير إشارة قوية إلى أن هذه الفرضية كتلك. فحين يكون موسم الصيام فهو فرض، وحين تقوم أسباب الجهاد فهو فرض كذلك (وفق تفصيلات يذكرها الفقهاء). ولا عجب بعدئذ أن يلتزم المسلمون صيام شهر رمضان، على مرّ العصور، إلا من كان معذوراً، أو كان إيمانه كمن يعبد الله على حَرْف!. ولا عجب كذلك أن يكون رمضان موسماً للجهاد فتشهد أيامه معارك من أعظم معارك الإسلام.

ففي أول رمضان بعد الهجرة عقد النبي صلى الله عليه وسلم أول لواء للجهاد في الإسلام، في سرية مقاتلة بقيادة أسد الله وأسد رسوله: حمزة بن عبد المطّلب رضي الله عنه.

وفي رمضان من السنة الثانية للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى التي سمّاها الله تعالى: يوم الفرقان!.

وفي رمضان من السنة الثامنة للهجرة كان الفتح المبين فتح مكة المكرمة.

وعلى مرّ التاريخ كان "رمضان" يشهد بين حين وآخر معركة فاصلة. فعلى سبيل المثال كانت معركة البويب في رمضان 13هـ، وفتحت القدس في رمضان 16هـ، وكانت معركة بلاط الشهداء في رمضان 114هـ، وكانت معركة الزلاقة التي انتصر فيها جيش المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين على الفرنجة في رمضان 478هـ، وكانت معركة عين جالوت التي انتصر فيها المظفر قطز على التتار في رمضان 658هـ.

3- ولا نجد في النص القرآني عبارة صريحة تربط بين رمضان والإنفاق في سبيل الله من الزكوات والصدقات، لكننا نجد ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان الصحابة يرون أثر هذه المدارسة القرآنية في مسلك النبي صلى الله عليه وسلم. فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن. فلَرسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل، أجودُ بالخير من الريح المرسلة". متفق عليه.

ونعلم جميعاً أن من الإنفاق المطلوب من المسلم في رمضان صدقة الفطر.

وكأن المسلمين، شعوراً منهم بفضل الإنفاق في رمضان، يكثرون من الصدقات فيه، بل إن كثيراً من أغنيائهم يدفعون زكاة أموالهم في هذا الشهر الفضيل.

4- وبمثل ذلك جاءت السنة النبوية لتبين فضل النوافل، لا سيما قيام الليل، في رمضان.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" متفق عليه.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في رمضان ما لا يجتهد  في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره" رواه مسلم.

ويتأكد هذا في ليلة القدر.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غُفر له ما تقدّم من ذنبه" متفق عليه.

5- ولعل ما يجمع ذلك كله ويزيد عليه، هو أن الصيام، الذي هو العبادة المميزة  لرمضان، قد شرع لتحقيق التقوى }يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون{. سورة البقرة: 184.

فالتقوى هي الغاية من العبادة عامة، ومنها الصوم: }يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون{.

وكما ذكرت التقوى في الآية الأولى من آيات الصيام، ذكرت كذلك في الآية الأخيرة من هذه الآيات: }كذلك يبيّن الله آياته للناس لعلهم يتقون{ سورة البقرة: 187.

6- وفي أجواء نزول القرآن والصوم والتقوى يكون الدعاء المستجاب. فإنه مما يلفت الانتباه أن آية الدعاء جاءت من ضمن آيات الصيام. قال تعالى: }وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب. أجيبُ دعوة الداعِ إذا دعانِ فلْيستجيبوا لي ولْيؤمنوا بي لعلهم يرشُدون{ سورة البقرة: 186.

وتأتي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم لتؤكد الارتباط بين الصيام والدعاء المستجاب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا تُردّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول: بعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين" رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.

وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصائم عند فطره دعوةً لا تُرَدّ" رواه ابن ماجه.

اللهم أعنّا على الصيام والقيام وغضّ البصر وحفظ اللسان، وتقبّل منا إنك أنت السميع العليم. 

وسوم: العدد 722