الخاطرة 24 .. راحيل الرمز

خواطر من الكون المجاور

ز. سانا

من يقرأ مؤلفاتي يجد أن إسم "راحيل" يأخذ مكانا هاما في أبحاثي حيث يلعب دور كبير في تفسير تاريخ اﻹنسانية وتطورها الروحي، وليس من الصدفة أن إسم راحيل هو إسم أم يوسف عليه الصلاة والسلام آخر اﻷنبياء المذكورين في سفر التكوين ، حيث كان لإمه راحيل دور كبير في تكوين شخصيتة حيث أنه إستطاع أن يتحول من عبد ليصبح حاكما على مصر بأكملها ، مكافأة له من الله ﻷنه إتبع أهم قوانين الخلق ( العفة - السلام ) حيث رفض مجامعة إمرأة سيده (العفة ) ولم ينتقم من إخوته رغم أنهم كانوا قد باعوه ليصبح عبدا في مصر ( السلام ). لذلك نجد أن الحكمة اﻹلهية في تصميم القرآن الكريم وضعت اﻵية التي تذكر ( نحن نقص عليك أحسن القصص. ... ) في سورة يوسف. ﻷن قصص العفة والسلام هي صميم فلسفة الخلق، والتي كانت راحيل جزء من هذه الفلسفة.

إسم راحيل له أهميته الكبيرة في الكتب المقدسة للعهد القديم (اليهودية ) والعهد الحديث (المسيحية ) ، والقرآن الكريم أيضا أعطاه أهمية كبيرة ولكنه ذكره بشكله الرمزي لهذا وللأسف علماء الدين اﻹسلامي لم يفهموا تلك الرموز لذلك فلم يأخذ إسم راحيل في أبحاثهم أي إهتمام فظل إسم ( راحيل ) عند المسلمين إسم بلا معنى رغم أن تفسير الكثير من اﻵيات القرآنية يعتمد فهم دور راحيل في تأثيرها على التطور الروحي للإنسانية. فإسم راحيل كمعناه العبري الحرفي يعني (خروف - غنمة - شاة ) والمقصود هنا ليس الشاة نفسها ولكن عينها ، أو بمعنى أوضح جمال تلك العين كما كان معروفا عند العرب أيضا في تعبيرهم عن جمال العين (عيون المها ) والمقصود به بشكل أدق ليس العين نفسها ولكن نوعية الرؤية فيها الرؤية الروحية حيث في هذه الكائنات العاشبة ( المسالمة) نجد أن كل عين ترى صورة مختلفة عن العين اﻷخرى ومن ثم يتم توحيد الصورتين للحصول على رؤية شاملة. (لمزيد من الشرح عن أنواع العيون يرجى مشاهدة الفيديو ).

وعدا عن ذلك فاسم راحيل أيضا يسمع بالعربية وكأنه (راح - إيل ) فكلمة ( راح- راحة ) وتعني الكف أو اليد ،أما ( إيل ) فتعني ( الله ) في العبرية والبابلية ، أي معنى إسم راحيل هو (يد الله). لذلك نجد أن الحكمة اﻹلهية قد أعطت إسم يعقوب للرجل الذي سيتزوجها لتنجب منه إبنها النبي يوسف ، وإسم يعقوب في العبرية يأتي من كلمة (العقب) أي عظمة القدم ، والله عز وجل كما هو مذكور في سفر التكوين قد أعطاه إسما آخر وهو ( إسرائيل ) ومعناه في العبرية (صراع - الله ) فإذا جمعنا هذين ااﻹسمين وفقا ﻷسباب التسمية التي نتج عنها كل إسم سنجد أن رمز إسم النبي يعقوب كما أراده الله له هو ( قدم الله ) . فالنبي يوسف عليه الصلاة والسلام هو عند الله إبن إمه راحيل ( يد الله ) وإبن أبيه يعقوب ( قدم الله )، هذه هي قاعدة فهم فلسفة الديانات السماوية الثلاث والتي من خلالها يمكن توحيد علوم العصر الحالي المادية والروحية ، وبدون فهم هذه النقطة ستبقى هذه الديانات منفصلة عن العلوم اﻷخرى وسيتحول منطق اﻹيمان إلى منطق الدين لدين وليس لحل مشاكل اﻹنسان كما يحدث اليوم تماما.

إستخراج معنى هذين اﻹسمين (راحيل - يعقوب ) بهذه الطريقة ليكون معنى اﻹسمين ( يد الله - قدم الله ) ليس له علاقة بالذكاء لذلك بقي علماء الديانات الثلاث آلاف السنين بدون أن يستطيعوا الوصول إلى تفسيرها بهذا المعنى. والسبب هو أنه لم يأتي وقتها إلا من فترة قصيرة. ليعلم الناس أننا نعيش اليوم في مرحلة آخر التكوين الروحي للإنسانية وفي هذه المرحلة المرأة والتي تمثل ( الرؤية الروحية ) هي التي تمثل يد الله ( راحيل ) والرجل والذي يمثل ( الرؤية المادية ) هو ( قدم الله ) . تصميم اللغة العربية يؤكد على هذه ناحية فكلمة ( رجل ) لها نفس اﻷحرف التي تشكل تلك الكلمة التي تعبر عن القدم والساق في اﻹنسان (رجل).

كما ذكرت الذكاء لا علاقة له بتطوير روح اﻹنسان ﻷن هذا التطور يحدث ضمن مخطط وضعه الله عز وجل ، وأحد أنواع طرق التدخل الإلهي ﻹحداث هذا التطور هو عملية إستخراج معنى إسم راحيل ويعقوب والتي حدثت عن طريق اﻷحداث التي ظهرت في حياتي والتي إتحادها مع بعضها البعض نتج عنه تلك الفكرة التي شرحناها أعلاه بشكل مختصر، والتي أذكر بعضها الآن ،ليعلم القارئ أن وراء كل شيء جميل ورائع يحدث من حولنا هو روح الله ،وأن بدونه وباﻹبتعاد عنه يحدث كل شيء فظيع ومخيف ومقرف حولنا تماما كما هو الحال في عصرنا الحاضر.

