أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ 1-11

أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ (1)

مَصدَر الظلم في المناهج البشرية ومشروعاتها

أولاً: بَدهيّات ومفاهيم

1- مَنهج الحياة الإنسانية:

هو مجموعة الأسس والقوانين والتشريعات، التي تُنظِّم الجوانبَ المختلفة لحياة المجتمع الإنسانيّ، الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والأحوال الشخصية، والتربوية، والثقافية، و.. أي: إنّ منهج الحياة ينظم شؤون الناس في كل أمرٍ خاصٍ أو عامٍ من حياتهم!.. وإنّ أي منهجٍ يُسَنّ، لا يوضَع إلا لينفَّذ على الناس، ولِيُحمَلوا على تنفيذه، بقوّة القانون وسطوة السلطة التي وضعته!..

2- مَن الذي يَدَع الآخرين أن يتصرّفوا بكل أموره، وشؤونه، وحياته، وعلاقاته، ومَأكله، ومَشْربه، ومَلْبَسِهِ و..؟!..

- الجواب : هو العبد.. نعم العبد الطائع المنقاد، هو الذي يترك للآخرين التصرّف بشؤون حياته على ذلك النحو!..

ومن الأمور البديهية، أنّ لكلّ عبدٍ سيداً أو ربّاً.

3- وهل يمكن للبشر أن يكونوا أرباباً؟!.. وكيف يكون ذلك؟!..

- الجواب واضح من الآية الكريمة:

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).. (آل عمران:64).

 أي: إنّ البشر يمكن أن يصيروا أرباباً.. لكن كيف؟!..

- الجواب : بِسَنّهم تشريعاتٍ أو بوضعهم منهج الحياة للناس، وبفرض أوامرهم ومناهجهم ودساتيرهم الخاصة عليهم!..

4- النتيجة :

يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضهم الآخر، أو في ظلِّ وَضعِ بعضهم مناهج الحياة لبعضهم الآخر.. إلى فئتين:

أ- أرباب يُشرِّعون ويضعون منهج الحياة.

ب- وعبيد يطيعون وينفِّذون ما يضعه الأرباب (أو واضعو منهج الحياة) لهم.

وهذا بالضبط ما جاء القرآن الكريم ليدحضه ويلغيه من أساسه، بقول الله عز وجل: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)!.. أي بالمعنى الحرفيّ:

(لا يُطع بعضنا بعضاً في معصية الله، بتنفيذ منهجٍ موضوعٍ بأيدي البشر، غير منهج الله ودستوره وشرعه الذي أراده لهم)!..

*     *     *

ثانياً: حول المفاهيم العقدية التي تعرضها الآية الكريمة

(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).. (آل عمران:64).

تعرض لنا هذه الآية الكريمة جملةً من الأمور العَقَدية، ذات الأهمية البالغة في توضيح الخطوط الفاصلة بين الشرك والإيمان، وذلك بشكلٍ محدّد.. كما تفتح الطريق واسعاً، أمام فهم خطورة انجرار المسلمين وراء المشروعات الوضعية ومناهجها، ووراء المخططات الاستعمارية الحديثة، سواء أكان منشؤها الدول الاستعمارية الدولية أو الإقليمية الكبرى.. أم أنظمة الحكم التي لا تحكم بما أنزل الله عزّ وجلّ.

وبذلك، فإنّ هذه الآية العظيمة تعرض لنا المفاهيم الآتية:

1- مفهوم العبادة بشكلٍ عام، وعبادة الله عزّ وجلّ بخاصة.

2- تحريم إشراك غيره سبحانه وتعالى في العبادة.

3- مفهوم الربوبية، وتحريم اتخاذ غير الله عزّ وجلّ ربّاً أو إلهاً.

4- المفاصلة العَقدية الكاملة بين أهل الإسلام وأهل الشرك أو الكفر.

*     *     *

ثالثاً: مناقشة المفاهيم الأربعة

- العبادة: هي التوجّه إلى الله عزّ وجل بكل أمر، والخضوع إليه خضوعاً كاملاً، والتذلل إليه، مع إرفاق كل ذلك بمحبّته الكاملة سبحانه وتعالى.. وقد ورد في محكم التنـزيل قوله عزّ وجلّ:

(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (النحل:36).

- والطاغوت: الوارد ذكره في الآية الكريمة الآنفة الذكر (.. وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ..)، هو كل ما يُعبَد من دون الله عزّ وجلّ، وهو الذي يصرف الناس عن طريق الخير، وهو كذلك، كل سلطةٍ أو قوّةٍ أو قيادةٍ تتمرّد على شرع الله ومَنهجه، ثم تحمل الناسَ على تنفيذ منهجٍ للحياة، تُشَرِّعه من عندها، وتضعه للناس بيدها وفق رؤيتها أو هواها أو مصلحتها.

- والربّ: الوارد ذكره في الآية: (.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..)، هو المدبِّر والمشرِّع، والسيّد، وصاحب السلطة العليا، أي: مَن يضع الشرائع والدساتير للناس، لتكون لهم منهجاً لحياتهم.. أو: هو مَن يضع لهم (دِيناً) يعملون به ويحتكمون إلى ما جاء فيه.. في شؤون حياتهم كلها.

- والدِّين: هو الذي يحدّد النظام والمنهج الفكري والعملي للسلطة العليا، وهو الشرع والقانون، وهو الذي يحدّد الحاكمية وسلطات السلطة العليا، ويحدّد طريقة الإذعان لها، كما يحدّد الجزاء والحساب والثواب والعقاب.. وفي هذا يقال مثلاً: (فلان دانَ الناسَ)، أي: قهرهم أو حملهم على الطاعة، كما يُقال: (دِنْتُهُ)، أي: سُسْتُهُ ومَلَكتُهُ.

ولمزيدٍ من توضيح الصورة في شرح المفاهيم الآنفة الذكر.. نوضّح معنى (الإله)، فنقول:

- الإله: هو الذي يتوجَّه إليه الناس بالعبادة والطاعة والخضوع التام.

*     *     *

رابعاً: مَن هو الذي يليق به أن يُنظّم حياة الناس

(أي: يضع لهم منهج حياتهم، ويُشرِف على تنفيذه)؟!..

 

للجواب على هذا السؤال، نعرض المثال التمهيديّ الآتي:

عندما يخطئ الطبيب في تشخيص مرض المريض، فيصف له علاجاً خاطئاً بناءً على تشخيصه الخاطئ.. فإنّ ذلك الخطأ سيؤدي إلى إحدى نتيجتين:

- إما استمرار علّة المريض وتفاقمها..

- أو موته!..

وفي الحالتين، فإنّ المريض يكون قد لحقه (ظلم) من قبل الطبيب، على الرغم من أنّ الطبيب في الأصل قد لا ينوي أن يظلمَ مريضَه، والظلم هنا لا يقع على المريض فحسب، بل يمكن أن يتأثر به أولاده الذين يعولهم، وزوجته، وربما أصحابه وأقاربه وهكذا ..!..

وبصورةٍ أخرى نقول:

لقد (أخطأ) الطبيب (حتى لو كان ذا نيـّةٍ حسنةٍ في سعيه الجادّ لمعالجة مريضه).. فنتج عن خطئه (ظلم)!.. وهذا يقودنا إلى القاعدة الآتية:

(الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم)!..

احفظوا هذه القاعدة، وانتقلوا معي إلى الفكرة الثانية:

كل مناهج الحياة توضع لتحقيق (سعادة) الإنسان (على افتراض أنه لا خلاف على النيّة الحسنة)، لذلك ينبغي لها ألا تكون ظالمةً في أي بندٍ من بنودها أو أي جزئيةٍ من جزئياتها، لأنّ وقوع الظلم لن يؤدي إلى سعادة الناس بأي حالٍ من الأحوال.. فإذا كان منهج الحياة ودستورها من وَضْعِ الإنسان نفسه، أي من وَضْع البشر، فإنها ستحتوي حتماً على الكثير من الأخطاء، لأنّ الإنسان (خطّاء)، وبالتالي سيقع في موضع كل (خطأٍ) في ما يضعه الإنسان -عند التنفيذ- (ظلمٌ) على قدره وبمقداره، فيكثر الظلم بمقدار كثرة الأخطاء في منهج الحياة الموضوع.. لذلك ينبغي لمن يضع منهج الحياة للناس وينظّم شؤونهم، أن يكون مُنَـزّهاً من (الأخطاء)، فيكون بذلك مُنـزّهاً من (الظلم)، فتتحقق (سعادة) الإنسان!.. أي بمعنىً آخر:

هو مَن يملك أن يضع للناس منهجاً صحيحاً خالياً من الأخطاء، وصحّة المنهج شرط أساس هنا، فمن هو الذي يتصف بهذه الصفة العظيمة؟!..

- الجواب : الله عز وجل وحده الذي لا يخطئ، فهو لا يظلم، فهو الوحيد القادر على تحقيق سعادة الإنسان.. والوحيد الذي يليق به أن يُنظّم حياة الناس الذين خلقهم وأراد لهم السعادة، وذلك بِوَضْعِ منهج الحياة الصحيح لهم، ثم بالإشراف على تنفيذه بشكلٍ صحيحٍ عادلٍ لائق، وفق منظومةٍ تشريعيةٍ شاملةٍ متكاملةٍ متوازنة!..

وغني عن الذكر، أنّ واضع المنهج أيضاً، ينبغي أن يكون عادلاً، وحكيماً، وخبيراً، وقادراً على محاسبة الناس مهما عَلَت رتبهم، وقادراً على الانتصار للمظلوم أو صاحب الحق حتى بعد موته أو موت ظالِمِه، لكي يتحقق العدل، فلا ينجو ظالم ولا يضيع حق مظلوم.. و.. فَمَن يتصف بهذه الصفات غير الله تبارك وتعالى؟!..

*     *     *

خامساً: النتيجة الأخيرة

كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة في أسُسِها التي تُبنى عليها، يضعها البشر الذين يخطئون (حتى على افتراض حسن النية)، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يُصادِرون (سعادة) الإنسان، أو جزءاً منها!..

