خواطر من الكون المجاور الخاطرة 26

خواطر من الكون المجاور

الخاطرة 26.. عيد اﻷم (عاطفة اﻷمومة)

ز. سانا

قبل أن أبدأ بكتابة أي كلمة عن عيد اﻷم سأذكر لكم هذه الحكاية :

في إحدى القرى التي تقع على الساحل عاشت أم مع إبنها الوحيد ، والتي تعذبت كثيرا في رعايته و تربيته بعد وفاة أبيه ، فكان هذا اﻹبن روحها وسعادتها وكل شيء بالنسبة لها ، و مرت السنوات وكبر اﻹبن وأصبح شابا يستطيع اﻹعتماد على نفسه، ولكن شاءت الظروف أن يتعرف هذا الشاب على مجموعة شباب منحرفين من القرية المجاورة حيث نجحوا في إقناعه بأن يترك القرية وحياتها البسيطة الساذجة ويهاجر معهم إلى المدينة ليعملوا هناك ويربحوا أموالا كثيرة تسمح لهم بالعيش حياة مرفهة والحصول على كل ما تشتهيه أنفسهم من ملابس و نساء و بارات و سيارات .. ، عندما سمع اﻹبن عن كل مغريات حياة المدينة، أعجب بها كثيرا، فذهب إلى أمه وطلب منها مبلغا من المال ليستطيع أن يسافر إلى المدينة و يعمل هناك فيعيش حياة سعيدة، ولكن الأم حاولت أن تقنعه بالعدول عن رأيه ﻷن حياة المدينة قاسية وليست كما يظنها...ورغم محاولاتها الحثيثة في إقناعه ظل اﻹبن مصمما على رأيه ، فاحتد النقاش بينهما وانقلب إلى مشاجرة كلامية حادة ، وعندما حل الليل ورأى أمه نائمة ذهب وأخذ جميع المال الذي كان بحوزتها حتى يضمن تكاليف العيش في المدينة ريثما يجد عملا ليجمع مالا ويرسله ﻷمه تعويضا عن ذاك الذي سرقه منها . ... في المدينة لم تكن الحياة كما كان يحلم بها فبعد أشهر قليلة رأى نفسه بدون مال وبدون عمل وبدون طعام وبدون أصدقاء ..فقد تركه أصدقاءه ..وذهب كل واحد منهم يبحث عن مصلحته ولم يعد أي منهم يهتم ﻷحد غير نفسه. عندها تذكر كلام أمه وعلم كم كانت محقة في رأيها عن المدينة وعن أصدقائه فأراد ان يعود إليها ولكن...كيف يعود والخجل يحفر ملامح وجهه ..فهو الذي كان قد سرق منها كل ما كانت تملكه من مال ليستطيع أن يضمن حياته في المدينة ..ومرت اﻷيام وحالته بدأت تسوء أكثر فأكثر وورغبته بالعودة إلى أمه بدأت تزداد يوما بعد يوم . ولكن خجله من نفسه لما فعله كان يمنعه دوما من العودة....وذات يوم خطرت على باله فكرة أن يرسل لها رسالة يخبرها فيها عن حالته و أنه سيمر بالباخرة من أمام القرية فإذا كانت قد سامحته وتريد منه أن يعود إليها أن تعلق ملاءة بيضاء على الشرفة ليراها وليعلم بأنها قد سامحته. ... وهكذا ركب اﻹبن الباخرة وراح ينتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة التي سيمر بها أمام قريته، وهوً طول الطريق يصلي ويدعي لعل أمه تسامحه وتضع الملاءة البيضاء على الشرفة ...وعندما وصل إلى المكان الذي يجب أن يرى منه قريته لم يرى قريته ولكنه رأى منطقة بيضاء كبيرة فاستغرب اﻷمر ولكن عندما إقترب من المكان أكثر رأى أن هذه المنطقة هي فعلا قريته وأن جميع بيوت القرية كان لونها أبيض لأن كل بيوت القرية كانت تحمل على شرفاتها ونوافذها ملاءات بيضاء. .عندها بكى وعلم بأن آلاف الملاءات البيضاء المعلقة في كل مكان ليست إلا تعبيرا له من أهل القرية عن شدة لهفة أمه وشوقها لتراه ثانية. .. هكذا هي اﻷم من أجل أبنائها يصل فيها التسامح إلى مستوى اﻷنبياء. 