كان في حينا فتاة تدعى راحيل تكبرني بثمان أو تسع سنوات وكانت من أعز صديقات أختي الكبيرة ، و شاءت اﻷقدار أن تحمل هذه الفتاة على عاتقها وهي في مطلع شبابها بعد وفاة أبيها مهمة تأمين تكاليف المعيشة لأخواتها الصغار ، ورغم صغر حجم جسمها كانت قوية اﻹرادة تعمل ليلا ونهارا وكأنها تتحدى الظروف التي وضعتها في تلك الحالة لتثبت للقدر نفسه أنها أقوى من الرجال وأنها تستطيع أن تأخذ دور أبيها الذي فارق الحياة. ورغم إرهاقها الواضح في ملامح وجهها كانت اﻹبتسامة لا تفارقها ومن ينظر في عينيها الخضراوين يشعر في الحال أن في داخل هذا الجسم الصغير المرهق روح سعيدة ، سعيدة كما وكأنها ترى والدها وهو ينظر إليها من السماء ويقول لها ( أحسنتٍ يا ابنتي لأنك إستطعت القيام بدوري في رعاية أخوتك).

ولما كبر إخوتها وبدأت أختها اﻷصغر منها تعمل هي أيضا ، وخف الحمل عن عاتقها قليلا. أحد المعارف أخبرها بأنه سيأتي لها بشاب يبحث عن فتاة من أجل الزواج، ليراها فلعله يكون نصيبها وتتزوجه. وكان الخبر مفرحا للجميع فالشاب كما أخبرها عنه عدا عن شكله ظريفا كان يعمل مدرسا وذو أخلاق حميدة فهو في أيام السبت واﻷحد كان يساهم في تعليم وتربية اﻷطفال مجانا في الكنيسة، وفرح الجميع لهذا الخبر وراحوا يدعوا لها أن يعجبها هذا الشاب ويعجب بها هو أيضا ويتم الزواج على خير ما يرام، لتعيش معه سعيدة ينسيها كل تعبها الذي عانته من أجل أخواتها. وراح الجميع ينتظر بفارغ الصبر ذلك اليوم الذي سيتم فيه التعارف بينهما . وكان اﻹتفاق أن يتم اﻹجتماع أولا في بيتنا ثم سيخرجوا جميعا إلى إحدى الكافتيريات مع أخي الكبير وأختي ليجلسوا هناك ويتحدثوا ويتم التعارف بينهما بشكل أفضل.

لا أزال أذكر حتى اﻵن ذلك اليوم بأدق تفاصيله ، فعندما وصلت سيارة صديق العائلة إلى الحي ومعه الشاب رأته هي من شرفتها بدون ان يراها هو وأعجبت به كثيرا، كان شكله وألوان ثيابه التي يرتديها فعلا مسر للنظر، وعندما أتت مع أختها إلى بيتنا بعد دقائق من وصوله كانت فرحة جدا ولكنها أيضا قلقة جدا ، فسألت أختي التي فتحت لها الباب ( كيف أبدو ) فحاولت أختي بأصابعها تصليح تسريحة شعرها قليلا قائلة لها (إطمأني أنت على أحسن حال ) ، كان وجهها مصفرا من شدة القلق ، وهذا ما جعلني أتدخل وأطلب منهن عدم الدخول إلى غرفة الضيوف فورا ، وريثما يمضي بعض الوقت حتى تستريح من صعود السلالم.. فدخلوا غرفة أخرى وكانت أختي وأختها يحاولن اﻹعتناء بها لتظهر في أجمل صورة لها أمامه ، وكانت هي المسكينة تحاول تهدئة نفسها وكأنها ستمر من إمتحان سيقرر مصيرها بأكمله . وبعد دقائق عندما خف عنها القلق قليلا وعادت بشرتها إلى لونه الطبيعي دخلت مع بقية الفتيات في غرفة الضيوف، وبعد دقائق أخرى قليلة خرجوا جميعا إلى الكافتيريا.

بعد حوالي ساعتين عادوا دون أن يعلم أحد عن حقيقة رأي الشاب بالفتاة، ولكن كما بدا من ملامح وجه الشاب وكذلك وجوه الجميع أن كل شيء سار على أحسن ما يرام ، فكما سمعت أن الشاب نفسه كان طوال الوقت سعيدا يشارك في النقاش ويمزح ويبدو على تصرفاته وكأن الفتاة قد أعجبته ، وعلى هذا اﻷمل راحت راحيل والجميع ينتظرون من الشاب أن يأتي في يوم قريب ليطلب يدها بشكل رسمي و ليعلن الخطوبة عليها.....ولكن مرت اﻷيام ومرت اﻷسابيع دون أن يسمع أحد شيئا عنه. وراحت تلك الفرحة المرسومة على وجه راحيل تختفي يوما بعد يوم لتحل مكانها لمحة تعبر عن إحساس آخر لم يكن موجودا على وجهها من قبل أن تعرفه ، إحساس جديد يظهر بوضوح في عينيها الخضراوين له معنى ربما خيبة أمل أو ربما نوع من الشعور بالشكوى من ظلم القدر أو ربما....لست أدري.. شيء ما عندما تراه يجعلك تتمنى لو كان في يدك قوة تستطيع بها مساعدتها لتبعد عنها تلك اللمحة الحزينة.

قصة هذه الفتاة أثرت في نفسي كثيرا، وجعلتني دوما أشعر بنوع من الظلم قد حدث في حقها ، فبدلا من أن يكافئها القدر على تضحيتها بسعادتها من أجل إخوتها ، رأيت الشاب والذي أتى من طرف الكنيسة هو نفسه يجرح كبريائها ، هذه الحادثة ساعدتني بأن أفهم أن بيوت الله المساجد والكنائس في عصرنا الحاضر لم يعد فيها نور الله فإسم الله فيها يذكر دون أي إحساس روحي لذلك نجد نور الله لا يصل إلى أعماق نفوس الناس ليجعلهم يستطيعون رؤية ما يحدث في أعماق نفوس اﻵخرين ، إيمان ببغائي لا ينفع ولا يضر كما كان يحدث في الديانات الوثنية ، تماما كما حدث مع ذلك الشاب فهو يعمل في الكنيسة ورغم ذلك لم يرى شيئا من جمال روح هذه الفتاة التي ضحت بجميع ملذات الحياة من أجل إخوتها وبدلا من أن يكافئها على تضحيتها ، ذهب وتركها وكأنه يقول لها هذه اﻷخلاق السامية لا تنفعني بشيء.

الشيء الغريب في قصة هذه الفتاة أنه في ذلك الوقت كلما كنت أفكر وأبحث في عناصر هذه القصة كان إسم هذه الفتاة (راحيل) في فكري غائبا نهائيا عن القصة، رغم أن القصة بأكملها لم تكن إلا إشارة لهذا اﻹسم ، لذلك وجب أن تحدث حادثة أخرى تجعل هذا اﻹسم يتحول إلى مصباح مضيء في فكري ينير طريق البحث الذي أسير عليه.

ومرت على الحادثة ثلاث سنوات.