أي: إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..) .. هذا (الأساس) هو:

إنّ البشر هم الذين وضعوها!..


أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ (2)

الأصل الأول في الإسلام، أو: الهدف

أولاً: نتائج الحلقة السابقة

 1- إنّ كل المظالم الواقعة الآن في الأرض، سببها أنّ مناهج الحياة يضعها البشر الذين يخطئون، فهم بذلك يَظلِمون، وهم بذلك أيضاً يصادِرون (سعادة) الإنسان، أو جزءاً منها!..

2- إنّ الظلم الذي يقع الآن في الأمة الواحدة، أو بين الأمم في الأرض.. وإنّ تعاسة الإنسان المتعدّدة الأشكال والألوان الناجمة عن ذلك.. إنّ ذلك كله، نابع من (الأساس) الذي تقوم عليه كل الأيديولوجيات والمناهج البشرية (الفردية، والقومية، والاشتراكية أو الشيوعية، والديمقراطية الرأسمالية، وغيرها..).. هذا (الأساس) هو: (إنّ البشر هم الذين وَضَعوها)!..

3- إنّ الذي (يضع) منهجاً للحياة، يحوِّل نفسَه إلى (ربٍّ) من دون الله، وإنّ الذي (يطيعه) في معصية الله وينفّذ منهجه الوضعيّ، يحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لذاك الربّ المزيّف]!..

ثانياً: بعض وجوه الألوهية، والربوبية، والعبودية

1- لقد قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (بشراً)!.. كيف؟!..

- الجواب : بالطاعة، والخضوع التام له، في معصية الله عزّ وجلّ:

(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) (الشعراء:29).

إنه تهديد الطاغية فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام، إذ يريد فرعون من موسى، أن يتركَ رسالته التي أنزلها الله عزّ وجلّ إليه ليبلّغ بها الناس، ويخضع (بدلاً من ذلك) خضوعاً تاماً لفرعون الجبار الطاغية، ويطيعه في ضلاله وطغيانه وكفره وتألّهه، ويتّبع دستوره وتشريعاته وقوانينه!..

2- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ الإله يمكن أن يكون (هوىً):

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان:43).

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثـية:23).

والهوى قد يكون فكرةً، أو شهوةً، أو عقيدةً فاسدةً، أو شهرةً.. يخضع لها الإنسان ويتحوّل إليها عن دِينه وعقيدته، وعن إله السماوات والأرضين.

3- كما قرّر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، أنّ الإله يمكن أن يكون مالاً:

(تَعِسَ عبدُ الدينار، وعبدُ الدرهم، وعبدُ الخَميصة) (البخاري).

والمال قد يكون عقاراً، أو لباساً، أو زينةً، أو نقداً، أو ذهباً وفضةً.. يخضع له الإنسان وينساق وراءه، فيبيع دِينه ومبادئه بِعَرَضٍ من الدنيا الزائلة، ناسياً الله عزّ وجلّ.. وما أشدها من تعاسة، عندما يحوِّل الإنسان نفسَه إلى عبدٍ ذليلٍ للمال!..

4- وسبق أن قلنا: إنّ القرآن العظيم قرّر أنّ الربّ يمكن أن يكون (بشراً):

(.. وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ..) (آل عمران: من الآية 64).

5- كما قرّر القرآن العظيم، أنّ العبادة (بمعنى الخضوع والطاعة في معصية الله عزّ وجلّ) يمكن أن تكون للبشر:

(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ) (المؤمنون:47).

(قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) (القصص:63). أي: (ما كانوا إيانا يطيعون ويعبدون هواهم الذي زيّن لهم طاعتنا).

لكن.. كيف يتحوّل الإنسان إلى إلهٍ أو ربٍ يُعبَد؟!..

القرآن العظيم يحسم القضية:

أ- الذين يُنظمّون شؤون الحياة بدساتيرهم وقوانينهم ومناهجهم، يتحوّلون إلى آلهةٍ وأرباب:

(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31).

فقد دخل عَديّ بن حاتم الطائي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية، فقال: [إنهم لم يعبدوهم يا رسول الله، فقال: بلى!.. إنهم حرّموا عليهم الحلال، وأحلّوا لهم الحرام (أي نظموا لهم شؤون حياتهم بغير منهج الله عزّ وجلّ).. فاتّبعوهم (أي أطاعوهم)، فذلك عبادتهم إياهم]!.. (تفسير ابن كثير-ج2-ص348-طبعة دار إحياء الكتب العربية).

ب- الذي يطيع واضعَ القانون أو المنهج أو الدستور يرفعه إلى رتبة ربّ العالمين:

فهذا خطاب العبيد يوم الحساب، لزعمائهم الذين أطاعوهم في الحياة الدنيا على الضلال:

(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:94-98).

يقول ابن كثير: (إذ نسوّيكم بربّ العالمين، أي: نجعل أمركم مطاعاً كما يُطاع ربّ العالمين).

ج- المنهج أو القانون الذي يضعه البشر يتحوّل إلى دينٍ للذين ينفذّونه:

(.. مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) (يوسف: من الآية 76).

يقول ابن كثير: (لم يكن ليأخذه في حُكْمِ ملك مصر، أي: قانونه).

*     *     *

ثالثاً: الأصل الأول في الإسلام أو (الهدف): لا إله إلا الله محمد رسول الله

كلنا نقولها ونردّدها صباحاً ومساءً وفي الأوقات كلها، فهل نعمل بمقتضاها، ونبرّئ ذمّتنا أمام الحيّ القيوم الذي لا إله سواه؟!..

أ- لنعلم أنّ الإيمان بهذا الهدف العظيم يقتضي ما يأتي:

1- نَبْذُ كل إلهٍ أو ربٍ غير الله عزّ وجلّ، فلا يتّخذ المسلم منهجاً للحياة إلا الإسلام، وينبذ مناهج الطواغيت وأذنابهم، ومناهج الآلهة والأرباب المزيّفين، ويرفض مشروعاتهم ومخطّطاتهم التي تستهدف الدين والوطن والإنسان والثروات والحاضر والمستقبل.. سواء أكانوا بشراً يشرّعون من عند أنفسهم، أو حجراً، أو هوىً، أو مالاً، أو متاعاً.. أو غير ذلك!..

2- وأنّ محمداً صلى الله عليه وسلم، هو الذي نقل منهجَ الله إلى الناس عن طريق الوحي، وفسّره ووضّحه، وأحاله إلى واقعٍ محسوسٍ، وبنى عليه أمة الإسلام ونظّم شؤونها.

3- أن يتحرّر المسلم المؤمن بهذا الهدف، من كل ظلمٍ وجَورٍ وبغيٍ ينجم عن المناهج البشرية الوضعية الخاطئة.. الظالمة.

ب- بعد ذلك، نسأل السؤال ذا الأهمية البالغة: هل يبقى المؤمن مؤمناً، إذا اتبع مَنهجاً غير مَنهج الله عزّ وجلّ، وأطاع طاغوتاً أو ربـّاً مُزيفاً أو قوّةً استعماريةً أو احتلاليةً أو عَقديةً على غير العقيدة الصحيحة للإسلام، وخضع لأصحابها في شؤون حياته أو في بعضها.. هل يبقى المؤمن مؤمناً إذا فعل ذلك؟!..

- للجواب على السؤال السابق نقول:

ما الفرق بين المشرك الذي يُنفّذ مَنهجاً للحياة غير منهج الله عزّ وجلّ، ومن يلهج بذكر هدف الإسلام العظيم: لا إله إلا الله محمد رسول الله في كل وقت، من غير أن يعمل بمقتضاه (1و2و3) الذي ذكرناه آنفاً؟!.. كيف يقول المسلم: لا منهج للحياة إلا منهج الله (لا إله إلا الله)، ثم ينفّذ مناهج الطواغيت والأرباب المزيّفين، وينصاع للمخطّطات الاستعمارية والمشروعات الاحتلالية، أو يتواطأ مع واضعيها لتنفيذها على شعبه وأمّته؟!..

بمعنىً آخر: كيف يُقرّ المسلم بطاعة الله عزّ وجلّ، وبتنفيذ منهجه القويم الصالح لكل زمانٍ ومكان، وينطق بالشهادتين، من غير أن يتبنى منهجه عزّ وجلّ، ومن غير أن ينبذَ مناهج البشر ومخطّطاتهم الشريرة؟!.. ثم يطيع -مع الله سبحانه وتعالى- مَنهجاً آخر وَضْعِياً يضعه الطواغيت من البشر، فيحوِّلهم إلى (أربابٍ) له، ويحوِّل نفسَه إلى (عبدٍ) لهم، مع إقراره بعبوديته لله عزّ وجلّ، وبأنه سبحانه وتعالى هو ربه؟!.. أي: يُشرك عبادته لله.. بعبادة البشر (الطواغيت والأرباب المزيّفين والقوى الشريرة التي تستهدف أمّته وعقيدته ودينه)!.. أليس هذا هو: (الشرك) بأوضح معانيه؟!..

- يقول ربّ العزة سبحانه تبارك وتعالى في محكم التنـزيل، موضّحاً حقيقة الشرك في الإسلام وجوهره:

(.. وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ).. (الأنعام: من الآية 121).

يقول ابن كثير في تفسير ذلك: (حيث عَدَلْتُم عن أمرِ الله وشرعه إلى قول غيره، فقدّمتم عليه غيرَه، فهذا هو الشرك، كقوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله..)!..

- كما يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:

(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: من الآية 44).

(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: من الآية 45).

(.. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: من الآية 47).

لنلاحظ كيف جاءت الآيات الثلاث في سورةٍ واحدةٍ متتابعةً تقريباً، ولنلاحظ الكلمات: الكافرون، الظالمون، الفاسقون!.. وكلها مرتبطة بالحكم بغير ما أنزل الله، الذي سيوقع الناس في: الكفر، والفسق، والظلم.. ولنلاحظ كيف ارتبط الظلم بالحكم بغير ما أنزل الله، وذلك ما شرحناه في حلقتنا الأولى السابقة (مصدر الظلم في المناهج البشرية)، عندما انتهينا إلى القاعدة الدقيقة: (الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم)!..

