ليلة المولد ....

ليلة المولد ياسِرَّ الليالي والجمالِ .. وربيعاً فتنَ الأنفُسَ بالسحرِ الحلالِ

ونحن نعيش هذه الأيام شهر المولد في(ربيع الأول) نتذكر هنا شاعرنا وأديبنا الصوفي الراحل المقيم( محمد المهدي المجذوب ) سـليل المجاذيب في( الدامر) والذين إشتهروا بتأسيس خلاوي القرآن في السودان منذ مئات السنين . المجذوب الذي أبدع في تناول السيرة النبوية الطاهرة بشعرِ عربي فصيح وبأسلوب رقيقِ جذاب ، يعرج فيه لمولد خاتم الأنبياء والمرسلين ،المصطفي المطهر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، كما يتعرض لوصف إحتفالات المسلمين في السودان بذكري المولد النبوي الشريف في هذه القصيدة الخالدة التي تضاف إلي السجل الخالد للأعمال الشعرية المميزة في بلادنا والتي قام بتلحينها وأدائها الفنان عبد الكريم الكابلي قبل سنوات عديدة بتلك الإيقاعات المتعددة والنقلات اللحنية الهادئة التي رافقت إخراج تلك القصيدة الممتلئة أصلاً بالجمال الشعري المطرب.

ولحسن حظي فإنني لازلت أحتفظ في مكتبتي المتواضعة( كتباً وتسجيلات) والتي ظلت ترافقني منذ عام1975 حين كنت أعمل في إغترابي الأول والطويل بمدينة جده بالسعودية ولمدة إثني عشر عاماً لم أبرحها إلاّ في الإجازات، ظللت أحتفظ من ضمن تلك المكتبة وإلي اليوم بشريط فيديو يحتوي علي جانب من مهرجان الثقافة الأول الذي إنعقد بالخرطوم عام 1977 بالمسرح القومي بأ مدرمان ، وبه تسجيل لأوبريت المولد الذي قام بتوزيع موسيقاه وإخراجه مجموعة من طلبة معهد الموسيقي وقتذاك ، وقد قام بأدائه إبن ودمدني الأستاذ الموسيقار (علي إبراهيم علي) الذي كان منتدباً من التربية بمدني لدراسة الموسيقي بالمعهد حينذاك ، وقد إشتهر الأستاذ علي ابراهيم علي ومنذ عقود طويلة بأداء أعمال وأغنيات الفنان الضخم عبدالكريم الكابلي بودمدني منذ حقبة الستينيات بالقرن المنصرم ، بمثلما كان الفنان الراحل المقيم حسن الباشا-طيب الله ثراه- يؤدي بودمدني أعمال الفنان الطروب صلاح إبن البادية وبطريقة مذهلة حقاً . وقد قام الأستاذ الموسيقار علي إبراهيم علي في ذلك المهرجان بأداء أنشودة المولد وكانت تصحبه فرقة موسيقية كاملة من طلبة المعهد من كبار الفنانين ، ومجموعات من الدراويش الذين كانوا يرتدون أشكالاً متنوعة من الملابس والعراريق وأنواع من الجبب المزركشة بكل الألوان التراثية لأهل الصوفة بالسودان ، والتي ظل الدراويش يلبسونها في حلقات المدائح عند الصوفية في ليالي ذكرهم ، وقد إشتهروا بإرتدائها في صيوانات الطرق الصوفية خلال إحتفالات المولد النبوي في كل مدن السودان ، فضلاً علي إيقاعات النوبات والطار التي كان يعج بها المسرح القومي بأم درمان في تلك الليلة وفي ذلك الزمن الطيب الذي مضي سريعاً.

كانت كلمات تلك القصيدة وجمال ذلك اللحن التطريبي الذي وضعه لها الأستاذ الكابلي منذ العام 193م ، تعكس صورة حية لكيفية إحتفال أهل السودان بتلك المناسبة في شهر المولد في ربيعِ الأول من كل عام هجري، وهي تعكس لوحاتاً حية من ذلك التراث الخالد ، فضلاً علي إحتواء النص الشعري علي مفردات تحتوي علي قدر كبير من الحسن والجمال الوصفي ، بل والإعجاب والإنبهار بالقدرة الإلهية في الظواهر التي صاحبت لحظة مولد المصطفي صلي الله عليه وسلم وما قبلها ومابعدها ، ولا يحتاج ذلك العمل منا إلي شرح وافِ، أو تعليق فلسفي ، ولنتركه ليعبر عن نفسه ، ولنترك القاريء العزيز يعيش جماليات ذلك العمل الفريد المميز، كي لا أفسد عليه خاصية التذوق والإعجاب ، فالسودانيون مشهودُ لهم بخاصية الفهم الراقي لجماليات اللغة ، خاصة ونحن الآن نعيش موسم تلك الإحتفالات الخالدة والتي يحتفظ كل منا بذكرياته الجميله حولها .