وقبل أن أنتهي من الخدمة العسكرية بعدة أسابيع، شيء ما بدأ يشغل فكري ولم أكن أجد له أي تفسير مقنع، فقد شاءت اﻷقدار حتى ذلك الوقت أن تجعلني أتعرف على فتيات من جميع اﻷقليات القومية والدينية الموجودة في المنطقة ، وتعرفي على تلك الفتيات كان نعمة فمن خلال المناقشات معهن كنت قد سمعت من كل فتاة حسب منطق تفكيرها عن رأيها بقوميتها أو بطائفتها الدينية التي تنتمي إليها ،شيئ واحد كان ينقص هذه المناقشات لتشمل جميع الطوائف الدينية في المنطقة وهي الديانة اليهودية. فنسبة اليهود في دمشق تعتبر أعلى من جميع مدن سوريا، وهذا ما دفعني إلى التساؤل بإستمرار لماذا القدر منع عني التعرف على فتاة يهودية ﻷسمع منها شيئا عن دينها كما تراه هي وليس كما يتحدث المسلمون أو المسيحيون عن دينها ، فكل إنسان يؤمن بدينه ﻷنه يرى فيه نور الله ولكن شخص من دين آخر لن يؤمن بذلك الدين ﻷنه لا يرى تماما ما يراه الشخص اﻷول. وهذا ما كنت أبحث عنه بإستمرار أن أسمع من كل فتاة محاسن طائفتها الدينية التي تجعلها تفتخر بإنتمائها لها . ولكن عدم ظهور فتاة يهودية أمامي ﻷتحدث معها كما حصل مع بقية الفتيات جعلني أتساءل عن اﻷسباب، فحسب رأيي ما حصل لم يكن صدفة ولكن له معنى ، ورغم محاولاتي في إيجاد تفسير مقنع لم أصل إلى جواب يرضي فؤادي ﻷكف عن تلك التساؤلات.

في آخر إجازة لي في الخدمة العسكرية ،كنت أنتظر في ساحة شركة باصات الكرنك ﻷسافر إلى أهلي لتمضية أيام اﻹجازة معهم ، شيء ما لفت إنتباهي في تلك الدقائق ، كان في ساحة اﻹنتظار فتاة جميلة عمرها 19 أو 20 عام تقريبا، وما لفت إنتباهي إليها لم يكن جمالها ولكن شيء آخر كان بالنسبة لي أهم بكثير من الجمال الخارجي ،فقد كان درجة إنتباهها وعنايتها بإخوتها الصغار عالية جدا جعلتها لا تشعر بوجودي نهائيا ، فعيناها كانت بشكل متواصل على أختها الصغيرة التي لا تتجاوز الخمس سنوات من العمر وأيضا على أخيها وإبن عمها اللذان كانا بنفس السن، ثمانية سنوات تقريبا، هذا الشعور بالمسؤولية فيها على إخوتها وكذلك عدم شعورها بوجودي سمح لي أن أراقب تصرفاتها دون أن يشعر أحد بأنني في تلك اللحظات كنت أدرس سلوكها وعلاقتها مع أختها وأخيها وإبن عمها وأهلها أيضا الموجودين على مقربة منها . فما كنت أراه في تلك اللحظات بخصوص العلاقة بينهم كأخوة وكعائلة كان فعلا شيء يبهج النفس.

بعد قليل فتح معاون السائق أبواب مستودع الحقائب وبدأ يضع حقائب الركاب فذهبت ﻷعطيه حقيبتي أيضا ولكن كان ذلك الطرف من المستودع قد إمتلأ تقريبا ومع الحقائب الموجودة بقرب المعاون ستملأه بلا شك فأخبرني المعاون بأنه سيضع حقيبتي في الطرف اﻵخر ريثما ينتهي من الحقائب القريبة منه. ولكي لا أنتظره حملت حقيبتي ووضعتها بنفسي في الفتحة الثانية ، في تلك اللحظة كانت الفتاة قد وصلت بحقيبتها وسمعت ما أخبرني به معاون السائق. فأرادت أن تفعل ما فعلته أنا لتضع الحقيبة هي بنفسها ، وﻷن الحقيبة كانت ثقيلة قليلا على فتاة لذلك طلبت منها أن تدعني أضع لها حقيبتها بنفسي، في تلك الحظة إلتقت عيني بعينيها، ورغم أني أزحت بصري عنها مباشرة ﻷضع حقيبتها في المستودع ولكن شيء ما رأيته في وجهها أثر في مشاعري....تعبير روحي يحمل داخله صفة تجعلك تشعر باﻷمان. . ربما البراءة. ..ربما الوفاء. ..ربما اﻹخلاص. ...لست أدري.

لا أدري إذا كانت قد أحست هي بما شعرت به نحوها ولكن أثناء وضعي لحقيبتها في المستودع شعرت بأنها لم ترفع عينها عني وكأنها في تلك اللحظات قد أصابها تماما ما كان يصيب بقية الفتيات عندما كن يرين وجهي ، لذلك عندما وضعت حقيبتها لم ألتفت إليها ولكن إلى أختها الصغيرة التي كانت تنظر إلي وقد أحست هي الاخرى بوجود شيء غريب في ملامح وجهي ، فأحببت أن أمزح معها فقلت لها مشيرا إلى حقيبتها النسائية الصغيرة المعلقة على كتفها (هل تريدنني أن أضع لك هذه الحقيبة أيضا ؟ فأجابتني بردة فعل طفولية وبعيون مفتوحة وكأنها قد صدقت ما أطلبته منها: " لا هذه ستبقى معي. .أنظر كل النساء لديهن مثلها " فمسحت بيدي على رأسها بحنان وأنا اضحك على ردة فعلها الطفولية قائلا لها: "حسنا ، كما تشائين يا آنستي الصغيرة " وبدون أن أنظر نهائيا إلى أختها الكبيرة ، تركتهما وعدت إلى مكاني السابق.