ج- بعد هذا قد يقول قائل:

طالما أنّ خطر الشرك واقع على كل المسلمين، لأنّ حكامهم وأنظمتهم أو (أربابهم)، الذين قد يكونون حُكْماً فردياً، أو حزباً، أو طائفةً، أو عشيرةً، أو أسرةً، أو قوّةً خارجيةً، أو أي فئةٍ تحكم بغير ما أنزل الله عزّ وجلّ، وبغير منهجه وشرعه القويم سبحانه وتعالى.. طالما أن هؤلاء يجبرونهم على تنفيذ شرعٍ غير شرع الله ومنهجٍ للحياة غير منهج الله.. فما السبيل للتخلص من هذا الخطر العظيم الـمـُهلِك في الدنيا والآخرة: الشرك؟!..

- الجواب في قوله عزّ وجلّ:

(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52).

وهذا ما ينقلنا لمناقشة (الأصل الثاني) في الإسلام، أو: (وسيلة تحقيق الهدف)، وهو: (الجهاد في سبيل الله)، الذي سنلقي عليه الأضواء، شرحاً وتفصيلاً وتوضيحاً، في الحلقة القادمة بإذن الله عزّ وجلّ.


أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ (3)

الأصل الثاني، أو وسيلة تحقيق الهدف: الجهاد في سبيل الله

 

أولاً: نتائج الحلقتين السابقتين

لقد انتهينا في الحلقتين السابقتين (1و2) إلى النتائج المهمة الآتية:

1- يتحوّل الناس في ظل تشريع بعضهم لبعضٍ إلى: أربابٍ يُشرِّعون أو يضعون مناهج الحياة، وعبيدٍ يُطيعون: (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه) (آل عمران: من الآية 64).

2- إنّ الخطأ يؤدي -عند التنفيذ- إلى الظلم، والمعصوم عن الخطأ وحده، هو الذي يليق به أن يُنظّمَ حياة الناس، ويضعَ لهم مَنهج حياتهم ودستورهم.

3- إنّ المظالم الواقعة الآن في الإنسانية، نابعة من الأساس الذي تقوم عليه المناهج والأنظمة التي يُحكَم بها الناس، وهو: (بشرية هذه المناهج) التي وضعها البشر الذين يخطئون، فيَظلمون.

4- إنّ القرآن الكريم يقرّر، أنّ الذين يُنظمّون حياةَ الناس بمناهجهم الوضعية، يتحوّلون إلى أربابٍ مُزَيَّفين: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31).

5- إنّ الذي يُطيع واضع التشريع في معصية الله، يرفعه إلى رتبة ربّ العالمين: (إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء: 98).. وبذلك يُشرِك بالله عزّ وجلّ: (.. وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام: من الآية 121).

6- إنّ هدف الإسلام في الأرض هو: (لا إله إلا الله)، وهو الأصل الأول في الإسلام، الذي يـُحرّر الإنسانَ من العبودية لغير الله سبحانه وتعالى.. فلا واضع لمنهج الحياة إلا الله عزّ وجلّ، ولا طاعة إلا له، ولا تنفيذ إلا لشرعه القويم، ولا خضوع إلا إليه عزّ وجلّ، من غير كل القوى وجبابرة الأرض.

*     *     *

ثانياً: ما السبيل إلى تحقيق هدف الإسلام في الأرض؟

نتساءل:

1- كيف يتغلّب المسلم على واقعه، فيسير لتحقيق هدفه، وهو: تحقيق العبودية لله عزّ وجلّ وحده، من غير شِرْكٍ أو اتّباعٍ لغير مَنهجه القويم؟!..

2- وما الوسيلة إلى تحقيق هدف الإسلام في الأرض: (لا إله إلا الله)، أي: لنبذ كل الأرباب المزيَّفين والطواغيت، ورفض مخطّطاتهم ومشروعاتهم الخبيثة، وتبنّي منهج الله عزّ وجلّ وحده.. ثم لتحرير النفس والمجتمع والإنسانية، من الظلم الناجم عن المناهج الوضعية الخاطئة الظالمة؟!..

- الجواب أو الحلّ هو: ما ورد في الآية الكريمة العظيمة:

(فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان:52).

أي: جاهدهم بالقرآن العظيم، أي بمنهج الله عزّ وجلّ وحده، وبدستوره وشرعه وحده.

*     *     *

ثالثاً: المفاهيم التي تعرضها الآية الكريمة

1- تحريم الانصياع للأرباب المزيّفين، الذين يُنظمّون حياة الناس بمناهج وضعيةٍ من غير منهج الله عزّ وجلّ، بما يناقِضه، ورفض طاعتهم في ذلك بالوسائل الشرعية المناسبة، لأنهم خاطئون ظالمون لا يعملون لتحقيق العبودية لله عزّ وجلّ، في شؤون الحياة كلها، أو في بعضها.

2- جهاد الطواغيت الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ومقارعتهم بما قرّره القرآن العظيم، الذي هو منهج المسلم الذي ارتضاه الله له وأمره بتنفيذه.. مع ملاحظة أنّ هذه الآية الكريمة (مكّية) أي أنها تدعو إلى الجهاد الكبير به (.. وَجَاهِدْهُمْ بِهِ..) أي: بالقرآن العظيم، أي: بمنهجه وحده!.. وعندما نزلت هذه الآية في مكة المكرّمة، لم يكن الأمر بالقتال قد نزل، فالأمر بالقتال حصل -كما هو معروف- في بداية العهد المدنيّ!.. وهكذا فإنّ:

- الأمر بالجهاد نزل في بداية الدعوة في المرحلة المكّية.

- ثم تكاملت معاني الجهاد، إلى أن نزل الأمر بالقتال في بداية المرحلة المدنية: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..)  (الحج: 39 ومن الآية:40) .. لذلك فقد حدّد الإسلام أنواعاً للجهاد، صنّفها العلماء تصنيفاتٍ عدة.

*     *     *

رابعاً: أنواع الجهاد في سبيل الله

لقد فرض الله عزّ وجلّ الجهادَ على المسلمين -كما أسلفنا- منذ بداية الدعوة، وذلك لتحقيق هدف الإسلام في الأرض، ولتعميمه في أركانها، حتى يكونَ مَنهج الله عزّ وجلّ هو الوحيد الذي يحتكم إليه الناس في كل زمانٍ ومكان، وحتى تُنبَذَ المناهج البشرية القاصرة الطاغية الظالمة، التي وضعها الأرباب المزيّفون، الذين يستعبدون بها الناس، ويَسْتَرِقّونَهم بنُظُمِها!.. وقد صنّف الإمام (ابن القيّم) -رحمه الله- الجهادَ إلى أربعة أقسامٍ رئيسة:

1- جهاد النفس:

- على تعلّم الهدى ودِين الحق.

- وللعمل بالهدى ودِين الحق.

- وللدعوة إلى الهدى ودِين الحق.

- وللصبر على مشاقّ الدعوة وأذى الأعداء.

2- جهاد الشيطان:

- للاستقامة على منهج الله عزّ وجلّ.

- ولرفض ترك منهج الله إلى غيره من المناهج الظالمة الباغية.

3- جهاد الظلمة والمنحرفين وأصحاب البدع السيّئة والمنكرات.

4- جهاد الكفار والمشركين والمنافقين: لهدايتهم، ولتعميم الإسلام في الأرض.. وذلك بالمال والنفس واليد واللسان والقلب.

- والجهاد بكل أنواعه (فرض عَينٍ) على كل مسلمٍ، حتى يتحقّق هدف الإسلام في الأرض، وهو تحكيم منهج الله عزّ وجلّ فيها، لأن تحقيق الهدف (وهو الحكم بما أنزل الله) فرضٌ على المسلم، فوسيلته (الجهاد في سبيل الله) فرضٌ أيضاً حتى يتحقق.

- ومَن يجاهد في سبيل الله عزّ وجلّ لتكون كلمة الله هي العليا، ولتحرير شعبه وأمّته من سيطرة القوى الشريرة الداخلية والخارجية، ولبناء الدولة المسلمة والأمة المسلمة.. فإنه ينجو من الشرك، سواء أقامت الدولة التي تحكم بما أنزل الله في حياته.. أم لم تقم.

- والمسلم الذي يرضى بأن تُحكَمَ جوانب الحياة بمنهجٍ غير منهج الله عزّ وجلّ، أو يرضى بسيطرة أية قوّةٍ باغيةٍ على مفاصل الحياة في بلده بأي شكلٍ من الأشكال، ولا يسعى لتغيير هذا الواقع بالجهاد بأنواعه المناسبة، وبمقتضى الحديث الشريف: (مَن رأى منكم مُنكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه.. وذلك أضعف الإيمان) (مسلم).. وحسب الإمكانية القصوى والظروف المتاحة.. فهو قد رضي لنفسه أن يقع في خطر الشرك، لأنه قعد ورضي بواقع الظلم والحكم بغير ما أنزل الله، ورضي بالظلم منهجاً تفرضه القوى الطاغية الباغية الداخلية والخارجية المختلفة، على شعبه وأمّته وبلده!..

لماذا ؟!..

1- لأنّ التفريط بالجهاد.. سيؤدي إلى التفريط بأصل الإيمان الأول (لا إله إلا الله)، والتفريط بأصل الإيمان.. سيؤدي إلى التفريط ببعض الإسلام، والتفريط ببعض الإسلام.. سيؤدي إلى التفريط بالإسلام كله، وبالتالي سيؤدي إلى الخروج الكامل عن الإسلام.. أعاذنا الله من ذلك وأجارنا، وجعلنا من الدعاة المجاهدين المخلصين في سبيله.

2- ولأن مجاهدة المخططات الأجنبية، ومقاومتها، ومقاومة احتلالها، مهما كان شكله أو صورته أو أسلوبه، ومقاومة كل القوى التي قدمت على ظهور دباباتها أو تتواطأ معها.. والوقوف بوجه عملائها من أنظمة الحكم أو الأحزاب أو التشكيلات أو المؤسسات أو الهيئات أو الأشخاص.. والعمل على إفشالها وطردها وإسقاطها.. هو فرض عَينٍ على كل مسلمٍ حتى يتحقق هدف تحرير الأوطان والبلدان والإنسان بشكلٍ كامل، وتتحقق بالتالي معاني العبودية لله عزّ وجلّ وحده.. وحده.. في الوطن والأرض.