جميع دول العالم في الفترة اﻷخيرة قد خصصت يوما من كل عام يكون بمثابة يوم تكريم اﻷم وسمي ب " عيد اﻷم " . وتحتفل بعض الدول بهذا العيد في الثاني من شهر شباط ، والبعض في 8 آذار وآخرون في شهر نيسان وبعضهم في آيار ، ولكني أعتقد تماما أن الدول العربية قد إختارت أفضل يوم من أيام العام لتعبر بشكل صادق عن المعنى الحقيقي لـ ( عيد اﻷم ) فظهور عاطفة اﻷمومة ﻷول مرة في هذا الكون كان تماما بمثابة بدء فصل الربيع حيث تدب الحياة في الكائنات الحية وترتدي اﻷرض أجمل ثيابها ، فيوم 21 آذار الذي خصصته الدول العربية لتحتفل به بعيد اﻷم هو أيضا أول يوم من فصل الربيع. ومن يبحث في التطور الروحي لهذا العالم سيجد أن ظهور عاطفة اﻷمومة ﻷول مرة في تطور الحياة كان فعلا بداية فصل الربيع لجميع هذه التطورات. 

تكريم اﻷم يعود إلى آلاف السنين ولكن ليس من الصدفة أن أول إحتفال بعيد اﻷم بمعناه الرسمي الذي نعرفه اﻵن قد حدث ﻷول مرة في يوم 12 آيار ( مايو) في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة اﻷمريكية ، فإسم هذه الولاية (فيرجينا ) مشتق من كلمة عذراء وأن سبب إقامة هذا اﻹحتفال كان دعوة إلى تقوية السلام بين العائلات المتحاربة في تلك الفترة. فكما يقال عن هذه الحادثة ،أن إمرأة تدعى " أنا جارفيس " والتي ولدت بعد عام واحد من إنتهاء الحرب اﻷهلية، ومما سمعته من أمها عن الحرب وعن نشوء الكره والعداوة بين العائلات الذي سببته هذه الحروب حيث كان رأي أمها أنه لا يمكن حل مشكلة هذه العداوة والكره بين اﻷفراد إلا عن طريق الأمهات ﻷنهن فقط من يذقن من اﻷلم الكثير حين يخسرن أحد أبنائهن ،لذلك كانت تتمنى أن يخصص يوم يتم فيه تكريم اﻷم واﻹحتفال بها وأن هذا العيد سينهي ذلك الصراع والكره ويتحقق السلام والمحبة بين تلك العائلات، وهكذا قررت إبنتها " آنا " أن تحقق رغبة أمها وبعد سعي طويل لهذه المهمة قوبل طلبها بالموافقة من المسؤول عن ولاية فرجينا بإصدار أوامر بإقامة إحتفال لعيد اﻷم في 12 مايو من كل عام. من يبحث في هذه الحادثة سيرى أن اﻷحداث الكبيرة لا تخرج عن القانون الكوني (العفة - السلام ).

من يدرس سلوك الكائنات الحية يجد أن رعاية الصغار والدفاع عنهم موجود في جميع أنواع الحيوانات ، وتتفاوت درجته من نوع ﻷخر فكلما كان النوع أكثر تطورا زادت درجة اﻹهتمام والرعاية عند اﻷنثى لصغارها . ولكن هذه العناية تنتهي عندما ينمو الصغير ويصبح قادرا على اﻹعتماد على نفسه. أما في اﻹنسان فإننا نرى أن تلك العناية تبقى مستمرة ، وقلقها عليهم لا ينقطع مهما بلغوا من العمر حتى وفاتها. فعلاقة أم اﻹنسان بأولادها لا يمكن إدراجها في صفة (غريزة) كما هي عند الحيوانات ولكن في صفة (عاطفة اﻷمومة).

في إنثى الحيوان (غريزة اﻷمومة ) تظهر فيها نتيجة تغييرات فيزيولوجية في أجسامها عقب الحمل ، وهي تفرض عليها سلوكا معينا تجاه صغارها ، مثلها مثل اﻵلة المبرمجة باسلوب يحقق عملا معينا ومحسوبا، وأنه فور زوال تلك التغييرات الفيزيولوجية في إنثى الحيوان تعود إلى حالتها الطبيعية. ومن هنا نلاحظ إنقطاع العلاقة بينها وبين صغيرها ولا تعود تستشعر أن هذا الحيوان أو ذاك كان إبنها.