عندها لاحظت أنها بدأت تنظر إلي بطرف عينيها بنظرات خاطفة لكي لا يشعر أحد بها ،فعرفت أنها قد أعجبت بي وأنها من اﻵن فصاعدا ستحاول أن تظهر شعورها هذا لي ، ولكن بالنسبة لي فالظروف هذه المرة كانت مختلفة عن المرات السابقة فهي اﻵن مع أهلها وعلى طريق سفر. لذلك حتى لا تتطور اﻷمور في هذا اﻹتجاه اكثر ، بمجرد أني رأيت أحد الركاب يطلب من المعاون أن يفتح باب الباص ليجلس في مكانه ، أسرعت أنا أيضا وصعدت الباص ﻷبتعد عن نظرات الفتاة فربما بهذه الطريقة تنسى وجودي وينتهي هذا الموضوع دون أي تطور. كان مقعد جلوسي يقع في منتصف الباص وعلى الطرف الأيسر منه، وبجانبي بجوار النافذة كان يجلس شاب بمثل عمري تقريبا وبدا من هيئته بأنه إنسان مثقف ومحترم فمن بداية جلوسه كان قد وضع حقيبته السامسونايت على فخذيه وأخرج منها كتابا وراح يقرأ فيه. وبعد لحظات من صعودي بدا الركاب بالصعود ليجلس كل راكب في مكانه. ورأيت أخ الفتاة وإبن عمها يصعدان فعلمت أنها ستصعد هي أيضا من خلفهما ، فأزحت بصري إلى جهة أخرى لكي لا تلتقي عيني بعينيها مرة أخرى فلعلها تشعر بأنني لم أنتبه أنها تود نشوء علاقة بيني وبينها، وتمنيت في داخلي أن يكون مكان جلوسها في المقاعد الخلفية لكي لا تلتقي عيني بعينيها مرة أخرى طوال ساعات السفر فتنساني وينتهي اﻷمر. ولكن بمجرد صعودها إلى الباص من طريقة نظرتها الخاطفة لي علم الشاب الجالس بقربي بأنها معجبة بي، وفورا إختارت لنفسها وﻷختها المقعد الذي على يميني مباشرة وطلبت من أخيها وإبن عمها أن يجلسا في المقعد الذي أمامها مباشرة، وجلست هي بقرب النافذة وتركت أختها صغيرة تجلس بيني وبينها، ولكنها سرعان ما أدركت أن المكان الذي أختارته لم يكن مناسبا ، فهي ستستطيع رؤيتي كلما إلتفتت إلى أختها الصغيرة ولكن أنا حتى أستطيع أن أراها يجب علي أن أدير وجهي إلى اليمين بزاوية 90 درجة وكانت هي متأكدة تماما بأنني لن أفعل هذه الحركة ﻷن الجميع سيشعر بأنني أنظر إليها وهذا يعني بأن مكانها غير مناسب ولن يسمح لي برؤيتها لأشعر بإعجابها لي ، لذلك طلبت من إخيها وإبن عمها بتبديل أماكنهم معها ،فجلست هي وأختها في اﻷمام وهما في الخلف، بهذا المكان يمكن لها أن تراني بسهولة عندما ستنظر إلى إختها الصغيرة وكذلك إلى أخيها وإبن عمها في الخلف ،وبنفس الوقت يمكن لي رؤيتها عند إدارة رأسي بزاوية صغيرة دون أن يشعر أحد من الخلف بأنني أنظر إليها.

رأى الشاب الذي يجلس بقربي ما تفعله الفتاة وعلم تماما قصدها من هذه التغييرات في المقاعد فنظر إلي ليرى معالم ذلك الوجه الذي سحر الفتاة وجعلها تفعل كل هذه التخطيطات من أجله. وبعد لحظات سألني بصوت منخفض لكي لا يسمعه شخص آخر : "هل تسمح لي أن أقول لك شيئأ ؟ فأجبته : " طبعا ، بكل سرور " فأخبرني بأن معظم ركاب الباص هم أقارب ما عدا ركاب المقعد الذي خلفنا وركاب المقاعد التي أمامنا في نفس الصف. وأخبرني أيضا أنهم ذاهبون لحضور حفلة زفاف إحدى قريباتهم في حلب، ثم رأيته يسألني وكأنه يريد أن ينبهني عنهم بشيء هام جدا : هل تعلم ما دينهم ؟ فأجبته وكأن اﻷمر لا يهمني كثيرا: مسيحية ؟ فقال لي : لا ... يهود ...

لا أدري ماذا حصل فجأة وأنا أسمع تلك الكلمة اﻷخيرة فالتفت فجأة إلى الفتاة فرأيتها تنظر إلي بطريقة وكأنها قد سمعت حديثنا وأنها تريد أن ترى ردة فعلي عندما عرفت أنها يهودية، ورغم أني لم أنظر إليها سوى أجزاء من الثانية كل الذي إستطعت أن أراه في وجهها تعبير آخر كنت قد رأيته من قبل في وجه جارتنا راحيل وشعرت وكأن روحها تقول لي في تلك اللحظات ..( لا ترفضني ﻷني يهودية).

الشاب أخبرني بما يعرفه ثم عاد إلى قراءة صفحات كتابه دون أن يعلم بأنه بهذه المعلومات التي ذكرها لي قد قلب كياني رأسا على عقب ، في لحظة كنت فيها على وشك أن أغلق عيناي ﻷجعل نفسي بأنني نائم لتنسى الفتاة أمري وتقطع أملها في التعرف علي. ولكن اﻵن فجأة لم أفهم ماذا أصابني، أحاسيس مختلفة بدأت تهيج في روحي وأفكار متفرقة بدأت تشغل فكري. وشعرت وكأن روحي تحدثني وكأنها تقول لي بأن القدر قد حقق لي إمنيتي في التعرف على فتاة يهودية ﻷحصل على معلومات شاملة لكل الطوائف الدينية الموجودة في المنطقة وهاهي اﻵن بقربي وتفعل كل ما بوسعها لأتعرف عليها، ولكن لماذا ظهرت هذه الفتاة اليهودية في مثل هذه الظروف التي تختلف نهائيا عن الظروف العادية. كيف سأتكلم معها وأمها من خلفنا وأباها من أمامنا وحولنا معظم الركاب أقربائها، ما معنى كل هذه اﻹختلافات في الظروف وما علاقتها بكونها يهودية.

وبينما كنت في حيرتي أبحث عن تفسير يجعلني أفهم ما يحصل معي في تلك اللحظات سمعت والدها الجالس مع عمها في المقعد اﻷول في الصفوف اﻷمامية يحادث أختها الصغيرة التي كانت تنتقل من مقعد إلى آخر قائلا لها : " راحيل إجلسي مع اختك، الباص سينطلق اﻵن" فذهبت راحيل الصغيرة وجلست قرب أختها....إسم إختها الصغيرة راحيل. ..سماعي لهذا اﻹسم جعلني أشعر بنوع من محبة واﻹحترام التي كنت أكنه لراحيل جارتنا، وتحول بصري من راحيل الصغيرة إلى أختها التي شعرت مباشرة أني أنظر إليها فاحمر وجهها خجلا وبحركة لا شعورية داعبت رأس أختها الصغيرة مبتسمة لها إبتسامة ممزوجة بالخجل والفرح بنفس الوقت فشعرت وكأن هذه اﻹبتسامة لم تكن موجهة ﻹختها ولكن لي أوربما لنا نحن اﻹثنين أو ربما كانت تعبيرا لما يحدث داخلها عندما شعرت بأنني أنا أيضا أشعر بشيء جميل نحوها . .....وصعد السائق وشغل المحرك وإنطلق الباص.