*     *     *

خامساً: ماذا يعني ترك الجهاد؟

لنناقش ذلك بالمنطق الذي بدأنا به:

1- إنّ ترك جهاد النفس: سيؤدي إلى خروجها عن الهدى، فتنحرف وتصبح عوناً للطاغوت الذي لا يحكم بما أنزل الله.

2- وترك جهاد الشيطان: سيؤدي إلى الانحراف عن منهج الله، والتنقّل بين المناهج الوضعية الظالمة المختلفة، والضياع في متاهاتها.

3- وترك جهاد الظلمة والمنحرفين: سيؤدي إلى سيطرتهم على مقاليد الأمور، وإدارة شؤون الأمةَ كلها، وفق أهوائهم وانحرافاتهم وضلالهم ومناهجهم الظالمة الطاغية الباغية.

4- وترك جهاد الكافرين والمنافقين وأصحاب العقائد الهدّامة المشبوهة: سيؤدي إلى ضعفٍ عامٍ للمسلمين، وإلى سيطرة أعدائهم عليهم وعلى أرضهم وبلادهم وأوطانهم، ثم على عقولهم وأخلاقهم ومواردهم وثرواتهم.. ما يؤدي بالنتيجة إلى دمارٍ شاملٍ للأمة، وإلى هلاكها، حين يقبل أبناؤها بوقوعها رهينةً بأيدي العدوّ الكافر أو المشرك الضال الظالم المعتدي!..

إذن: ترك الجهاد بأنواعه، سيؤدي إلى حصيلةٍ كارثية، نـُجملها في نتيجتين مُدَمِّرتين للفرد المسلم وللأمة المسلمة، حدّدتهما الآية الكريمة الآتية:

(إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).. (التوبة:39).

- أي: إِلاّ تَنْفِرُوا (إن لم تجاهدوا):

1- يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (وهو الشقاء الدنيوي المروِّع، فضلاً عن عذاب يوم القيامة)!..

2- وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (وهو الهلاك العام الشامل، والزوال التام، والذلّ العام، والعبودية للظالمين الطغاة والأعداء)!..

- وقد أجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم نتائجَ ترك الجهاد، بالحديثين الشريفين التاليين:

1- [إذا تَبايَعْتُم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد.. سلّط الله عليكم ذلاً (أي عبوديةً) لا ينـزعه عنكم إلا العودة إلى دِينكم (أي العودة إلى منهج الله عزّ وجلّ وشرعه)]. (رواه أبو داوود وصحّحه الحاكم).

2- [يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها (لأنّ الأمة متخاذلة متهالكة ميّتة)، فقال قائل: ومن قلّةٍ نحن يومئذٍ؟!.. قال: بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل (أي كثيرون ولكن بلا شوكةٍ ولا وزنٍ ولا قوّة)، ولَيَنْزَعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوّكم المهابةَ منكم (لعدم وجود قوّةٍ حقيقيةٍ لكم)، ولَيَقْذِفَنَّ في قلوبكم الوَهْن، فقال قائل: وما الوهْن يا رسول الله؟!.. قال: حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت (لاستفحال الفساد وترك الجهاد بأنواعه، فتصبح الحياة الدنيا هي الهدف)!..] (أخرجه أبو داود).

وبذلك تصبح الأمة -بترك فريضة الجهاد بأنواعه المذكورة- هالكةً، بلا شوكةٍ ولا قيمةٍ ولا وزنٍ حقيقيّ، تأكلها الأمم الأخرى، وتستهين بها، وتُذِلّها، وتُهينها، وتفعل بها الأفاعيل!.. ولسنا بحاجةٍ لسرد عشرات الأمثلة الماثلة أمامنا بوضوح، مما نعيشه واقعاً ملموساً محسوساً، ومما بدأ في الأندلس ولم ينتهِ في فلسطين وأفغانستان والعراق وسورية.. وغيرها!..


أصولُ مَشروعِنا الإسلاميّ (4)

الأصل الثالث، أو المحرِّك الدائم: اليوم الآخِر

أولاً: مَدخَل

أ- نُذَكِّر بأنّ الأصل الأول في الإسلام هو (الهدف): (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، وبأنّ الأصل الثاني هو (وسيلة تحقيق الهدف): (الجهاد في سبيل الله).. أي أنّ المسلم مطالَب بالجهاد في سبيل الله بكل أنواعه وأصنافه، إلى أن يتحقق هدف الإسلام في الأرض، وتتحرّر الأوطان والبلاد والعباد من أي شكلٍ من أشكال الظلم والهيمنة الداخلية أو الخارجية، وتتحقق العبودية لله عز وجل وحده، ويُحَكَّم منهج الله سبحانه وتعالى في كل شؤون الحياة.. وإلا فخطر الشرك قائم على كل قاعدٍ متقاعسٍ عن أداء هذه المهمة العظيمة التي أوكلها الله إلينا -نحن المسلمين-.

ب- لقد قلنا: إنّ التخلّي عن فريضة الجهاد في سبيل الله لتحقيق هدف الإسلام في الأرض، سيؤدي إلى نتيجتين مُروِّعَتين:

1- يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً (وهو الشقاء الدنيوي المروِّع، فضلاً عن عذاب يوم القيامة)!..

2- وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (وهو الهلاك العام الشامل، والزوال التام والذلّ العام، والعبودية للظالمين الطغاة وللأعداء)!..

ج- كما قلنا: إنّ مَن يليق به أن ينظِّم حياة الناس، يجب أن يملك القدرة على محاسبة الظالم، والاقتصاص للمظلوم.. حتى بعد الموت!..

وبذلك يتحقق العدل، فلا يهرب من الحساب أي إنسانٍ مهما بلغت قوّته وبلغ جبروته، ولا يضيع حق أي إنسانٍ يوم القيامة حتى لو ضاع حقه في الحياة الدنيا!.. وإن كلّ ذلك سيتحقق في يومٍ يُحاسَب فيه الناس على كل حركةٍ أو عملٍ أو سكنةٍ في حياتهم الدنيا، وقد قدّر الله عزّ وجلّ حدوث هذا اليوم، ووصف لنا ما سيحصل فيه من حساب، في كثيرٍ من الآيات القرآنية، منها الآية الكريمة التالية التي توجِز ما نقول من حقائق:

(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) (يونس:4).

*     *     *

ثانياً: المفاهيم التي تعرضها الآية الكريمة

1- إنّ يوم القيامة أو اليوم الآخِر ضرورة لا بد منها، ولا شك فيها.

2- الثواب مُقرَّر من عند الله عزّ وجلّ، للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ويُنفّذون منهجه القويم.

3- العذاب والعقاب مقرَّران من الله عزّ وجلّ، للكافرين والمشركين، وللمتقاعسين عن أداء فرض الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.

إذن، فاليوم الآخِر ضرورة ملحّة:

- لأنه يدل دلالةً قاطعةً على صحّة منهج الله عزّ وجلّ، وعلى رقابته للناس، وعلى قدرته جلّ وعَلا.

- لمنح المحسن الطائع ثوابه وجائزته.

- لملاحقة المسيء وإنزال العقوبة المناسبة به.

- للاقتصاص للمظلومين من الظالمين.

وبالنتيجة، فإنّ اليوم الآخِر ضرورة لا بد منها، ليستقيم الناس على منهج الله عزّ وجلّ الحق:

(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:115).

*     *     *

ثالثاً: أحوال الكافرين والمشركين في يوم القيامة

1- المشركون الذين لا يُنفّذون شرع الله عزّ وجلّ ومَنهجه.. هذه حالهم:

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (إبراهيم:30).

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124).

(وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) (المؤمنون:117).

نعم.. نعم.. إنه الكفر والشرك، ثم العذاب والنار والعمى و..

2- يحشر الله عزّ وجلّ الظالمين المشركين، ويسألهم، ويقرّر مصيرهم:

(احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ) (الصافات:22 و23 و24).

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر:52).

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ) (غافر:73 و74).

3- يتبرّأ الأربابُ المزيَّفون وعَبيدهم.. كلٌ من الآخَر:

(وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ * قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ) (القصص:62 و63).

(وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة:167).

4- ويتمنى الذين لم يجاهدوا لتحكيم منهج الله عزّ وجلّ، أن لو فعلوا فجاهدوا، ويعترفون بظلمهم وشركِهم، ويندمون على تفريطهم:

(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنعام:27).

(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) (الأنعام:30).

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) (إبراهيم:44).

5- ويأمر الله عزّ وجلّ بإيقاع العذاب.. على: المشركين، والذين ظلموا، والأرباب المزيَّفين:

(أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) (قّ:24).

6- ويُساقُ الكافرون، والمشركون، والأرباب المزيَّفون، وعبيدهم.. إلى جهنّم:

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) (الزمر:71).

7- فيعود عَبيدُ الأرباب المزيَّفين للتمنـّي، أن لو نفَّذوا منهج الله عزّ وجلّ، ويعترفون بأنّ مَن وضعوا لهم مناهج لحياتهم قد أضلّوهم، وأوصلوهم إلى هذه النتيجة المروّعة:

(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) (الأحزاب:66 و67 و68).

8- ثم يتجادل الأربابُ المزيَّفون وعَبيدهم، ويُسلّمون أخيراً بأنّ مصيرهم جميعاً هو إلى العذاب:

(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) (الشعراء:96 و97 و98).

(وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ) (غافر:47 و48).

*     *     *

رابعاً: النتيجة الكارثية النهائية

هكذا إذن، فالكافرون والمشركون، أو الأرباب المزيَّفون وعَبيدهم :

- يطلبون الخلاص من أعمالهم الشريرة السيئة.. فلا يستطيعون.

- يطلبون الخلاص من أربابهم المزيَّفين.. فيخذلونهم.

- يتمنّون لو أطاعوا مَنهج الله عزّ وجلّ، وأطاعوا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ولكن هيهات.. هيهات، فقد انتهت حياة الاختبار والاختيار، وجاء وقت الحساب.