 

ويقول نص القصيدة:-

صلي ياربي علي المدثرِ

وتجاوز عن ذنوبي وأغفرِ

وأعنـِّي يا إلهي بمثابِ أكبرِ

فزماني ولِعُ بالمنكرِ

أيكون الخيرُ في الشرِ إنطوي

والقوي خرجت من ذرةِ

هي حبلي بالعدم

أتـُراها تكفلُ الحربَ

وتنجو بالسـَّـلـَم

ويكون الضربُ كالقوةِ

حقاً و إهتماما

سوف ترعاهُ الأُمم

وتعود الأرضُ حُبـاً وإبتسـاما

****

ربي سبحانك مختاراً قديـرا

أنت هيأتَ القدر

ثم أدخلتَ نذيـراً للبشر

أيـة ً منك ونـوراً

هو عينُ اللهِ لولا ضؤهُ

لم نـرَ العالمَ في شتي الصور

جعل الموتَ رجاءً وبقاءً

وتراثـاً منه لايفني الثمر

صلي ياربي علي خيرِ البشر

الذي أسرج في ليلِ سـراء

قمراً أزهـرَ من بدر السماء

يقرأُ الناسَ علي أضوائهِ

حكمة الخلقِ وأسرار البقـاء

من إلهِ قد هدي بالقلمِ

علـَّمَ الإنسانَ مالم يعلمِ

****

ليلة المولدِ

يا سر الليالي والجمالِ

وربيعاً فتن الأنفسَ

بالسحرِ الحلالِ

موطن المسلمِ في ظلك

مشحونُ الخيالِ

طاف بالصاري الذي

أثمرَ عنقودَ السـنا

ومضي عن فتنةِ الحسنِ الحجابا

ومضي يخرجه ُ زيـاً فزيـاً

وزهـا ميـدانِ عبد المنعـمِ

ذلك المحسنُ حيّـاهُ الغمـام

في جموعِ تلتقي في كلِّ عام

والخيـام

قد تبرّجن وأعلنَّ القيام

 

******

وهنا حلقةُ شيخِ يرجحِـنُّ

يضرب النوبة ضرباً

فتئـنُّ وتـرنُّ

ثم ترفضُّ هديـراً أو تـُجـَنُّ

وحوا ليـها طبولُ

صارخاتِ في الغـُبارِ

حولها الحلقة

ماجت في مـدارِ

نفـذت ملأ الليالي

تحت راياتِ طوالِ

كسـفينِ ذي سـواري

في عبابِ كالجبالِ

ليلة المولد

يا سر الليالي والجمال

 

******

وتدانت أنفسِ القومِ

عناقـاً وإتـفاقـا

وتساقـوا نشـوةً

فاقـت مـذاقـا

ومكان الأرجلِ الولهي طيـورُ

بجلابيـبَ تـدورُ... وتـدورُ

*****

ياربي صلاه صلاة

علي النبي صلاه صلاه

والمـقدّم يتقدم

يرفعِ الصوتَ علِيـا

وتـقدم وتـقدم

يقرعِ الطبـلَ هنيـّا

وينادي مُنشِـدُ شيخاً

هو التمساح

يحمي عرشهُ المطمور

من موجِ الدميـره

ندبـوه للملمـّات الخطـيره

شاعرُ أوحي له .. شـيخ ُ الطريـقه

زاهـِدُ.. قد جعلَ الزُهذَ غـِنيً

وله من رقع الجُبـّةِ

ألوانِ أنيـقه

والعصـا

في غربةِ الدنيـا الرقيقه

وله طاقيـةُ ذاتَ قرونِ

نهضـت

فوق جبيـنٍ واسـعِ

رقـّـقـهُ ضوءُ اليـقيـنِ

وفتي ًفي حلقةِ الطـار

تثـنـّي وتأنـّي

وبيـمناهُ عصاهُ تـتحنـّي

لعِبـاً حرّكهُ المـدّاحُ غـَنـَّي

راجعِ الخـطوِ بطـارِ

رجـّع الشـوق َ وحنـَّـا

ليلة المولد

يا سـِر الليالي والجمـالِ

وربيعاً فتن الأنفسَ

بالسحرِ الحلالِ

رحم الله الراحل المقيم أستاذنا الشاعر المتميز محمد المهدي المجذوب رحمة واسعة بقدر ما ترك من أشعار خالدة في سجل الآداب والفنون في بلادنا ، وأمدّ الله في عمر أستاذنا الفنان الأديب الدكتور عبدالكريم الكابلي الذي وهبه الله تعالي خاصية البحث في تراثنا لنعيش معه حلاوة الإبداع السوداني المتجدد دوما ، ونحي كواكب الموسيقيين الذين نفذوا هذا العمل الخالد خلال تلك الحقبة من مسيرة الأغنية السودانية ، فقد كانت لهم بصمات واضحة في تطور الموسيقي السودانية.

وصلي الله وسلم علي الحبيب المصطفي أشرف وأطهر خلق الله وعلي آله صحبه وسلم .

سليمان عبد الله حمد ـ ابو فاطمة سابقا...

وسوم: العدد 750