في تلك اللحظات شعرت وكأني أخرج من نفسي، شيء ما في داخلي يقول لي تابع معها دور العاشق، ويحاول أن يضع كل تلك الحوافز التي ستجبرني على السير في هذا الطريق.....فهذه الفتاة ستذهب لحضور زفاف قريبتها وهي عندما ستراها وهي ترتدي فستان العرس اﻷبيض وبجانبها عريسها ستنظر إليهما وتشعر كما تشعر أي فتاة في مثل تلك اللحظات، ستتصور نفسها هي أيضا في ذلك المكان مرتدية مثل هذا الفستان وبجانبها عريسها ، وتصورت نفسي إذا لم أتجاوب معها اﻵن ، ماذا سيكون شعورها وهي تتخيل نفسها ترتدي هذا الفستان وبقربها لا أحد ، مكان العريس فارغ ﻷن فتى أحلامها رفضها، وأتت في فكري صورا لوجه جارتنا راحيل وهي حزينة مجروحة الفؤاد بسبب رفض ذلك الشاب لها ، ما أقسى أن تشعر المرأة بأنها أقل من المستوى الذي يطلبه فتى أحلامها ، وأنها غير كاملة ،هذا الشعور قد يمر بسهولة على الرجل ولكن على المرأة يجعل في روحها شرخ عميق. فهدف تطور الكون بأكمله هو وصول المرأة إلى الكمال.

وبينما كنت سارح في أعماق أفكاري شعرت بإختها صغيرة التي إلتفتت إلى الخلف لتتكلم مع أخيها ،بأنها تنظر إلي فنظرت إليها فإبتسمت لي فرددت عليها بإبتسامة ورأت أختها إبتسامتي فنظرت إلى أختها الصغيرة وإرتسمت على وجهها ثانية تلك اﻹبتسامة الممزوجة بالخجل، وإحمر وجهها.....وهنا إنفضح سرها في تلك اللحظة وعلم الجميع في الخلف بأن شيء ما يحدث بين هذه الفتاة وهذا العسكري الذي يحمل رتبة الملازم.

عندما وصلت إلى تلك اللحظة التي أقنعت نفسي بأنه يجب علي أن أتابع معها دور العاشق لكي لا تصل إلى ذلك الشعور الأليم الشعور بالنقص عندما ترى قريبتها بالفستان اﻷبيض، ولتراني بقربها عندما تتصور نفسها أنها ترتدي هذا الفستان ، ولتمر أيام إقامتها في حلب على أسعد حال ، رأيت اﻷمور تأتي بشكل معاكس ليخربط الوضع تماما، فرأيت أمها تأتي وتنظر إليها نظرة وكأنها تعلم ما يحدث بيننا، وطلبت منها أن تأخذ أغراضها وتجلس معها في المقاعد الخلفية ، ولكن الفتاة لم تصدق أنها ستترك مكانها اﻵن وقد تأكدت من أنني أيضا أحمل لها في قلبي ما تحمله هي لي. فقالت لأمها بصوت وكأنها تتوسل لها أن تتركها في مكانها : "ولكن يا أمي هنا أنا أنتبه على الصغار" ، ولكن طلبت أمها منها ثانية بنبرة صارمة لا تسمح ﻷي نقاش : "أرجوك أفعلي ما أقوله لك " وتوسلت لها أيضا إبنتها الصغيرة لتترك إختها معهم ،ولكن اﻷم كانت مصرة على الرفض. فعلمت الفتاة أن أمرها قد إنفضح لأمها وقريباتها في الخلف ، فراحت حزينة مكسورة الخاطر تجمع حاجاتها لتنتقل إلى المقاعد الخلفية.

في تلك اللحظة رفعت عيني ﻷرى وجه أمها ، ويبدو أنها هي أيضا أرادت أن ترى وجه ذلك الملازم الذي سلب قلب إبنتها بهذه السهولة ، فالتقت عيني بعينها ولكن مباشرة أخفضت ببصري ورحت أنظر أمامي. بينما هي إستمرت في النظر إلى وجهي ونسيت نفسها هناك، وعندما جمعت الفتاة أغراضها ونهضت، نظرت إلى أمها التي كانت تنظر إلي فتأكدت تماما أن سبب هذا التغيير في مكان الجلوس هو معرفة أمها لما تشعر هي نحوي. فقالت لها أنها جاهزة لتأتي معها ،عندها إستيقظت اﻷم من غفلتها ، لا أدري ماذا رأت أمها في وجهي ، ولكن ما رأته جعلها تنظر إلى وجه إبنتها وكأنها إكتشفت بأن ما تفعله إبنتها لم يكن شيئا منافي للشرف واﻷخلاق الحميدة ولكن كان شيء طبيعي ، شيء متأكدة منه بأنه سيضمن سعادة إبنتها ومن لا يريد الخير والسعادة ﻹبنته. فقالت لها بصوت حنون : "معك حق يا إبنتي الطريق طويل وإخوتك بحاجة لك للإعتناء بهم، إجلسي مكانك" ،وفرحت راحيل الصغيرة وصاحت ( هييي) وضمت أختها الكبيرة ، بينما هي لم تصدق ما سمعته من أمها فنظرت إليها وكأنها تريد أن تشكرها من أعماق قلبها وعندما تحركت أمها لتعود إلى مكانها ،نظرت الفتاة إلي والفرح يغمر صدرها وكأنها تقول لي: "هل رأيت ،أمي باركت لنا هذا اﻹرتباط بيننا " . ثم جلست وضمت أختها الصغيرة في حضنها بقوة وكأنها تتصورني أنا أضمها إلي صدري بنفس الشدة بعد موافقة أمها. ورأيت الشاب بقربي ينظر إلي يتفحص ثانية وجهي ليرى ذلك الشيء الذي إستطاع أن يجبر أم يهودية أن تقبل وتشجع إبنتها لتقيم علاقة مع ضابط مهنته محاربة الجيش اليهودي. ورأيته يقول لي : " أنت محظوظ فعلا، أتمنى لك كل خير " ويبتسم بتعجب ويعود إلى كتابه ثانية. ويبدو أنها سمعت ما قالها الشاب لي فرأيتها دون أن تنظر إلي تداعب رأس إختها الصغيرة وتبتسم فرحة لما سمعته.