- يطلبون العودة إلى الدنيا، ليعملوا من جديدٍ بمنهج الله عزّ وجلّ، لكن فات الأوان.

- يستسلمون أخيراً لحكم الله عزّ وجلّ فيهم، فيُساقون كلهم: الأرباب المزيّفون، وعبيدهم الذين اتـّبعوهم ونفَّذوا مناهجهم الوضعية الخاطئة الظالمة.. إلى العذاب الشديد في جهنم.

 

بصورةٍ أخرى نقول: إنّ النتيجة النهائية، هي إنهم (الأرباب والعبيد) يتمنّون أن:

1- لو كفروا بمناهجهم الوضعية الظالمة، واتبعوا منهج الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم، أي لو: آمنوا بهدف الإسلام في الأرض: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. وهو الأصل الأول!..

2- لو عملوا بمنهج الله عز وجل أو سعوا لتحقيقه في الأرض، أي لو: اتبعوا وسيلة تحقيق الهدف: (الجهاد في سبيل الله).. وهو الأصل الثاني!..

3- لو نـَجوا من عذاب الله عزّ وجلّ في يوم الحساب، أي لو: آمنوا بأنّ يوماً لا ريب آتٍ، يُحاسَب فيه الناس على أعمالهم في الدنيا (يوم القيامة أو اليوم الآخِر).. وهو المحرِّك الدائم والأصل الثالث!..

 

وهكذا، فالجدال والحوار والأمنيات والاعترافات في يوم القيامة.. كلها تدور حول: (الأصول الثلاثة في الإسلام).. التي ذكرناها في حلقاتنا.. إضافةً إلى (منهج الحياة) ودستورها وشرعها!..

*     *     *

خامساً: كلمة أخيرة

أيها المسلمون.. عرباً وغير عرب:

- لنؤمن كلنا بإله واحدٍ لا شريك له، الذي يضع للإنسان منهج الحياة، ويحرّره من عبودية البشر للبشر..

- ولنجاهد في الله حق جهاده، حتى نحرّر البلاد والأوطان والعباد، من العبودية لأصحاب المشروعات الاستعمارية المشبوهة، ولأنظمة الحكم المتواطئة التي لا تحكم بما أنزل الله، ولكل القوى الخائنة العميلة التي تزحف إلى أوطاننا بعقائدها الفاسدة المفسِدة.. وإلا فخطر الشرك بالله علينا.. قائم..

- ولنوقن بأنّ هناك يوماً آخِر، لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا أميركة ولا كيان صهيونيّ، ولا روسية الإجرامية، ولا إيران المجوس، ولا أصحاب المشروعات الهدّامة، ولا طغاة أو أرباب مُزيّفون.. مهما بلغت قوّتهم وجبروتهم.. يوماً آخِر، فيه يحاسَب كل امرئٍ على عمله، سواء أكان مفرّطاً، أم ملتزماً بما يفرضه عليه دينه وإسلامه، ومنهج ربه الواحد الأحد عزّ وجلّ لا شريك له.. فيعاقَب الأول بالسعير والتعاسة الأبدية، ويكافأ الثاني بالنعيم المقيم.


ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ

كيف يكون موقف المسلم المؤمن من منهج الله سبحانه وتعالى؟!..

إننا في عصرٍ تعدّدت فيه مناهج الحياة ومشروعات الأمم، وبرز فيه الجدل حول منهج الله عزّ وجلّ، الذي نؤمن بأنه الخير المحض، وبأنّ سعادة الإنسان وتحقيق المساواة والعدل بين البشر.. مرتبطٌ به وبتنفيذه تنفيذاً عصرياً يناسب زماننا الذي نعيشه.. تنفيذاً متطوِّراً يتلاءم مع مقتضيات الحياة الجديدة التي يعيشها الناس في هذه الأرض.. تنفيذاً مرتبطاً بالأصول والجذور التي تشدّنا.. ارتباطاً وثيقاً.

إننا لا نُرهَبُ بالفزّاعات الكرتونية، التي يستخدمها بعضُ الذين أغرتهم المناهج البشرية الوضعية، التي تسومُ الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض سوءَ العذاب، متعدّد الألوان والأصناف، فنحن واثقون من المنهج الإسلاميّ الذي نؤمن به ونسعى إلى تحقيقه، مشروعاً عصرياً يستند إلى ركنٍ ربانيٍّ شديد، ومقتنعون بأنّ في ذلك خير الإنسان وسعادته وحرّيته وكرامته وإنسانيته، وبخاصةٍ الإنسان السوريّ الذي يعاني من الاستبداد والفساد والطغيان والعدوان والاحتلال والاضطهاد.

*     *     *

إنّ متانة العلاقة وقوّتها بين المسلم ومنهج الله عزّ وجلّ، هي التي تؤهّله ليكون مسلماً حقيقياً مُنتِجاً فعّالاً يخدم وطنه، ويتفاعل مع مجتمعه مهما تعدّدت شرائح هذا المجتمع.. وهي التي تُرشِّحه كذلك، ليكون لَبِنَةً متينةً في بناء المقاومة التي تهدف إلى تحرير السوريين، من الذلّ والعبودية لنظامٍ مجرمٍ سحق كل معاني الخير والفضيلة والكرامة لأبناء سورية.

*     *     *

نعتقد بشكلٍ حازمٍ جازم، أنّ الموقف المهلهل المتخلخل المتردّد في تبنّيه، من منهج الله سبحانه وتعالى، يحمل بين ثناياه نتيجتَيْن مُدمِّرتَيْن:

أ- سخط الله سبحانه وتعالى، وبالتالي، عدم استحقاق دعمه وتأييده ونصره على الباطل، بل انتظار عقوبته وفق السنن الربّانية الأكيدة في هذه الأرض.

ب- وفشل المنهج الذي ننتمي إليه بأرواحنا وقلوبنا وإيماننا.. قبل أجسادنا، حين لا نُقدّم صورةً واضحةً مُشرِّفةً للعقيدة التي نعتنقها، وللفكرة التي ندعو إليها، ونسعى لتكونَ متوهِّجةً متألِّقةً ملء السمع والبصر.

- لذلك، فأول معالم الالتزام بمشروعنا الذي نعتمده وندعو إليه، هي الطاعة المطلقة لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى الله عليه وسلم: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).. إنّه التسليم المطلق الذي نسلكه دون تردّدٍ ومن غير أيّ حرجٍ نفسيّ.

- وثاني معالم الالتزام بمشروعنا، هي تقديم طاعتنا لربّنا جلّ شأنه، ولرسولنا عليه الصلاة والسلام، في  ظروف الحياة كلها، أكانت صعبةً قاسيةً أم هيّنةً ليّنة، فمشروعنا الإسلاميّ الحضاريّ المنبثق عن منهج الله عزّ وجلّ، هو الأساس الذي يحكم علاقاتنا وسلوكنا وتفاعلنا غير المحدود مع كل محيطٍ نعيش ضمنه، لأنه الركن الشديد الذي نأوي إليه، وندور في مداراته، ونواجه العالم كله بأصول عظمته ومعاني إنسانيّته ورُقِيّه، ونُحدِّد به هُويّتنا الحضارية العربية والإسلامية، وننام ملء جفوننا عن شواردها، مطمئنّين تمام الاطمئنان، مقتنعين تمام الاقتناع.. بنهجنا الذي نسير وفقه ولا نساوم عليه مهما غلت التضحيات. ونحن من منطلق هذا الاقتناع والاطمئنان إليه، لا نُنكِر على الآخرين مشروعاتهم ومناهجهم التي يسيرون عليها لتحقيق هدفٍ واحدٍ فحسب، هو تحرير الإنسان السوريّ من ظلم النظام الحاكم وديكتاتوريّته، لكننا في الوقت نفسه، نرفض أن يزاودَ علينا المزاودون، مهما أجلبوا بِخَيْلِهم ورَجِلِهِم، محاولين –عبثاً- إقصاءنا تحت يافطاتٍ مكشوفةٍ تجاوزها الزمن!.. كما نقبل أن يتنافسَ أصحابُ المشروعات المتعدِّدة تنافساً حضاريّاً شريفاً، فشعبنا شعب الحضارة والقيم والهُويّة الحضارية التي يعتزّ بها منذ فجر الإسلام حتى اليوم.. هو صاحب الحقّ باختيار المشروع اللائق به وبحضارته وبهُويّته.. نقبل هذا التنافس الشريف بين أبناء الوطن الواحد وقواه الوطنية الحيّة، ونرفض رفضاً قاطعاً كلَّ العنعنات التي تصدر بين حينٍ وآخر من هنا وهناك، وكلَّ المحاولات التي تسعى إلى ركوب مركَب الاستبداد نفسه ومزاياه، مهما زعم الزاعمون، وتأوّل المتأوِّلون، وقال القوّالون.. أو قعقعوا وأجلبوا.. ونحن على ثقةٍ تامة، أن شعبنا سيختار المنهج الذي ينسجم مع هويّته وانتمائه الحضاريّ المشرق المتجذِّر.

(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).


لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ

قد تمرّ ظروف تضيق فيها الأرض علينا بما رحبت، وتصدمنا خيبات الأمل بمن حولنا، وتؤلمنا الأحداث المتدفقة في عالَمنا.. لكننا أبداً لن نستسلمَ لها، أو نضعفَ أمامها، أو نجبنَ في مواجهتها.. وعدّتنا في ذلك كله، إيماننا بربنا وبإسلامنا وبحقّنا، وبعدالة قضايانا، وبسلامة طريقنا وشرعيته!.. وها هوذا رسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم يقول لنا: (إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فَمَن رضي فله الرضا، ومَن سخط فله السخط) (الترمذي).. بعد هذا كله: أفلا نتشرّف بمحبة الله عزّ وجلّ لنا؟!.. أفلا نرضى بما ابتلانا به، فنكون من أحبائه الفائزين؟!..