أما (عاطفة اﻷمومة ) لدى البشر فتختلف إختلافا كليا عن (غريزة اﻷمومة) الحيوانية، فاﻷولى تبدأ بالظهور عند المرأة قبل سنوات طويلة من الحمل ، ففي عهد الطفولة تنصرف الطفلة إلى العناية بدميتها وتحرص عليها وتهدهدها مندفعة بحاجة روحية، وهذه الحاجة الروحية ليست إلا ردة فعل روحية حدثت نتيجة تراكم صور عديدة من الماضي. فالطفلة حين تحنو على دميتها وتعتني بها ، تسعى عبر ذلك إلى اﻹحتفاظ بالتصرفات اﻹيجابية التي قابلها بها اﻵخرون منذ أبصرت النور ، وكذلك تسعى إلى تعديل التصرفات السلبية منها وتحسينها. فهي تدأب طوال فترة نموها وترعرعها على عملية تحليل وتركيب للصور المتعاقبة المتراكمة في ذاكرتها من الماضي، إلى أن تصل إلى اللحظة التي ستغدو فيها أما، وقد اكتسبت خير وسيلة تمكنها من العناية بوليدها.

غريزة اﻷمومة في الحيونات حاجة جسدية تهدف إلى الحفاظ على النوع، فأنثى الحيوان تنظر إلى صغيرها الذي خرج منها وكأنه جزء من جسدها لذلك فيه تعتني به وتدافع عنه مثل أعتنائها بقدمها أو زيلها أو أي جزء آخر من جسدها ،بينما عاطفة اﻷمومة في اﻹنسان هي حاجة روحية تهدف إلى الوصول إلى الكمال، واﻷم هنا لا تنظر إلى صغيرها وكأنه جزء من جسدها ولكن جزء من الروح العالمية، لذلك إهتمامها به وقلقها عليه مستمر إلى اﻷبد. لذلك كان ظهور عاطفة اﻷمومة في تطور الحياة له أثر كبير في تغيير نوعية الحياة وتطورها، فبدافع من عاطفة اﻷمومة المتطلعة إلى تحقيق سعادة اﻷبناء، ولتحقيق ذلك علىالوجه اﻷكمل، وجبت مشاركة اﻷب في رعاية اﻷبناء، وهذا ما دفع بالمرأة إلى التعلق الروحي بالرجل المناسب لهذا الدور. ولذلك تحولت (الغريزة الجنسية) إلى (عاطفة حب) ومن هذه العاطفة ظهرت (عاطفة اﻷبوة) التي أتاحت تشكيل أول مجموعة متماسكة متعاضدة هي العائلة ومن ثم ظهور (العاطفة اﻷخوية) لتنتهي إلى ظهور الجماعة وهي العائلة الكبيرة التي تجمع أفرادها صلة الدم. فتحول الغرائز إلى عواطف أدى إلى ظهور اﻷهداف السامية في تأمين الحاجات الروحية والجسدية التي أدت بدورها إلى ظهور (الشعب ) المنتمي إلى عرق واحد ولغة واحدة. ومع ظهور الديانات التي وحدت عدة شعوب متباينة اﻷعراق واللغات ولها دين واحد أدى إلى ظهور ( اﻷمة) .

ومع إكتمال الديانات، نجد في بداية ولادة عصر النهضة أن الفيلسوف (إبن رشد ) قد دعى إلى ( وحدة الروح العالمية ) ، هذه الفكرة ستتطور مع الزمن لتؤدي إلى ظهور تيارات روحية جديدة منها (إنسانية النهضة humanism) وأيضا (الليبرلية ). ...... تطالب بحقوق اﻹنسان بغض النظر عن عرقه أو لغته أو إنتمائه الديني ، فحق اﻹنسان في حياة سعيدة فوق جميع اﻹنتماءات ، فجميع المعارف والديانات ظهرت لمساعدة اﻹنسان في الوصول إلى الكمال،وجميع تلك اﻹنتماءات. عائلة ، عشيرة،شعب، أمة ، هي أقل بكثير من أن تستطيع ان تفرق بين إنسان وإنسان ﻷن اﻹنسان هو كائن يحمل في روحه جزء من روح الله. وروح الله هي فوق الدين والعرق واللغة. 

جميع هذه التطورات اﻹجتماعية تحمل في داخلها مبدأ عاطفة اﻷمومة ،فمنها إنتقل مبدأ هذه العاطفة من المرأة إلى الرجل لتجعله هو أن يشعر أيضا أن اﻹنسانية عائلة واحدة روحها متحدة مع روح الله العالمية. هذا الشرح الطويل لعاطفة الأمومة لخصه الرسول صلى الله عليه وسلم بسطر بسيط " الجنة تحت أقدام اﻷمهات "

إلى جميع أمهات العالم الوالدات والروحيات " كل عام وانتن بألف خير"