بعد لحظات نهض المعاون وفي يده صندوق كراميل وراح يوزعها على ركاب الباص ، وعندما وصل إلينا أخذت الفتاة حبة كراميل وأعطتها لراحيل الصغيرة والتي مباشرة مدت يدها لتريها لأخيها وإبن عمها قائلة بدلع: " أنظروا أنا لدي إثنتين" وبدون أن تشعر كنت وضعت كرميلتي في كف يدها قائلا لها : " اﻵن لديك ثلاثة " فرحت بها وسألتني مستغربة : " ولكن أنت"؟! فأجبتها : " أنا ! أنا أستطيع أن آخذ واحدة غيرها" وإلتفتت إلى الخلف وطلبت من المعاون حبة كراميل أخرى فقال لي : الصندوق بأكمله تحت أمرك ياسيادة الملازم " فشكرته وأخذت واحدة ووضعتها في يد راحيل الصغيرة قائلا لها " خذي هذه أيضا ولكن لا تكوني طماعة إعطيها لمن ليس لديه كرميلا" فإلتفت إلى إختها وأعطتها كرميلتي اﻷخيرة قائلة لها: "خذي هذه لك" ولكن الفتاة خجلت أن تأخذها وطلبت منها ان تحتفظ بها ، ولكن راحيل قالت لها مباشرة : " لا إنها لك ، سيقول عني طماعة إذا لم تأخذيها " فإبتسمت وأخذتها منها ولم تأكلها ولكنها وضعتها في جيبها وكأنها تخبئ تذكار ثمين أخذته من أعز أحبابها.

عندما عاد المعاون بعد توزيعه للكراميل أوقفته ﻷطلب منه شيئا فقال لي مازحا : " تريد كرميلا أخرى " فضحك الموجودين من حولنا فقلت له لا، وأخبرته بأن شريط الكاسيت الذي وضعه قبل لحظات الوجه الثاني منه يبدأ بأغنية جميلة لذلك تمنيت منه بأن لا يغير الشريط ولكن أن يقلبه ﻷسمع تلك الأغنية. فقال لي بصوت عال سمعه جميع الركاب : " تكرم عيونك يا ملازمنا الجميل ". عندما سمعت راحيل الصغيرة كلمة ( جميل ) عرفت عندها أن هذا الشيء الغريب الذي تراه في وجهي إسمه جميل ، فراحت تتمعن في وجهي جيدا ثم إلتفتت إلى إختها وقالت لها: "إنظري إلى وجه هذا الشاب وجهه جميل أليس كذلك" الشاب الجالس بقربي فقع من الضحك ، بينما الفتاة إحمر وجهها و إبتسمت بخجل من تصرف أختها الطفولي فطلبت منها أن تجلس في مكانها ولكن الصغيرة أصرت قائلة لها " إنظري إليه وجهه جميل" فأخذتها في حضنها والفرحة الممزوجة بالخجل تملأ وجهها لأن أختها الصغيرة أيضا شعرت بمودة لهذا الشاب الذي ربما قد يكون شريك عمرها .

بعد دقائق قليلة سمع الجميع صوت المعاون وهو يتأفف منزعجا ويلتفت إلى الركاب ويقول : "يا جماعة يوجد حاجز تفتيش أمامنا رجاء إخرجوا هوياتكم الشخصية لكي لا نتأخر في التفتيش" وفعلا في تلك الفترة كان يوجد حواجز تفتيش عن اﻹخوان المسلمين المطلوبين بسبب قيامهم بأعمال إرهابية. وبعد لحظات توقف الباص وفتح الباب ونزل المعاون ليتكلم مع رجال الحاجز فنهضت من مكاني وذهبت إلى الباب فرأيت أحد العساكر يصعد فسألته عن المسؤول عليهم فأشار لي عن أحدهم فذهبت إليه وأخبرته بأن معظم ركاب الباص هم يهود وذاهبون لحضور حفلة زفاف في حلب لذلك طلبت منه عدم تشديد التفتيش عليهم لكي لا يظنوا أن التفتيش كان بسببهم فيحدث سوء فهم ويظنوا بأن سبب التفتيش هو تفرقة عنصرية ويتحول موضوع ما حدث موضوع نقاشاتهم مع أقاربهم في حلب، فإقتنع المسؤول مباشرة بوجهة نظري فصاح إلى العسكري الذي صعد الباص لتفتيش الركاب وطلب منه التوقف والنزول من الباص حالا ، ثم أمر المعاون الذي فتح أبواب مستودع الحقائب وراح يخرج الحقائب حقيبة حقيبة ، أن يعيد الحقائب الى مكانها ويركب الباص وينطلق.

عدت وجلست في مكاني وبعد ثوان صعد المعاون وعندما إنطلق الباص إلتفت المعاون إلي وقال: " الله يحفظك يا سيادة الملازم ريحتني من تنزيل الحقائب. ..الله يريح قلبك " ثم إلتفت إلى والد الفتاة الجالس في المقعد اﻷمامي وقال له : " إبن حلال هذا الضابط. ... لولاه لبقينا على الحاجز أكثر من 20 دقيقة تفتيش" ، ورأيت والد الفتاة يلتفت إلي ويحيني قائلا : " ألف شكر يا سيادة الملازم " فأجبته : " العفو " ، فنظرت هي إلى والدها ثم إلتفتت إلي فرحة بأنني إستطعت أن أجلب إعجاب والدها أيضا ، فإبتسمت لي إبتسامة رقيقة وكأنها تشكرني لا على ما فعلته مع رجال الحاجز ولكن ﻷنني إستطعت أن أجعل والدها يأخذ عني صورة جيدة.

بعد دقائق إنتهى شريط الكاسيت فوضع المعاون كاسيت آخر ولكنه بمجرد أن شغله تذكر ما طلبته منه فأوقفه مباشرة وإلتفت إلي قائلا: " أنا آسف. .. الحاجز أنساني كل شيء " ورفع الكاسيت اﻷول ﻷراه وبحركه بمعنى أنه سيضعه في المسجلة كما طلبت منه. في تلك اللحظة كانت راحيل الصغيرة تتكلم مع أختها فطلبت منها أن تصمت قليلا لتسمع تلك اﻷغنية التي أردت أن أسمعها ﻷنها جميلة كما أخبرت المعاون ولكن في الحقيقة كنت أقدمها لها لتعبر عما نشعر به .