لقد سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي الناس أشد بلاءً؟.. قال: الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتَلى الناس على قدر دِينهم، فَمَن ثَخُنَ دِينُه اشتدَّ بلاؤه، ومَن ضعف دِينه ضَعُفَ بلاؤه ..) (ابن حبان).. أفلا نتقبّل البلاء بعد كل ذلك، بصبرٍ واحتسابٍ عند الله سبحانه وتعالى، وفي سبيله؟!..

*     *     *

لو تهاوى كل صاحب حقٍ وقضيةٍ عادلة، بسبب بعض الصعوبات والظروف القاسية المحيطة.. لوقفت الحياة، ولما وجد الحق له أنصاراً يذودون عنه، ولبقي الباطل يصول ويجول في قلوبنا وعقولنا وجزئيات حياتنا كلها، دون رادعٍ يواجهه.. ولا يمكن للمسلم المؤمن أن يرضى بهذا، لأن المسلم يحمل أمانةً نبيلةً ساميةً عظيمة، ينبغي له أن يؤديَها حق أدائها.

إنّ أول أمرٍ ينبغي أن نعيَه جيداً، هو إننا عابرو سبيلٍ في هذه الدنيا، وإننا مكلّفون بمهمةٍ محدَّدةٍ من رب العالمين، هي مهمة الدعوة إلى الله عزّ وجلّ، والثبات على طريق هذه الدعوة، حتى تحقيق هدف الإسلام في الأرض، وهو إقامة منهج الله سبحانه وتعالى فيها، لتتحققَ سعادتنا وسعادة الإنسان، بعمارة الأرض التي كلّفنا الله جلّ شأنه بها، على أسسٍ إسلاميةٍ مدنيةٍ عصرية.

لذلك، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف الربانيّ السامي.. فالمطلوب هو أن نتحلّى بالصبر على كل مشاق الطريق ومصاعبه، والمصاعب تنشأ من حقيقة هذه الدنيا، فهي دار امتحانٍ وابتلاء، والمؤمن عليه أن يوطّن نفسه على الابتلاءات والامتحانات الربانية.. فالغربة ابتلاء، والاحتلال ابتلاء، والوسط المحيط ابتلاء وامتحان، والعدوان على الشعب والأمة، وما يفرزه ذلك من مصائب ومِحَن.. ابتلاء.. وهكذا، كلما خرج المؤمن من واحدةٍ وجد نفسه في ثانية، وكلما خرج من محنةٍ.. قَوِيَ عودُهُ، ولمع مَعْدنه، وغدا أكثر إشراقاً وصلابةً وقوة، وأعمق تجربةً وخبرة، وقد قال الله عزّ وجلّ في وَصْفِ هذه الحالة: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31).

*     *     *

الصبر فضيلة، نحتاجها في دنيانا وعالَمِنا المضطرب من حولنا، فعلينا أن نوطّن أنفسنا على احتمال الأذى والمكاره والضائقات، من غير ضجرٍ أو تخلخلٍ في نفوسنا وقلوبنا.. والصبر نعمة من الله عز وجل أيضاً، علينا أن نحرص عليها، لأنه هو الذي يجعلنا على أملٍ دائمٍ بتحقّق الفرج مهما تطاولت السنين، إذ الأذى وسطوة الباطل حالة مؤقتة، لأنها تتناقض مع سنة الله عزّ وجلّ في أرضه، كما تتناقض مع نواميس الكون، فالذي يرسخ في هذه الدنيا حسب سنة الله، هو الحق والخير والعدل والعدالة.. فهل يتساقط المخلصون المؤمنون، ويَدَعون الأزمات تجرفهم، بدل أن يسحقوها، بعزمهم وإيمانهم، وعدالة طريقهم وقضاياهم، وإصرارهم وصبرهم ومصابرتهم؟!..

صَبْرنا على الابتلاء دليل على قوة إيماننا، فمعادن الناس لا تظهر على حقيقتها إلا عند المحن والشدائد والابتلاءات: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2 و3).. هكذا إذن :

حتى يعلمَ الله عزّ وجلّ الصادق بحمل أعباء الدعوة والرسالة.. من المدّعي المزيَّف، وبذلك تتمحّص الصفوف، ولا يبقى داخلها إلا عظام النفوس وصلابها، فيغادرها المهازيل من الناس، ويتساقطون، لأن الرسالة العظيمة لا يحملها إلا الأقوياء الأشداء الصابرون المصابرون المؤمنون حق الإيمان.

*     *     *

لنتدبّر في قصة يوسف عليه السلام، فكلها ابتلاءات ومحن وامتحانات وعذابات، منذ تآمر إخوته عليه.. إلى بيعه.. إلى تآمر امرأة العزيز عليه.. إلى سَجنه ظلماً.. إلى.. إلى..، لكنه أبداً لم يستكن أو يستسلم، بل ثبت على دينه، وثبت على دعوته وعلى ما يؤمن به.. إلى أن فرّج الله عنه وأصبح معزَّزاً مكرَّماً في الدنيا قبل الآخرة.. وكل ذلك كان من ثمرات صبره على المحن المتلاحقة التي مرّ بها، وهي محن استغرقت سنواتٍ طوالاً من عمره وشبابه!..

*     *     *

ليكن شعار المؤمن دائماً وأبداً: (.. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) (الأعراف: من الآية126).. ولنتفكر في موقف المنافقين يوم غزوة الأحزاب، حين قالوا ساعة اشتداد المحنة على المسلمين: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب:12).. لكنّ المؤمنين كان لهم موقف آخر، لأنهم مؤمنون بنصر الله، وبأنّ الفجر لا ينبلج إلا من دجى الظلمات، على الرغم من أن القلوب كانت قد بلغت الحناجر من شدة المحنة والابتلاء: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب:10 و11).

لقد كان موقف المؤمنين الذين ابتلاهم الله ليختبرهم.. على النقيض تماماً من موقف المنافقين: (وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) (الأحزاب:22).

لنلاحظ دقة الوصف وروعته: (.. وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)!.. وذلك نتيجة إيمانهم المتين الرائع، على الرغم من البلاء العظيم الذي كان يحيط بهم!.. وهو موقف يقابل موقف المنافقين الذين في قلوبهم مرض: (..مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً)!..

*     *     *

هناك فرقٌ كبير بين أن نتألّم لأننا شرفاء نملك أحاسيسنا ومشاعرنا الإنسانية ومروءتنا الإسلامية.. وبين أن يقضي علينا الألم ويسحقنا!.. إذ يجب ألا يؤثر ظرف مهما كان قاسياً، على معنوياتنا ورباطة جأشنا وتماسكنا، ولنعلم بأنّ الله لن يكون معنا إلا حين نكون معه، وهل نطمح إلى سندٍ أفضل من دعم الله عزّ وجلّ لنا، وهو القادر على كل شيء، القاهر لكل جبارٍ في الأرض؟!..

(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55).

أفلا نرضى بحكم الله، وعَونه، ووَعده؟!..


ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ

كيف يكون موقف المسلم المؤمن من منهج الله سبحانه وتعالى؟!..

إننا في عصرٍ تعدّدت فيه مناهج الحياة ومشروعات الأمم، وبرز فيه الجدل حول منهج الله عزّ وجلّ، الذي نؤمن بأنه الخير المحض، وبأنّ سعادة الإنسان وتحقيق المساواة والعدل بين البشر.. مرتبطٌ به وبتنفيذه تنفيذاً عصرياً يناسب زماننا الذي نعيشه.. تنفيذاً متطوِّراً يتلاءم مع مقتضيات الحياة الجديدة التي يعيشها الناس في هذه الأرض.. تنفيذاً مرتبطاً بالأصول والجذور التي تشدّنا.. ارتباطاً وثيقاً.

إننا لا نُرهَبُ بالفزّاعات الكرتونية، التي يستخدمها بعضُ الذين أغرتهم المناهج البشرية الوضعية، التي تسومُ الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض سوءَ العذاب، متعدّد الألوان والأصناف، فنحن واثقون من المنهج الإسلاميّ الذي نؤمن به ونسعى إلى تحقيقه، مشروعاً عصرياً يستند إلى ركنٍ ربانيٍّ شديد، ومقتنعون بأنّ في ذلك خير الإنسان وسعادته وحرّيته وكرامته وإنسانيته، وبخاصةٍ الإنسان السوريّ الذي يعاني من الاستبداد والفساد والطغيان والعدوان والاحتلال والاضطهاد.

*     *     *

إنّ متانة العلاقة وقوّتها بين المسلم ومنهج الله عزّ وجلّ، هي التي تؤهّله ليكون مسلماً حقيقياً مُنتِجاً فعّالاً يخدم وطنه، ويتفاعل مع مجتمعه مهما تعدّدت شرائح هذا المجتمع.. وهي التي تُرشِّحه كذلك، ليكون لَبِنَةً متينةً في بناء المقاومة التي تهدف إلى تحرير السوريين، من الذلّ والعبودية لنظامٍ مجرمٍ سحق كل معاني الخير والفضيلة والكرامة لأبناء سورية.

*     *     *

نعتقد بشكلٍ حازمٍ جازم، أنّ الموقف المهلهل المتخلخل المتردّد في تبنّيه، من منهج الله سبحانه وتعالى، يحمل بين ثناياه نتيجتَيْن مُدمِّرتَيْن:

أ- سخط الله سبحانه وتعالى، وبالتالي، عدم استحقاق دعمه وتأييده ونصره على الباطل، بل انتظار عقوبته وفق السنن الربّانية الأكيدة في هذه الأرض.

ب- وفشل المنهج الذي ننتمي إليه بأرواحنا وقلوبنا وإيماننا.. قبل أجسادنا، حين لا نُقدّم صورةً واضحةً مُشرِّفةً للعقيدة التي نعتنقها، وللفكرة التي ندعو إليها، ونسعى لتكونَ متوهِّجةً متألِّقةً ملء السمع والبصر.

- لذلك، فأول معالم الالتزام بمشروعنا الذي نعتمده وندعو إليه، هي الطاعة المطلقة لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى الله عليه وسلم: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).. إنّه التسليم المطلق الذي نسلكه دون تردّدٍ ومن غير أيّ حرجٍ نفسيّ.

- وثاني معالم الالتزام بمشروعنا، هي تقديم طاعتنا لربّنا جلّ شأنه، ولرسولنا عليه الصلاة والسلام، في  ظروف الحياة كلها، أكانت صعبةً قاسيةً أم هيّنةً ليّنة، فمشروعنا الإسلاميّ الحضاريّ المنبثق عن منهج الله عزّ وجلّ، هو الأساس الذي يحكم علاقاتنا وسلوكنا وتفاعلنا غير المحدود مع كل محيطٍ نعيش ضمنه، لأنه الركن الشديد الذي نأوي إليه، وندور في مداراته، ونواجه العالم كله بأصول عظمته ومعاني إنسانيّته ورُقِيّه، ونُحدِّد به هُويّتنا الحضارية العربية والإسلامية، وننام ملء جفوننا عن شواردها، مطمئنّين تمام الاطمئنان، مقتنعين تمام الاقتناع.. بنهجنا الذي نسير وفقه ولا نساوم عليه مهما غلت التضحيات. ونحن من منطلق هذا الاقتناع والاطمئنان إليه، لا نُنكِر على الآخرين مشروعاتهم ومناهجهم التي يسيرون عليها لتحقيق هدفٍ واحدٍ فحسب، هو تحرير الإنسان السوريّ من ظلم النظام الحاكم وديكتاتوريّته، لكننا في الوقت نفسه، نرفض أن يزاودَ علينا المزاودون، مهما أجلبوا بِخَيْلِهم ورَجِلِهِم، محاولين –عبثاً- إقصاءنا تحت يافطاتٍ مكشوفةٍ تجاوزها الزمن!.. كما نقبل أن يتنافسَ أصحابُ المشروعات المتعدِّدة تنافساً حضاريّاً شريفاً، فشعبنا شعب الحضارة والقيم والهُويّة الحضارية التي يعتزّ بها منذ فجر الإسلام حتى اليوم.. هو صاحب الحقّ باختيار المشروع اللائق به وبحضارته وبهُويّته.. نقبل هذا التنافس الشريف بين أبناء الوطن الواحد وقواه الوطنية الحيّة، ونرفض رفضاً قاطعاً كلَّ العنعنات التي تصدر بين حينٍ وآخر من هنا وهناك، وكلَّ المحاولات التي تسعى إلى ركوب مركَب الاستبداد نفسه ومزاياه، مهما زعم الزاعمون، وتأوّل المتأوِّلون، وقال القوّالون.. أو قعقعوا وأجلبوا.. ونحن على ثقةٍ تامة، أن شعبنا سيختار المنهج الذي ينسجم مع هويّته وانتمائه الحضاريّ المشرق المتجذِّر.

(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).


رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا

أنت –أيها المسلم المؤمن- عندما تكون مؤمناً حقاً، ولديك الفكر الإيمانيّ الإسلاميّ الصحيح.. فعليكَ أن تتحلّى بأعلى درجات الأخلاق العالية الكريمة، في علاقاتك العملية كلها مع الناس، وإلا.. فابحث عن الخلل في نفسك، لتقويمه!..

ونوضّح ذلك بالمثال الآتي:

يقول إبراهيم عليه السلام -كما جاء في محكم التنـزيل-:

(رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة:5).

أي: لا تجعل فعلي يخالف قولي.. فأكون فتنةً للكافرين.. الذين –عندئذٍ- سيُعرِضون عن الإيمان بك!.. فأكون أنا السبب في ذلك، لأنني لا ألتزم (عملياً)، بما أبشّر به، أو بما أدعو إليه (نظرياً)، ولا أقدِّم الصورة المشرقةَ للفكرة التي أؤمن بها وأسعى للدعوة إليها بين الناس!..

لذلك، فنجاح دعوة الدعاة إلى الله.. يتأسَّس على وعيهم التام بهذه الحقيقة، فأنت قد تمضي السنين الطويلة لدعوة الناس إلى الإسلام، وإلى الالتزام به، لكنّ موقفاً واحداً عملياً غير لائقٍ تقوم به، قد يأتي على كل ما بنيته!.. وبالعكس، قد يكون لموقفٍ واحدٍ أو سلوكٍ واحدٍ عمليٍ حميد، دالٍّ على مطابقة عملك قولَكَ.. قد يكون له أثره العظيم في بناء صرحٍ ضخمٍ قد لا تتوقّعه، وفي زمنٍ قياسيّ!.. إنها الدرجة العالية من الالتزام بما أدعو إليه.

*     *     *

1- لا نجاة يوم الحساب إلا بالتزام الـخُلُق الإسلاميّ الراقي:

فأنت عندما تقوم بالعبادات المعروفة من صلاة وصيامٍ وغيره.. فإنما تقوم بها لنفسك، ولتمتين علاقتك مع ربك.. لكنّ السلوك أو الخُلُق، يتعدّى تأثيره إلى الآخرين من الناس، وحَقّ هؤلاء عليك، وحَقّ دعوتك وإسلامك عليك أيضاً.. هو أن تعامِلَهم بالخُلُق الذي أمرك الله عزّ وجلّ، أن تلتزمَ به:

(قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فلانةٌ تقوم الليلَ، وتصوم النهارَ،.. وتؤذي جيرانها، قال: دَعوها، إنها من أهل النار) (متفق عليه).

2- غايات الإسلام وأهداف المسلم شريفة سامية، فلا بد أن تكونَ وسائلُ الوصول إليها ساميةً شريفة:

فلا يجوز مطلقاً، ولا يمكن.. أن يصلَ المسلمُ إلى هدفه السامي، بوسيلةٍ خسيسةٍ أو وضيعة.. وعماد ذلك كله.. هي: أخلاق المؤمنين!..

3-الله عزّ وجلّ، يأمرنا بخُلُقِ الإسلام، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك:

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (البقرة:177).

أي: إنّ التوسّع بأعمال الخير، والالتزام بأخلاق الإسلام.. هو الأساس والأصل!..

(إنّ من خِياركم.. أحسنَكم أخلاقاً) (متفق عليه).

(ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخُلُق، وإنّ اللهَ يُبغِضُ الفاحشَ البذيّ).. والبذيّ: هو رديء الكلام!.. (الترمذي).

(أكمل المؤمنين إيماناً.. أحسنُهُم خُلُقاً..) (الترمذي).

وفي هذا يقول عبد الله بن المبارك -رحمه الله- في شرح أخلاق المؤمنين أو حُسن الخُلُق:

[هو طلاقةُ الوجه (أي أن يبقى وجهك مع الناس مُتَهَلّلاً بسّاماً)، وبَذْلُ المعروف، وكَفُّ الأذى (قولاً وفعلاً)].


قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ

كان ذو القرنين ملكاً صالحاً عادلاً، سعى إلى تنفيذ حكم الله ومنهجه ودستوره في الأرض، وركنه الأساس هو: (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً)، أي: الاقتصاص من المشرك الظالم بمن في ذلك الفاسد والخائن والمنافق، وإبعادهم عن مواطن المسؤولية والقرار، وعن مواقع التحكم بعباد الله بغير حق، مع الابتعاد عن موالاة الأعداء الطغاة المجرمين الظالمين.. وبالمقابل: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً)، أي: تقريب المؤمن المحسن المجاهد الصالح التقيّ النقيّ الأمين.. المخلص لبلده وأمته، ووضعه في مواقع المسؤولية التي يستحقّها، ليحملَ أمانة الأمة من موقع اتخاذ القرار، وليحكمَ بما أنزل الله عزّ وجلّ، بهدف عمارة الوطن والأرض لصالح الإنسان والشعب والأمة والإنسانية كلها!..

لكن حين تختلّ الموازين، وتسير الأمور بغير ما أمر به الله جلّ وعَلا.. ما الذي يحصل؟!..

يختلّ كل شيء، وتضطرب الأمور، فيصبح المشركون الظالمون الفاسدون الخائنون المجرمون.. هم المقرَّبين الحاكمين المتسلّطين على الناس، فيوضع هؤلاء في المواقع الحسّاسة، بالأساليب الملتوية والانقلابات العسكرية، وبالإجراءات التي تضمن تسلّط الحكام وأذنابهم على رقاب الشعوب، كمهازل الانتخابات والاستفتاءات الصورية المكشوفة الممجوجة، التي يقوم بها الحكام الدكتاتوريون هذه الأيام!.. وبالمقابل يصبح المؤمنون المخلصون الأوفياء الصالحون.. هم المبعَدين المنبوذين المحارَبين المضطَهَدين!.. عندئذٍ، ستتحوّل السلطات إلى أدواتٍ للشرّ والقهر والفساد والظلم والعذاب.. ويختل بذلك نظامُ الأمة والوطن، وتَعمّ الفوضى، وينتشر الشرك والظلم، وتهوي الأمة إلى هاويةٍ ليس لها قرار، ويهوي الوطن إلى قبضة العدوّ وأعوانه وأذنابه، فتفقد الأمة والوطن هويّتهما وحرّيتهما وكرامتهما!.. وخير دليلٍ على ما نقول، هو ما نشهده اليوم بأم أعيننا في وطننا وبعض أوطان العرب والمسلمين.

*     *     *

ثلاثية التمكين: 1- الإيمان بالله، والالتزام بمنهجه القويم، وبالأخلاق الفاضلة. 2- والقوّة المادية والعلمية الممكنة. 3- والتوكّل على الله وحده.

حين يصل ذو القرنين إلى منطقةٍ بين السدّين، يلتقي قوماً متخلّفين حضارياً، يُعانون من عدوان قوم يأجوج ومأجوج، وطغيانهم وفسادهم.. فيطلب هؤلاء القوم المتخلّفون الضعفاء من الملك الصالح القويّ، أن يجدَ لهم الحلَّ الأمثلَ لمنع عدوان المعتدين المفسدين في الأرض (يأجوج ومأجوج):

(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف:94).