في البداية بدأت أوتار الغيتار تعزف بمفردها موسيقى هادئة رومانسية تجعل سامعها وكأنها تأخذه معها لتحلق به في أعالي السماء ،ويبدو أنها قد أثرت تماما في روح الفتاة فإلتفتت إلي وودون أن أنظر إليها شعرت بعينيها وهي تنظر إلي وكأنها فهمت قصدي من سماع هذه اﻷغنية وإبتسمت وعندما أخفضت بصرها عني نظرت إليها ورأيت بسمتها لا تزال تملأ وجهها ورأيتها تضم أختها الصغيرة إلى صدرها كما لو أنني أنا الذي يضمها هي إلى صدره وتركت روحها ، أو روحنا نحن اﻹثنين نحلق في سماء عالم آخر على صوت المطرب إحسان صادق الذي راح يغني بصوت هادئ وكأنه يهمس كلمات اﻷغنية همسا : يا نور حبك قد لوع الفؤاد .........وقد وهبتك الحب والوداد......... ألا تذكري ليال الصفاء..........وعهد عاهدناه على الوفاء...... الليل والأنسام. .... والشاطئ النادي والشوق واﻷنغام والموطن الهاني....... ياطيبها أيام. .......احلى من الصفاء. ....وتنشد اﻷنغام. .......على الوفاء

ومرت الساعات وكأنها دقائق ودقائق كأنها ثوان وفجأة أستيقظت من ذلك العالم الذي رحلت إليه على صوت معاون الباص وهو يقول للركاب: " الحمدلله على السلامة ياجماعة. ..وصلنا حلب" ورأيت نفسي أتساءل ماذا أفعل اﻵن... لا شيء .. .لا شيء نهائيا كان فكري خالي من أي فكرة وكأن عقلي نفسه قد بقي في ذلك العالم الذي رحلت إليه قبل قليل ، فعدت أنا منه ولكن عقلي بقي هناك لا يريد العودة. ورأيت الركاب ينهضون ويستعدون للنزول ، إلتفت والدها إلى زوجته وأولاده وأشار إليهم بالنزول ، وراح الركاب ينزلون بالتسلسل أما النساء اللواتي كن جالسات في المقاعد الخلفية وهن ينزلن كن يلتفتن إلي ويبتسمن لي وكأنهن جميعهن كن يعلمن بما يحدث وكن سعيدات بعلاقتي مع قريبتهن، ورغم هذا التشجيع منهن بقيت جالسا في مكاني لا أعرف ماذا أفعل، لم أستطع النزول من الباص دون أن أكون قد وجدت فكرة مقنعة أتصرف على أساسها. فليس من المعقول بعد كل ما حدث أن آخذ حقيبتي وأرحل وكأنه لم يحدث بيننا شيئا. ولكن ماذا أفعل فهي محاطة بشكل دائم من أهلها وأقربائها ، وشعرت للمرة الثانية بأنني عاجز ، عاجز أن أفكر بإيجاد شيء يرضي الجميع. فبقيت جالسا مكاني حتى نزل جميع الركاب ، عندها نهضت ببطئ ونزلت.

كانت بإنتظارهم قافلة من عدة سيارات، ورأيتها مع والدها تحمل حقائبهم وتذهب إلى آخر سيارة لتضع الحقيبة هناك. ودخل أبوها ومعه إبنه في المقعد اﻷمامي وطلب من زوجته وإبنتيه أن يجلسن في المقعد الخلفي ، فذهبت هي إلى الطرف اﻵخر ووقفت بجانب الباب وراحت تنظر إلي ، أما أمها ففتحت الباب وطلبت من راحيل الصغيرة أن تدخل وكانت على وشك أن تدخل هي أيضا لتجلس داخل السيارة ولكن عندما رأت إبنتها تنظر إلي إمتنعت من الدخول وظلت واقفة لكي يظن الناس أن إبنتها تنظر إليها وليس إلى ذلك الملازم الموجود على بعد عدة أمتار خلفها، شعرت بما تفعله اﻷم من أجل إبنتها ومن أجلي، أخذت حقيبتي ونظرت إليها ،كانت المسافة بيننا أكثر من 15 مترا ، ورأيت نفسي أسير بإتجاهها ببطئ هكذا دون أي خطة معينة ،ففي تلك اللحظات كنت أشعر بشيء لم أشعر به من قبل طوال حياتي. ..مقيد من جميع اﻹتجاهات كل فكرة تأتي إلى رأسي كانت الظروف المحيطة في تلك اللحظات تجعلها غير صالحة للتطبيق.

وسمعت والدها يطلب منهما الصعود ﻷن السيارة اﻷولى في القافلة قد إنطلقت. فدخلت اﻷم السيارة ، أما هي فظلت واقفة تنظر إلي وكأنها تعلم تماما بإنها إذا دخلت السيارة هذا يعني أنه قد إنتهى كل شيء بيننا، وهذا ما كانت ترفض حدوثه نهائيا ،أما اﻷم المسكينة فجلست وراحت تنظر أمامها ولكن في الحقيقة كانت تفكر في إبنتها ،لا تعلم هي اﻷخرى كيف يمكنها أن تساعد إبنتها ، وشغل السائق المحرك ، فصاح أبوها بها لتدخل، فنظرت إلي وهي لا تصدق ما يحدث ثم دخلت السيارة، في تلك اللحظة كنت قد وصلت على مقربة 5 أمتار تقريبا ، فالتفتت إلى النافذة الخلفية وراحت تنظر وأنا أقترب منها أكثر فأكثر ،عينها مثبتة في عيني وكأنها تتوسل لي أن أفعل شيئا ، فأنا الرجل ، والرجل هو الذي يجب أن يقوم بشيء. ولكن ماذا أفعل وكل شيء من حولي يمنعني من القيام بأي خطوة.

عندما وصلت إلى بعد ثلاثة أمتار منها إنطلقت السيارة ، ورأيت نفسي أسير خلفها بخطوات سريعة وكأني ألحق بها وعيني في عينيها وكأنهما ترفضان اﻹنفصال رغم المسافة بيننا التي كانت تتزايد بالتدريج ، وفجأة أنار ضوء اشارة المرور اﻷحمر فتوقفت القافلة، ورأيت نفسي أقترب منها ثانية أكثر فأكثر ،ورأيتها تمسح عينيها فعلمت أنها كانت تبكي ، وعندما إقتربت منها إبتسمت لها فمسحت دموعها ثانية وإبتسمت وعندما وصلت على مقربة 3 أمتار فتحت الإشارة الخضراء وإنطلقت السيارة وراحت تبتعد فرفعت لها يدي وكأني أودعها فمسحت دموعها ورفعت لي يدها هي أيضا. .. ماذا فهمت من حركة يدي لا أعلم. .كل الذي أعلمه هو أنني تابعت السير وراءها رغم أن طريقها كان في جهة معاكسة لطريقي....وتابعت طريقي خلفها وبصري يلاحقها حتى إختفت تماما عن عيني، عندها توقفت. كان علي أن أوقف تاكسي لينقلني إلى بيتي ولكني كنت في حالة نفسية غريبة، ستجعل أي شخص يراني يعتقد بأني روحي كانت في أعماقي تبكي.