ويرفض الملك الصالح أن يتقاضى أي مالٍ، أجراً على بناء السد الذي سيحمي القومَ من المفسدين الطغاة، لأنه صاحب رسالة، وسبق أن أعلن أنه يسير على منهج الله عزّ وجلّ في إحقاق الحق وإبطال الباطل، فهذا واجبه بل فرضٌ من الله عليه، وهي مهمةٌ أوكلها سبحانه وتعالى إليه، لتحقيق العدل بين الناس، وتحريرهم من الخوف والاستعباد والظلم والعبودية لغير الله، وانتزاع حقوقهم، ومعاقبة المعتدين المتجبّرين عليهم، وصَد أذاهم وطغيانهم، والقضاء على فسادهم!..

وهكذا.. فصاحب الرسالة ليس مرتزقاً، وأجره الأعظم على جهاده وعمله الدائب لإحقاق الحق وإبطال الباطل.. يناله من الله عزّ وجلّ وحده، فهو لا يجاهد في سبيل أحدٍ من البشر، بل في سبيل الله وحده لا شريك له، لذلك، فالأجر يُستوفى من الذي كلّفه بمهمة الجهاد والعمل الهادف، وهو الله سبحانه وتعالى:

(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (الكهف:95).

فالتمكين هو من الله عزّ وجلّ أولاً وآخراً، وكذلك الأجر منه أيضاً، وليس من أحدٍ سواه!..

نلاحظ هنا، أنّ الملك الصالح ذا القرنين استخدم وسائل علميةً متقدمةً للتغلب على العدو المفسد، ومن ذلك، أنه استخدم النحاس المذاب مع الحديد، وقد اكتشف الخبراء في عصرنا هذا، أنّ هذه الطريقة تُضاعف من صلابة الحديد ومقاومته إلى درجةٍ كبيرة، فهل نتعلّم ونتّخذ العبرة بل العِبَر؟!..

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (الكهف:96).. [قِطْراً: نُحاساً مُذَاباً].

*     *     *

وبعد أن تغلّب ذو القرنين على العدوّ، لم يُصِبْه الغرور، ولم يشعر بالجبروت، ولم يتكبّر على القوم الذين حماهم وصدّ عنهم ظلم الظالمين وفساد المفسدين وعدوان المعتدين.. بل أرجع ذلك كله إلى فضل الله عزّ وجلّ عليه وعليهم، لأنّ القوّة هي قوّة الله، والعلم هو علم الله، والنصر هو نصر الله وحده لا شريك له، الذي نصرهم على الطغاة المجرمين المعتدين الجبارين الفاسدين، الذين كان يظن الناس أن لا قوّة ستردّهم أو تردعهم وتقف في وجوههم:

(قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف:98).

ما أعظم هذه الأخلاق، وما أروع هذه الرسالة.. فهل نستوعب الدرس!..

*     *     *

لنلاحظ هنا أمراً في غاية الأهمية، هو أنّ أولئك القوم الضعفاء، انتصروا على عدوّهم على الرغم من ضعفهم، وذلك لأسبابٍ مهمةٍ جداً من المفيد أن نستعرضها بإيجاز، أهمها:

1- إنهم سلّموا أمرهم لقيادةٍ حكيمةٍ.. قادرةٍ.. قويةٍ.. واثقةٍ.. تحكم بما أنزل الله!..

2- إنهم امتثلوا إلى شرع الله عزّ وجلّ، ثم توكّلوا عليه وحده، واقتنعوا بأنّ النصر من عنده فحسب!..

3- إنهم فعلوا ما طُلِبَ منهم، وبذلوا ما عليهم من جهد، واتخذوا كل الأسباب الممكنة التي توافرت لهم (على تواضعها)، لردّ العدوان عن ديارهم ووطنهم، ولصدّ الجبّارين في الأرض ودَحْرهم وإسقاطهم!..

4- إنهم لم يستكينوا لعدوّهم مطلقاً، ولم يتخاذلوا، ولم يضيِّعوا الأوقات في مفاوضة هذا العدوّ، ولم يُلدَغوا من جحرٍ مرتين أو أكثر، ولم يتآمروا على أنفسهم وعلى قومهم، ولم يخونوا وطنهم وشعبهم وأمتهم تحت أية ذريعةٍ من الذرائع، بل استمروا في البحث عن تحرير أنفسهم من سطوة عدوّهم الفاسد وتسلّطه عليهم، إلى أن وجدوا الحلَّ الأمثلَ المجدي، من غير أن يقعوا في حبائل عدوٍ آخر، أو يرهنوا أنفسهم وقواهم لجهةٍ أخرى تزعم دعمهم!..

5- إنهم اعترفوا بقوة ربهم العظيمة، وأنها هي الأساس في عملية تحرير أنفسهم، وكذلك هي الأساس في إعادتهم إلى ضعفهم وذلّهم إن تخلّوا عن الالتزام بمنهج الله عزّ وجلّ.. وقد سلّموا بذلك على لسان الملك الصالح ذي القرنين: (.. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً)!..

فاعتبروا يا أولي الأبصار والألباب!..

ألا هل نعتبر؟!.. وهل نتعلّم؟!.. وهل نستوعب سنن الله عزّ وجلّ في أرضه وعباده، تلك السنن الإلهية التي لا تتغيّر، ولا تتبدّل، عبر الأزمان والقرون، ومهما تطاولت السنون؟!..


لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ

نؤكّد أنّ للقدوة الصالحة أثرها العميق في تهذيب النفس البشرية، وذلك على مستويين:

1- مستوى القدوة نفسها (الـمُربّــِـــــي): التي تصبح أكثر تهذيباً، وأعمق كفاءةً في مجال الالتزام بمنهج الإسلام وأخلاقه، لأنها تحرص على تنفيذ ما يدعو إليه، لكي تكونَ قدوةً صالحةً بحق، لغيرها من الناس!..

2- مستوى الإنسان العاديّ (الـمُرَبـَّـــــى): فلا أعظم من تأثير القدوة الصالحة عليه، حين تكون تلك القدوة أهلاً لهذا، فتأثير الأفعال خير ألف مرةٍ من تأثير الأقوال!..

أنت، على سبيل المثال: مهما ألقيتَ على أولادك في بيتك المواعظَ والدروسَ، بأن يبتعدوا عن الغيبة والنميمة مثلاً، فلن يكونَ لمواعظك أي أثرٍ، حين يجدونك تقترف هذا الذنب، ولو مرةً واحدة، بل سيفعلون مثلك، إن لم يسبقوك في اقتراف هذا الذنب الكبير!..

يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:

 (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب:21).

(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) (الممتحنة: من الآية 4).

*     *     *

كيف يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً لنا؟!

1- باستشعار رقابة الله سبحانه وتعالى، والخشية منه.. دليل على حُسنِ الإيمان:

فعندما يعيش المسلم المؤمن بالله، أجواءَ الإيمان به، ويستشعر داخل أعماقه -في كل لحظةٍ من حياته-أنّ الله سبحانه وتعالى يراقبه، ويراقب كل حركاته وسكناته، وأنه عزّ وجلّ يعلم السرّ وما تخفي الصدور.. فسيكون لذلك أثره العميق، في صقل النفس البشرية، وتهذيبها، واختيارها طريقَ أخلاق الإسلام ومَنهجه، مع عباد الله الأقربين والأبعدين!.. وقد رُوِيَ في الأثر [.. أنّ الخليفةَ الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرّ بغلامٍ يرعى الغنم، فقال له: بِعْني واحدة، فقال الغلام: إنها لسيدي، فقال عمر: بعني إياها وخُذ ثمنها وقل لسيدك: أكلها الذئب (أراد الفاروق أن يمتحنَ الغلام)!.. فقال الغلام: فأين اللهَ يا سيدي؟!.. فبكى عمر رضي الله عنه، واشترى الغلام من سيده، وأعتقه قائلاً له: هذه الكلمة أعتقتك في الدنيا، وأسأل الله أن تُعتِقَ رقبتكَ يوم القيامة]!..

2- القرآن الكريم، خير منهجٍ لصقل النفس الإنسانية:

فهو المنهج الربّانيّ الذي يُربّي الأجيالَ ويوجّهُها إلى أحسن الأخلاق، ويُنشئها على الفضيلة والطَـيِّب من الخُلُق، والصلاح من الأعمال والأفعال والالتزام: (كان صلى الله عليه وسلم خُلُقُه القرآن)، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها.. أي: كان صلى الله عليه وسلم مُلتزماً بآداب القرآن وأوامره ونواهيه، بشكلٍ صارمٍ لا حدود له، ولا مثيل له.

3- الخوف من عذاب الله عزّ وجلّ في اليوم الآخِر.. يُهذِّب النفس الإنسانية:

فخوف المؤمن من عذاب الله الذي ينتظر الخاطئين المذنبين، سيكون مـُحرِّضاً له للبقاء على الصراط المستقيم، وذلك في علاقاته كلها مع الناس، على مختلف درجاتهم وأصنافهم!.. وقد كان الرجل إذا ارتكب ذنباً أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تائباً طالباً إقامة الحدّ عليه.. خوفاً من الله عزّ وجلّ، وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى، بعد اقتراف المعصية، وهَلَعاً من عذابه يوم القيامة!.. وكلنا يعرف قصة تلك المرأة التي أقبلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، طالبةً إقامة حدّ الزنا عليها!.. وكذلك حادثة (ماعز) رضي الله عنه، الذي أقام عليه رسول الله الحدَّ بناءً على رغبته:

[.. وبعد أن أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحدّ على (ماعز)، سمع رجلين يقولان: ما أحمق ماعزاً، ستره الله ففضح نفسه!.. فأنّبهما عليه الصلاة والسلام، ثم قال: (.. إنه الآن لمنغمس في أنهار الجنة)!..].

4- استشعار قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته.. يدفعك للالتزام بما يأمرك به:

فلا تغترّ بقوّتك أو سلطانك مهما كان، ولا بنفوذك مهما بلغ، وتذكّر أنّ الله أقدر منك قوّةً وبطشاً وسلطاناً ونفوذاً:

(رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم صحابياً، يضرب عبداً خادماً عنده، فقال له: اتّقِ مَن هو أقدرُ عليكَ منكَ عليه، فقال الرجل: هو حُرٌ لوجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: والله لو لم تقلها لـَمَسَّتكَ النار)!.. (رواه مسلم).

وسوم: العدد 723