حملت نفسي وإتجهت إلى الحديقة العامة القريبة من مكان تواجدي ﻷجلس هناك قليلا ريثما تهدأ روحي ،لكي لا يراني أهلي بهذه الحالة ويصيبهم القلق ويظنوا بأن أشياء أخرى قد حصلت معي.

في الحديقة جلست أفكر في حالتي وحالة ماحدث وصورة وجه تلك الفتاة وهي تمسح دموعها وتحاول أن تبتسم لي تملأ عيني لتمنعني من رؤية أي شيء في الحديقة أمامي ، وفي تلك اللحظات شعرت وﻷول مرة كم هي حياتي في الحقيقة عذاب بعذاب ، فالجميع كان يقول عني بأنني إنسان محظوظ. .وهكذا كنت أعتقد ولكن اﻵن إكتشفت بأن حظي هذا له وجه محزن.. .فما فائدة إنسان يملك صوتا جميل إذا كانت الظروف تمنعه من أن ينشد أو يغني. ........ ما فائدة كائن يملك أجنحة ولكن الظروف تمنعه من الطيران.....ما فائدة إنسان يملك أموالا طائلة لا يستطيع صرفها ليشتري كل ماتحتاجه نفسه. ...ما فائدة أن يملك اﻹنسان وجها جميلا ولا يستطيع أن يقيم علاقة مع تلك الفتاة التي تحبه ويحبها.....كل شيء كنت محظوظا به لم يكن لنفسي ولكن كان من أجل اﻵخرين.

وبينما كنت جالسا اشتكي من حالتي بدأ شيء في داخلي وكأنه يحاول أن يوضح لي حقيقة ما يحصل ، ورأيت نفسي أتساءل مع نفسي هل من المعقول ان ينعم علي الله بجميع هذه المميزات من أجل سعادة فتاة واحدة..... هل من المعقول أن تكون تلك التحليلات واﻷبحاث التي تشغل فكري ليل نهار كانت جميعها ﻹرضاء فتاة واحدة. .... هل من المعقول أن أفكر بهذا الطريقة اﻷنانية. .... ماذا أصابني. ...ما الذي جعلني أشطب من حياتي مأساة الطفلة سعاد التي أجبرتها الظروف على اﻹنتحار....تلك الطفلة التي كانت تذهب إلى الكنيسة لترى مراسيم الزفاف التي تحدث هناك ، فكانت تنظر إلى العروس وتحلم بأنها يوما ما هي أيضا سترتدي مثل هذا الثوب.....هل نسيت راحيل التي ضحت بملذات الحياة من أجل إخوتها ولم يشعر بها ذلك الشاب نهائيا ..... هناك ملايين الفتيات كل واحدة تنتظر فتى أحلامها ولكن ظروف هذا العصر المشؤوم يحاول أن يجعل من الرجل كائنا لا يهمه من المرأة سوى جسدها ، ليتركها هي تعتقد بأن حكايات فارس اﻷحلام الذي يأتي على فرسه اﻷبيض ليأخذها لتعيش معها في ثبات ونبات وليخلفوا صبيانا وبنات، هي حكايات خرافية لا مكان لها في الواقع. ....في هذا العصر الذي يمحي كل شيء جميل في قلوب النساء لتعتقد الفتاة أن أحلامها هي أحلام خيالية، أحلام فتاة بسيطة لا تفهم ما يحدث في الواقع، وأنه يجب عليها أن تفعل ما يفعله الرجل وتحذف عواطفها فالعواطف في أيامنا هذه هي علامات ضعف ......في هذا العصر الذي لم يعد فيه فرسان أحلام وهبك الله هذه المواهب والمميزات الحسنة ليس لتستخدمها لمصلحتك الشخصية ولكن لتساعد المرأة لتحافظ على حقيقة شعورها وشخصيتها لتبقى إمرأة جسدا وروحا كما أراد لله لها. ولتساعد أيضا الشباب أن يعلموا ما معنى فارس اﻷحلام وما هي صفاته التي تتمناه كل فتاة. . ليكون كل واحد منهم هو أيضا فارس أحلام حقيقي يرضي فتاة أحلامه التي تنتظره ليحملها على فرسه اﻷبيض ويعيشوا معا في ثبات ونبات وليخلفوا صبيانا وبنات.

مسرحية روميو وجوليت لوليم شكسبير والتي تدرس في مادة اﻷدب اﻹنكليزي والتي كتب عنها آلاف المقالات وتحولت إلى عدة أفلام سينمائية ، جميع المفكرين بحثوا فيها على أنها قصة حب ، ولكن شكسبير عندما كتبها ، روحه كفنان كانت تبحث كيف ستظهر قانون الخلق (العفة - السلام ) فخرجت أحداث المسرحية بذلك الشكل لتقول لروح المشاهد الحب العذري هو قاعدة السلام. بهذا العمل الفني وأعمال أخرى مشابهة خرجت الشعوب اﻷوروبية من ظلام العصور الوسطى لتعيش عصر جديد عصر النهضة ، لﻷسف اليوم يستخدمون هذه القصة ليضعوا فيها مشاهد إباحية لينقلب هدفها رأسا على عقب. ولتدخل الشعوب إلى عصر ظلامه أشد بكثير من ظلام عصور الوسطى.

خاطرة اليوم التي يظن القراء أنها عبارة عن قصة حب عاشها الكاتب لمدة أربع ساعات تقريبا ، هي في الحقيقة ليست قصة حب ولو كانت فقط قصة حب لما ذكرتها ولتركتها سر في قلبي لا يعلم به أحد. فهذه الحادثة ليست من عقلي ﻷبدع فيها كما أشاء، ولكن سطورها كتبها القدر نفسه ليعيشها إنسان وهب نفسه ليبحث في موضوع السلام والمحبة بين الشعوب ، فربما أنسى يوما ما وجه تلك الفتاة التي عشت معها هذه القصة ولكني لن أنسى أبدا وجه أختها الصغيرة راحيل ، هذه الطفلة الصغيرة كانت في روحي جوهر موضوع الحادثة بأكملها ، هذه الطفلة وكل طفلة في كل شعب من شعوب العالم كن بالنسبة لي هن نهاية التكوين.

بعد أشهر قليلة من هذه الحادثة خرجت من سوريا ﻷتابع أبحاثي في دولة غربية، خرجت وأنا أشعر بأن عائلتي هي اﻹنسانية بأكملها وجميع أطفال العالم هم أخوتي الصغار ، ووطني اﻷم ليس في هذه الكرة اﻷرضية ولا في هذا الكون وإنما هو في الجنة في مكان بعيد عن هذا الكون.